معقل زهور عدي
بتدمير الدولة العربية الأولى في بلاد الشام ( المملكة العربية السورية ) بعد معركة ميسلون ودخول الجيش الفرنسي دمشق فقدت القومية العربية شيئا كثيرا من زخمها السياسي , فالاحتلال الفرنسي وضع السوريين أمام مهام جديدة تتمثل في الاستقلال وتوحيد سورية ذاتها بعد أن قام بتقسيمها إلى دولة لبنان الكبير ودولة العلويين ودولة الدروز ودولة حلب ودولة دمشق ,لكنه وبدون قصد دفع الوطنية السورية نحو الأمام حين أجبر السوريون على مقاومة الاحتلال والتصدي لمحاولات تقسيم البلاد وسلخ لواء الاسكندرون .
أما القومية العربية فقد بقيت كهوية وانتماء ضروريين للجسر بين الانقسامات الطائفية مما شكل رافعة للوطنية السورية ذاتها , فالعلويون والدروز عرب يعتزون بنسبهم وثقافتهم العربية وفي حقل العروبة الرحب يلتقون مع السوريين الآخرين في الكفاح من أجل الاستقلال وتوحيد سورية .
لقد كان تقسيم سورية عملا مدروسا مسبقا ليس لاضعاف أية مقاومة ممكنة لسلطة الاحتلال الفرنسي فقط ولكن أيضا لإنهاء الحركة القومية العربية التي كانت تتطلع في العهد الفيصلي خارج حدود سايكس بيكو وتمد الحركات الوطنية في العراق وفلسطين بالدعم المادي والمعنوي مما يشكل تحديا لمشروع الهيمنة الغربي لكل من بريطانيا وفرنسا على حد سواء.
بانتهاء مرحلة الاحتلال الفرنسي وظهور الدولة السورية الثانية بعد ” المملكة العربية السورية ” يمكن ملاحظة التراجع الذي أصاب الفكرة القومية العربية في عهد الانتداب من الاسم الجديد الذي تم اعتماده ” الجمهورية السورية ” لكن سرعان مابدأت تظهر الأحزاب القومية العربية , كما بدأت القومية العربية تتحول بسرعة من حاملها الاجتماعي القديم ” الأرستقراطية السورية ” نحو حاملها الاجتماعي الجديد المتمثل في الطبقة الوسطى المدينية وطلائعها من المتعلمين وأصحاب المهن العليا .
تحول الحامل الاجتماعي للقومية العربية
منذ مطلع القرن العشرين كانت ” الأرستقراطية السورية ” الممثلة بطبقة كبار الملاكين للأراضي وكبار التجارهي الحامل الاجتماعي للقومية العربية , وقد ذكرنا في السابق كيف أن انهيار العلاقة التقليدية بين الارستقراطية الشامية وحكم الاتحاديين في استانبول ترافق مع توجه تلك الطبقة ذات الدور السياسي والاجتماعي المركزي في ذلك العصر نحوالقومية العربية من جهة ونحو الميل للتحالف مع الغرب الذي كان نفوذه يزداد مع ازدياد ضعف الدولة العثمانية وشيئا فشيئا بدأت تلك الطبقة تتوزع ضمن أجنحة سياسية ثلاثة , فجناحها الأكثر محافظة ظل يتمسك بالرابطة العثمانية حتى دخول جيش الشمال العربي لدمشق ويحاول جسر الخلاف مع الحكم الاتحادي وأشهر شخصيات ذلك الجناح هو محمد فوزي باشا العظم الذي عرف بمعارضته الشديدة لثورة الشريف حسين , لكنه انضم بعد ذلك للعهد الفيصلي وترأس أول مؤتمر سوري عام اعتبر كجمعية تأسيسية عام 1919 , وهناك أيضا الأمير شكيب أرسلان الذي عارض بشدة المؤتمر العربي الأول بباريس عام 1913 ورغم انتقاده لسياسة الحكم الاتحادي فقد كان يرى المحافظة على الرابطة العثمانية باعتبارها ” أهون الشرور ” وقد تضاءل التأثير السياسي لذلك الجناح بصورة كبيرة اعتبارا من العام 1918 لكنه لم يتلاش بصورة تامة خاصة في شمال سورية وفي حلب بوجه خاص .
الجناح الثاني الذي عرف بمهادنته للنفوذ الغربي ومحاولة نسج علاقة مصلحة متبادلة مع ذلك النفوذ بدلا من مواجهته كبديل عن العلاقة مع الدولة العثمانية التي لم تعد ذات فائدة خاصة بعد هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى وانسحاب قواتها من سورية وقد حاول ذلك الجناح في البداية الامساك بالعصا من الوسط بين القوميين العرب التواقين لبناء دولة مستقلة موحدة في بلاد الشام وبين القوى الغربية التي كانت قد فرغت من تقاسم النفوذ على تركة الدولة العثمانية في المشرق العربي وشرعت في تنفيذ مخططاتها المتفق عليها اعتبارا من تشرين أول 1918 حين دخلت قوات الجنرال البريطاني هنري هاينمان اللنبي دمشق مصطحبة معها جيش الشمال العربي بقيادة الأمير فيصل كغطاء يخفي حقيقة نوايا الغرب النهائية .
ظل ذلك الجناح من الأرستقراطية السورية يخفي ميله للحوارمع الدولة الفرنسية بعد أن اقتنع أنها هي الوارثة المتفق عليها لحكم سورية وأن لافائدة من معارضة السياسة الدولية حتى تصاعدت المواجهة السياسية بين الحركة الشعبية وقياداتها القومية وبين الأمير فيصل الذي توصل في العام 1919 إلى اتفاق مع رئيس الوزراء الفرنسي كليمنصو لتأمين تنفيذ الانتداب الفرنسي على سورية مع بقاء المملكة العربية السورية برئاسة فيصل لكن الحركة الشعبية السورية أسقطت ذلك الاتفاق , وفي خضم ذلك الصراع السياسي في دمشق برز الجناح المهادن للسياسة الفرنسية تجاه سورية حيث تشكل حزب للأعيان ” وهو الاسم التاريخي في ذلك الوقت للأرستقراطية السورية ” حاول تدعيم موقف الأمير فيصل من اتفاق فيصل – كليمنصو لكن دون جدوى .
كتب يوسف الحكيم في مذكراته ص87 : ” أثبتت الحوادث أن الأعيان بدمشق كانوا يفضلون الإنتداب الفرنسي على البريطاني بل على الإستقلال , لكنهم لم يجرؤوا على الجهر بآرائهم إلا بعد معركة ميسلون ومنهم : حقي العظم وجميل مردم بيك وحسني البرازي”
أما أسعد داغر في كتابه ” مذكراتي على هامش القضية العربية ” فكتب يقول : “هناك إشارة إلى أن إبعاد فيصل بعد معركة ميسلون ودخول الجيش الفرنسي دمشق جرى بناء على اقتراح من أعيان دمشق للقيادة الفرنسية لتصفية النفوذ البريطاني وإعلان سورية جمهورية كما جرى في لبنان , للمحافظة على هيكلية دولة مشابهة للدولة اللبنانية “
وأمام تلك الشهادات لشخصيات وازنة كان لها دور كبير في تلك المرحلة لايمكن القول إن اتهام الأرستقراطية السورية أو أحد أجنحتها في عقد صفقة سرية مع الدولة الفرنسية أمر لا أساس له .
هذا الجناح من الأرستقراطية السورية لم يعد معنيا بمسألة القومية العربية بقدر ما أصبح معنيا بتمتين علاقته مع الانتداب الفرنسي , ويمكن القول إنه استبدل بالقومية العربية التي أصبحت متعارضة مع سياسة الانتداب الفرنسي نوعا من وطنية ليبرالية مهادنة.
نأتي للجناح الثالث وهو الذي سمي بالشباب في العهد الفيصلي وهم أبناء الطبقة الأرستقراطية ذووا الثقافة العالية ومعظمهم تخرجوا إما من أفضل الكليات في استانبول المخصصة لتخريج الكوادر العليا للدولة أو من جامعاتفرنسا خاصة أوأوربة عموما وهم الذين اتجهوا للقومية العربية وشكلوا الجمعيات السرية والعلنية منذ العام 1909 ونظموا المؤتمر العربي الأول 1913 وواصلوا العمل السياسي القومي ودفعوا ثمن التزامهم الذي كاد يشبه الالتزام العقائدي ومنهم من سجن في عهد جمال باشا مثل شكري القوتلي وأحمد قدري ومنهم من أعدم مثل عبد الحميد الزهراي وعبد الغني العريسي وغيرهم ومنهم من اضطر للهرب مع دخول الفرنسيين دمشق عام 1920 والحكم عليه بالاعدام مثل هاشم الأتاسي وأحمد قدري وعبد الرحمن الشهبندر هذا الجناح من الأرستقراطية السورية انفصل سياسيا إلى حد كبيرعن الجناح المهادن لفرنسا الذي سبق الحديث عنه وأنشأ صلاته مع الطبقة الوسطى والطبقات الشعبية رغم أن القومية العربية لديه بدأت تختلط مع الوطنية السورية خاصة مع انحلال جمعية العربية الفتاة وانتقال معظم كوادرها للتوزع بين الاردن ومصر والعراق عقب الاحتلال الفرنسي لسورية .
يمكن القول إن جمعية العربية الفتاة وحزبها حزب الاستقلال كانت الحامل السياسي للقومية العربية حتى العام 1920 وإن حاملها الاجتماعي كان الجناح الراديكالي ضمن الأرستقراطية السورية متحالفا مع تيار شعبي تختلط لديه القومية مع الاسلام وتقوده الطبقة الوسطى المدينية وأبرز ممثليها الشيخ كامل القصاب رئيس لجنة الدفاع الوطني والخطيب المفوه الذي كان يسير المظاهرات في دمشق .
في عهد الانتداب الفرنسي شهدنا ذلك التجاذب السياسي بين جناحي الأرستقراطية الوطني الليبرالي المهادن للانتداب والوطني الراديكالي الذي وقف ضد الانتداب في كفاح متواصل مفضلا الكفاح السياسي السلمي في معظم الوقت وغير هياب من الانخراط في قيادة الكفاح المسلح كما في الثورة السورية الكبرى عام 1925 , وفي كل الأحوال كانت القيادة السياسية لاتخرج عن أجنحة الطبقة الأرستقراطية.
ذكر فيليب خوري في كتابه : ” سورية والانتداب الفرنسي ” الآتي حول البنية الطبقية للكتلة الوطنية وهي الكيان السياسي الأهم والأكثر شعبية خلال مرحلة الانتداب :
” تكشف الأصول الطبقية للكتلة الوطنية أن نحو ثلثي قادتها كانوا ينتمون إما إلى الشرائح مالكة الأراضي – البيروقراطية أو مالكة الأراضي المتعلمة من الطبقة العليا التقليدية في سورية وكان ربعهم ينتمي إلى عائلات تجار أثرياء أو متوسطين في حين جاء 10% منهم من طبقة الموظفين غير المالكين “
مع نهاية الانتداب الفرنسي وجدت الطبقة الأرستقراطية السورية نفسها أمام تحد غير مسبوق , فقد كان عليها إدارة الدولة ورسم سياساتها بدل الكفاح من أجل الاستقلال , وكان شبابها الذين أبلوا أحسن البلاء في العهد الفيصلي وفي الكفاح من أجل الاستقلال قد تقدموا في السن فقد كان متوسط الأعمار لأعضاء الكتلة الوطنية في دمشق وعددهم 25 حول الستين عاما عند الاستقلال عام 1946 , وكانت الحياة الصعبة التي شهدت عندهم السجون والمنافي والمواجهات السياسية قد أرهقت أجسادهم إلى هذا الحد أو ذاك , كما أن التطور الذي طرأ خلال تلك الفترة على تعليم الطبقة الوسطى المدينية دفع بطلائعها المتعلمة نحو السياسة بأعداد كبيرة غير معهودة سابقا , وأصبح هؤلاء يبحثون عن مكان لهم في صنع السياسة السورية في حين بدأت تضيق القاعدة الاجتماعية التي كانت تحيط بالطبقة الأرستقراطية , كل ذلك كان يسير نحو إضعاف الأرستقراطية السورية وتقليص نفوذها السياسي ودفع الأجنحة المحافظة فيها لانتزاع زمام المبادرة , مقابل صعود الطبقة الوسطى المدينية وبداية تشكل الأحزاب القومية في استعادة للفكرة القومية العربية التي حاصرها الانتداب الفرنسي ودفعها للتراجع في مرحلة سابقة .