الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

معاداة السامية.. وهويّات أخرى

سمير العيطة *

أخذ موضوع «معاداة السامية» حيزاً واسعاً من نقاشات الانتخابات البرلمانيّة في فرنسا، بل ربما أكثر من البرامج الاقتصادية.

واللافت هو استخدام الإعلام والأحزاب السياسية هذا الموضوع بغية توجيه التهمة إلى تجمّع الأحزاب اليسارية في «الجبهة الشعبيّة الجديدة»، بل وأكثر بكثير من اليمين المتطرف وعلى رأسهم حزب «التجمع الوطني» الذي نشأ في كنف الاحتلال النازي. هذا بالرغم من التنازل الكبير الذي قدمه حزب «فرنسا الأبية» في البرنامج اليساري المشترك من زاوية إدانة «الأعمال الإرهابية» (والمقصود حماس) في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي والمطالبة فقط بوقف إطلاق النار في غزة، دون إدانة الاحتلال أو الاستيطان الإسرائيليين.

هكذا تمّت التغطية إعلامياً وسياسياً في فرنسا على جريمة الإبادة الجماعيّة التي ما زالت تُرتكب في غزّة والضفّة وتحضير الطريق لحزب «التجمع الوطني» لأغلبية برلمانية، مطلقة أو نسبيّة، ستأخذ فرنسا إلى المجهول. هذا في الوقت الذي يثير فيه هذا الحزب، هو ووسائل الإعلام، إشكاليات على حَمَلِة جنسيتين في البلاد دون ذكر الفرنسيين- الإسرائيليين الذين يقاتلون في غزة وغيرها.

هنا لا بدّ من التساؤل عمن أوصل فرنسا، بلد إعلان حقوق الإنسان، إلى هذا الدرك؟ أليست الأحزاب السياسيّة التقليديّة السابقة ورؤساء الجمهوريّة الثلاثة الأخيرين، وكلهم أثاروا الجماهير ضد الأشخاص اللاجئين والمقيمين الأجانب من الجنوب، وألغوا السياسة وفككوا الأحزاب التقليدية وانخرطوا في آليات تشبِه الآليات المتبعة في الولايات المتحدة حيث أصحاب رأس المال ومجموعات الضغط (وبينها خاصة الموالية الإسرائيليّة)، وتحكّمهم بالإعلام بحيث أضحوا هم السلطة الفعلية؟

  • •  •

الإشكالية مطروحة بطريقة مشابهة في بريطانيا. فرغم اكتساح حزب العمال للانتخابات الأخيرة مقابل المحافظين، انقسم حزب العمّال على خلفية تأييد نضالات أهل الجنوب، وخاصة القضية الفلسطينية. إلا أن التوزيع الانتخابي سمح لبعض المرشحين المستقلين الذين انفصلوا عن حزب العمّال بالفوز وحمل لواء الاعتراض على السياسات الحكومية، خاصة حول دعم إسرائيل وتسليحها. لكن هنا أيضاً سيبقى هذا الصوت ضعيفاً أمام استغلال «معاداة السامية» لكل من يندد بالجرائم الإسرائيلية أو بالتهجم على الأشخاص اللاجئين.

الوضع أسوأ في الولايات المتحدة، حيث يتنافس المرشحان، كما مكوّنا مجلسي النواب والشيوخ على من يدعم إسرائيل وسياساتها بشكل أقوى. هذا بانتظار أن يُلقي رئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي صدرت بحقه مذكرة اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية والذي طالبته محكمة العدل الدولية بوقف الحرب، كلمته أمام المجلسين.. هكذا وبكل صلافة.

  • •  •

هذا الحشد «الغربي» وراء إسرائيل والجرائم التي يرتكبها قادتها وجيشها غير مسبوق. وما الذي يقابله على مستوى البلدان العربية والمجاورة لفلسطين؟ انقسام حول الموقف تجاه معاناة ومقاومة الشعب الفلسطيني، وتهجمات، هي أيضاً غير مسبوقة، على الأشخاص اللاجئين والمقيمين.

هكذا لم تكتفِ بعض وسائل الإعلام في الخليج العربي، بالوقوف «على مسافة واحدة» بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، بل باتت تروّج أنّ المشكلة تكمُن في تصرّفات الفلسطينيين، أي في مقاومتهم للاحتلال. والقول أن المقاومة هي المسؤولة عن الإبادة التي يشهدها الفلسطينيّون والفلسطينيات، كمن يقول أن جيش التحرير الجزائري هو المسؤول عن أكثر من مليون شهيد بغية الحصول على الاستقلال من الاحتلال الاستيطاني. والمقصود هو كبح الأصوات التي تعّتبِر في بلاد العرب أيضاً بأن قضية فلسطين هي أيضاً قضيتهم، وأن لا معنى لبعض الحريات الفردية وللرخاء النسبي المكتسبيّن حديثاً دون حرية عامة. ولا معنى لمشاريع التعاون الاقتصادي الخلابة العابرة للبلدان دون حرية وسيادة الشعوب.

وفي حين برز التضامن الشعبي والإعلامي مع الشعب الفلسطيني واسعاً في تركيا، أثيرت فجأةً إشكالية اللاجئين واللاجئات من سوريا لتخطف الأذهان. صحيح أن أعداد هؤلاء اللاجئين كبيرة، خاصّة في المناطق الجنوبية الشرقية من البلاد، ولكنهم ليسوا وحدهم، فهناك لاجئون أفغان ومن بلاد مختلفة في آسيا. صحيح أن إشكالية هؤلاء اللاجئين ترتبط بالسياسات التركية منذ 2011 والتواجد العسكري التركي، كما الأمريكي، على أراضٍ خارجة عن إدارة الدولة السورية، ومصير هذه الأراضي وسكانها، وصحيح أيضاً أن لا أفق أمام هذا الوضع سوى تسوية تركية- سورية تسمح بعودة آمنة وكريمة للاجئين واللاجئات، تسوية لا مفرّ منها مع تراجع حزب العدالة والتنمية الانتخابي أمام أحزاب تريد هذه التسوية بشكل أسرع.

بالمقابل هنا، كما في الغرب، جاء استفزاز المشاعر على أساس «الأولوية الوطنية»، للمواطنين مقابل المهاجرين، «نحن» مقابل «الآخر»، ما بدّد كثيراً من مفاعيل التضامن الإنساني الذى ظهر في تركيا. والأسوأ أن انفلات التأثيرات الخارجية اللاعبة في مشاعر السوريين المقيمين في مناطق شمال غرب سوريا فاقمت الإشكالية. لكن يُمكِن التساؤل حقّاً إذا كان هذا التفاقم سيوقف التسوية التركية- السورية أم سيخلق وضعاً صعباً غير محتمَل على السوريين المقيمين في تركيا أو في مناطق الشمال؟

  • •  •

قد يبدو غريباً ربط هذه التطورات في بلدان مختلفة. لكن دلالاتها هي صعود قومية شوفينية في كثير من البلدان، بالضبط كما صعدت مثل هذه القوميّات الشوفينية بالتزامن مع أقسى فترات للاستعمار في نهايات القرن التاسع عشر. قوميّات تتمّ إثارتها حسب الطلب داخل المراكز الاستعمارية للتغاضي عن المشاكل الاقتصادية ولحشد الجماهير في المشروع الاستعماري. وقوميات أخرى تثار حيث يُمكِن تفكيك الدول في البلدان الأخرى، لتسهيل تقويض دولها. وقوميات أخرى تُحارَب بالدعاية والإعلام عبر إبراز إشكاليات هوياتها لتسهيل استعمارها. قوميات وهويات محفّزة وأخرى ممنوعة من الوجود.

هكذا يأتي ما يتم سماعه اليوم من خطابات مرشّحي حزب «التجمّع الوطني» في فرنسا من استعلاء بخصوص «قوميتهم» و«هويتهم» الفريدة مما يُذكّر بمرحلة ظنّها الجميع أنها تنتمي إلى مراحل زالت من تاريخ البشرية ومن تاريخ فرنسا. وما يتمّ سماعه من الوزراء الإسرائيليين حول الفلسطينيين غير مسبوق في تطرفه. وكأنه تعويض عن أن القومية الإسرائيلية قومية مختلَقة. في حين يُمنَع على الشعب الفلسطيني أن يجهر بقوميته. وينقسم الشعب السوري حول قوميّته. ويتشرذم العرب عمّا يجمعهم.

لعبة الاستعمار كانت دوماً استنهاض هويّة المركز وميزاتها وإلغاء هوية الآخر وشرذمتها. ومقاومة الاستعمار قامت دوماً على استنهاض الهوية الجامعة ونبذ الشرذمة، خاصة وأن كلفة مقاومة استعمار يملك القوة والمال والإعلام ومراكز أبحاث… كبيرة وقاسية.

* باحث اقتصادي سوري ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب

المصدر: الشروق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.