فايز سارة *
ربما كان جيلنا أكثر الأجيال العربية التي عانت من كثافة الشعارات والغرق فيها. لأنها كانت محور حياتنا، ولم تكن محصورة بالجانب السياسي، بل شاركتنا في كل جوانب الحياة، لكن حضورها وانتشارها في المجال السياسي كان مميزًا، واستمد التميّز سنده من أهمية السياسة بوصفها علم وفن إدارة المجتمعات وفق التعبير المختصر، ومن الحيوية التي أحاطت بالعرب في بدايات القرن العشرين، وسعيهم النشط نحو مشروعهم في الاستقلال وتأسيس دولتهم الواحدة، ثم دولهم المتعددة بعد خروجهم من إطار السيطرة العثمانية الطويلة.
وسط الحالة الجديدة، تأسّست وتنامت ظاهرة الشعارات في الحياة العربية من أجل تحشيد الجمهور ودفعه نحو مهمات بناء الحياة الجديدة وما تطلبه من تغيير سياسي واقتصادي واجتماعي، عبّرت عن نفسها على الأقل في شكلين، الأول ثورات تحررية بمضامين سياسية واجتماعية وثقافية، أبرزها ثورات مصر وفلسطين والعراق وسوريا ما بين عامي 1919-1925، والثاني إطلاق عمليات تأسيس حديث للجماعات والتنظيمات السياسية والاجتماعية العربية، عبّرت السياسية منها عن جميع الاتجاهات الدينية والقومية العربية واليسارية إلى جانب تشكيلات “قُطرية”، تبنّت العمل في حدود البلدان المؤسسة، والتي كانت في طريق التأسيس.
وإذا كان لا بد من إشارة إلى العوامل المساعدة في نهوض الشعارات العربية، فإنّ الأبرز في تلك العوامل اثنان، أولهما داخلي أساسه ضعف البنية الثقافية العربية، التي لم تكن تساعد في طرح أفكار ونظريات وبرامج، وتعجز عن نقاشها من أجل تطوير الحياة العربية، والعامل الثاني حضور الشعارات في المحيط الإقليمي والدولي، واستخدامها في الصراعات البينية، التي أدت إلى حربين عالميّتين في النصف الأول من القرن، وكلها عززت انتشار الشعارات في الواقع العربي.
وسط معالم الواقع العربي وما يحيطه، ولدت الشعاراتية العربية في تعبيراتها الإسلامية ومنها شعار “الاسلام هو الحل” وقريبًا منه شعار الشيوعية “يا عمّال العالم اتّحدوا”، وكرّست القومية شعار “الوحدة العربية”، والذي تطوّر لاحقًا في الوسطين القومي البعثي والناصري إلى ثلاثية “الوحدة والحرية والاشتراكية” مع اختلاف في ترتيب الكلمات، وسط تشارك جماعات من اتجاهات مختلفة في شعارات تحرير فلسطين.
ولا يحتاج إلى تأكيد، أنّ الشعارات كانت صعبة التحقق في الواقع العربي لأسباب كثيرة بينها ضعف البنى العربية الاجتماعية والسياسية الحاملة، التي رفعت الشعارات، والتي كان مطلوب منها أن تخلق ظروفًا وآليات تحقيق الشعارات، على نحو ما كانت الأنشطة والسياسات تمضي بالشعارات في البلدان الأوروبية، حيث تتوفر البيئات الداعمة.
وباستثناء التقصير في التعامل مع الشعارات، فقد تم اختطاف شعارات أساسية من قبل العسكريين في بلدان عربية، خاضوا بها عملية تثقيل وزنهم ودورهم في الحياة العربية، وكان الأبرز في هذا الجانب قيادة انقلابات عسكرية للاستيلاء على السلطة في أغلب البلدان العربية بعد أن شهدت سوريا 1949 ومصر 1952 والعراق 1958 أول التجارب، واستخدم العسكريون شعارات الوحدة، وقاد عدد منهم تجارب وحدوية أولها الوحدة السورية- المصرية 1958، والتي انتهت بفشل ذريع عام 1961، وسقطت شعارات تحرير فلسطين في حرب عام 1967، وكان في طرفها العربي مصر وسوريا أهم نظامين عسكريين آنذاك، واستولت فيها إسرائيل على ما تبقى من أرض فلسطين وسيناء المصرية والجولان السوري، وفتحت نتائجها بوابات تحوّل عميق في الحياة العربية، سعت القوى الحاكمة ولا سيما ذات الخلفيات العسكرية في سوريا ومصر إلى تعطيله، والاستمرار على درب الشعارات دون القيام بأي إجراءات تحدث فرق بين ما قبل وبعد حرب حزيران 1967 في التعامل مع الشعارات، بل ذهبت القوى الحاكمة إلى صراعات داخلية أضعفتها أكثر، وقادتها إلى ما صارت إليه اليوم.
لا تكمن المشكلة في الشعارات. إذ هي فكرة طبيعية في الحياة، وطريقة سهلة لتحشيد المجتمعات أو قطاعات وفئات منها، وقد يكون استخدامها سبيل نجاح في قضايا ومجالات ومستويات كثيرة، إذا توفرت لها أسباب النجاح، منها الاستجابة لضرورات واحتياجات الواقع، وتوفر سبل التحقق، ولا سيما في أمور أساسية بينها، أن يكون أصحابها مؤمنين بها، ويضعونها في مقدمة أولوياتهم، وأن تتوفر لها مساندة اجتماعية وتنظيمية- إدارية، تدعم وتُطوّر الشعارات، وتغنيها بشروحات تجعلها أقرب للجمهور في استجابتها لمصالحه الراهنة والمستقبلية.
اليوم وبعد قرن من الشعارات العربية وتجربتها المرّة، ما زلنا نتابعها، وبعضها مستمر ولو بتعديلات طفيفة، لا تمنع الشعارات من الانتكاسة، وقد تحوّل بعضها إلى مهزلة، ومنها شعار “البعث” عن الأمة العربية وأهدافها في “الوحدة والحرية والاشتراكية”، وقد صار العراق وسوريا اللذان حكمهما في قائمة أسوأ البلدان في العالم، وتحوّل الطريق إلى القدس الذي أعلنه محور المقاومة تحت القيادة الإيرانية، التي فرضت من خلال ذراعها شللًا كليًا في لبنان، وأخرجت سوريا من دائرة الصراع، ودفعت إلى تدمير قطاع غزّة وتشريد سكانه، وما زلنا ننتظر الأسوأ، وهذه ليست سوى أمثلة يمكن التقاط عشرات، بل مئات منها في الواقع الراهن الذي يحتاج إلى سياسات مدروسة ومدققة وتحت التقييم والتعديل، وليس إطلاق شعارات غير مدروسة ولا تتصل بالواقع إلا لفظًا.
* كاتب سوري
المصدر: “عروبة 22“