(الحرية أولاً) ينشر حصرياً الكتاب المفقود «في الفكر السياسي» بجزئيه، للمفكرين “الأربعة الكبار”، وهذه الحلقة العاشرة من الجزء الثاني– بعنوان: (الاشتراكيون أمام تجربة الانفصال).. بقلم الدكتور “جمال الأتاسي”
2
الاشتراكيون أمام تجربة الانفصال
أيام حكم الوحدة، تحققت خطوات اقتصادية جديدة في هذا البلد، بدأت من توجيه الاقتصاد وتحديد الملكية الزراعية والإصلاح الزراعي، وانتهت إلى تعريب المصارف فتأميمُها وتأميم الشركات الاستثمارية الكبرى. إن السياسة العامة التي استندت إليها هذه الخطوات، لم تصدُر عن نظرية أو خطة كاملة مُعلنة من قبلْ بل قامت بسبب حاجة الدولة إلى الهيمنة على النشاط الاقتصادي بمختلف قطاعاته، بغية قيادة النمو الاقتصادي بوتيرة سريعة، بعد أن توقف- بل تراجع- نتيجة عجز البورجوازية عن السير في التنمية السريعة من جهة والشاملة لمختلف جوانب النشاط الاقتصادي من جهة أخرى. إن الطابع العام لهذا النهج الاقتصادي، إذا ما وقف عند هذا الحد، هو طابع رأسمالية الدولة. إلا أنه ليس يعنينا من هذا البحث، أن نعطي تسمية وعنواناً لحكم قام، أو لأسلوب من أساليب هذا الحكم، في التنهيج والعمل، بل الذي يهمنا، أن نكشف عن النتائج الفعلية التي ولدتها هذه الاجراءات من الناحيتين السلبية والايجابية، سواءً في رِدة الانفصال، أو في الدور الذي لعبته في انضاج الوعي الثوري في صفوف الجماهير، ومن ثم بحث مكان هذه الخطوات من المشروع الكامل، لتحرير الإنسان العربي.
إن الحكم الذي سار تلك الخطوات، أعطى لإجراءاته الاقتصادية صفة الثورية واسم الاشتراكية، من غير أن يجد نفسه ملزماً بتقديم أي تفسير علمي أو تبرير نظري، لهذه المسميات الكبيرة، وكأنه أراد من الشعب أن يثق بما في ضميره، أكثر من ثقته بما يفعل وما ينجز.
والسؤال الذي طُرح ذلك الحين من أكثر من جانب: ما هي هذه الاشتراكية التي لا تحميها طبقة عاملة ولا يراقبها حزب ثوري، ولا تُغذيها عقيدة متجانسة، ولا تقوم على خطة واضحة بعيدة المدى? ثم ما هو مدى التبصر في هذه الإجراءات، وهل جاءت في أوانها؟
ومهما تكن الأجوبة سلبية، فإن جماهير شعبنا قد أعطت لتلك المنجزات الاقتصادية مكانها التقدمي في قضيتها، فأسمتها مكتسبات. وشعار الحفاظ على هذه المكتسبات (مكتسبات الفلاحين في الإصلاح الزراعي ومكتسبات العمال في التأميمات) من الشعارات التي طرحها العمال والفلاحون، وطرحتها الفئات المتقدمة في سورية بعد الانفصال، أما البورجوازيون الذين يطّـلُوون أفكارهم بقشرة من الاشتراكية المصطنعة الكاذبة، فقد وجدوا في تلك الإجراءات شيئاً أكثر من اشتراكيتهم، وأكثر من المطالب التي تتوقف عندها حدود عدالتهم وإنسانيتهم. وأما الاشتراكيون الثوريون، فقد وقفوا بين مؤيد ومتردد وناقد، تجاه تلك الخطوات التي تهبط من فوق مُغّفلة مقاومات الواقع، متناسية الصراع الطبقي، ساهية عن نفوذ البورجوازية الكبير في أجهزة الحكم، وقدرتها على التعطيل والتخريب. وهم، على الرغم من الضربات الجريئة القاصمة التي وجهتها تلك الإجراءات للإقطاع وللرأسمالية الكبيرة، ما كانوا يتفاءلون كثيراً بالمستقبل الاشتراكي لتلك الخطوات الاقتصادية واعتبروها مغامرة خطيرة، مهددة بالفشل وبالانتكاس، فالقوى التي تتحرك ضدها قوية وضالعة بالتآمر مع الرجعية العربية ومع الرأسمالية العالمية والاستعمار، وحكم الفرد قد ربط هذه التجربة كما ربط كيان الدولة كلها بنفسه، وكل فشل هذا الحكم سيُهدد كيان الدولة بالانفصال، والتحويل الاشتراكي بالانحراف أو الانتكاس، لأن ذلك الحكم لم يكّفل لتجربته أية ضمانة أو حماية في القاعدة الشعبية، وهو حين أعلن إجراءات التأميم، أوكلَ إلى أجهزته الانتهازية، وإلى بيروقراطيته المتخاذلة، أمر تنفيذها، بدل أن يكون الشعب بأجهزته الثورية المؤمنة، بطلائع عماله وفلاحيه ومثقفيه التقدمين، حامي هذه التجربة، والمنفذ والمطور لها. إن ذلك الحكم، لم يعمل شيئاً في سبيل تنمية القوى الثورية وتنظيمها وتعبئتها، بل إن هذه القوى كانت مُطوقة ومعزولة، نتيجة لسياسة ذلك الحكم، ولإجراءات أجهزته التي عملت على تفكيك القوى الشعبية وبعثرتها وتعطيل إرادتها وإلغاء إشرافها ومساهمتها.
وجاءت مؤامرة الانفصال، وجاء الحكم الرجعي الذي أعقبها، مِصداقاً لجميع تلك الشكوك. لقد نَفَذتْ تلك المؤامرة التي كان بعض خيوطها مكشوفاً منذ البداية، ولكنها باغتت الشعب، ووقف أمامها حائراً وكأنما هو مغلول، فلم يبادر بقواه المنظمة للدفاع عن وحدة كيان الدولة التي أقامها، لتبقى ولتنمو وتتجاوز نفسها نحو وحدة أكبر وأشمل. فأخطاء الحكم، وأساليب الأجهزة البوليسية والإدارية لهذا الحكم، كانت قد فككت تلك القوى، فقامت تتخبط على غير هدى.
إذاً فنحن نستطيع أن نضع بين العوامل الأساسية التي هيأت الجو لمؤامرة الانفصال، أخطاء الحكم أيام الوحدة، ولكننا نخدع أنفسنا ونخدع شعبنا، إذا نحن لم ننظر إلى ضربة الانفصال في مقوماتها الحقيقية وفي عواملها المختلفة، وإذا نحن لم نقرر بشكل صريح واضح، أنها مؤامرة تحالفت فيها القوى الرجعية والاستعمار، لتوجيه ضربة للاتجاه الوحدوي التقدمي في الوطن العربي، عن طريق الإجهاز على كيان أول دولة موحدة أقامها العرب في تاريخهم الحديث. أما الدافع المباشر، والمحرك الأول للعناصر الرأسمالية والرجعية، كأحد عناصر التآمر، فقد كانت تلك الإجراءات الاقتصادية التي بدأ الحكم بتنفيذها. هذه القوى الرجعية والاستغلالية، كانت ترى من قبل أن تقوم الوحدة، أن سير التطور ليس في صالحها، فيقظة النضال الشعبي، أخذت تُشكل تهديداً مباشراً لها، فمشت راضخة نحو الوحدة، آملة أن تجد في حكم الفرد، وفي تعاملها مع هذا الحكم، ما ينقذ مصالحها التي كان يهددها، ضغط التيار الشعبي الصاعد. إن القوى الرجعية التي أخذت تصّرخ بعد الانفصال بشعارات كاذبة عن الديمقراطية والحرية ومحاربة الدكتاتورية والاستبداد، هي ذاتها التي كانت أيام الوحدة تضغط على الحكم، وتُشجعه على التسلط والاستبداد، وتغريه بضرب القوى الشعبية التقدمية، ثم ما لبثت أن انقلبت ضد ذلك الحكم، لا لما فيه من قسر واستبداد بل لما فيه من احتمالات اشتراكية، ولأنه أخذ يُهدد تهديداً صريحاً مصالحها الاستغلالية.
إن التضامن الطبقي الاستغلالي بين قوى الرجعية، وتدخل الدولة في الاقتصاد بشكل زعزع التوازن الذي كانت تسيطر فيه قوة البورجوازية الرأسمالية، والتبديل الذي تناول المُلكية الزراعية وأخذ يتناول ملكية وسائل الانتاج الصناعي، وخوف رأس المال العميل، هذه هي العوامل التي جاءت قوى التآمر تحبك منها عرى الانفصال. ويحق لنا هنا أن نسأل أولئك الذي يقولون «بالبنى الفوقية» الملحقة بالبنيان الاقتصادي للمجتمع، الذين يقولون بالمنطق الدياليكتيكي والصراع الطبقي، كيف يبررون لأنفسهم التنكر لهذا المنطق، عندما يُحللون تجربة الوحدة وعملية الانفصال؟ لقد ساروا في حملة التهويش وإثارة الانفعالات السطحية التي كانت من مآخذهم الأولى على ذلك الحكم، وهم قد أغرقوا الشعب في متاهات الدعايات والتهويش، بدلاً من أن يفتحوا وعيه على طبيعة الصراع العميق القائم في المجتمع.
والذين يدعون اليسارية وتمثيل اليسار، نريد أن نسألهم أين أصبح اليسار خلال عهد الانفصال؟
وهذه الشعارات التي يرفعها اليوم العمال والفلاحون في غالبيتهم الساحقة، أو ليست دليلاً كافياً على أن الذين يدعون تمثيل اليسار في هذا البلد، قد أصبحوا هم أنفسهم من «التكوينات الفوقية» المعزولة عن الشعب، العاجزة عن التجاوب معه وعن أن تكون القدوة التي يقتدي بها، والوعي الذي يستنير بهديه؟ بل لقد أصبحوا فوق ذلك، أداة تضليل للشعب، تحاول صرفه عن معركته الحقيقة ضد الرجعية والرأسمالية والاستعمار، إلى معارك جانبية مصطنعة، وتطلب منه أن يتوحد في صف أعدائه ومستغليه، تحت شعارات مرحلية لا يرى فيها الشعب غير الاصطناع والتلفيق.
لننظر إلى حركة الانفصال وهي مكشوفة الجوانب، بعد أن أدانت نفسها بالنتائج التي ولدّتها. قد يستطيع المثاليون الذين يُحلقون بعيداً عن دنيا الواقع والصراع، أن يروا فيها ثورة للكرامة الشخصية ضد المهانة، ولكن الانفصال كان في جميع فصوله ومراحله، مؤامرة محبوكة الحلقات، أسهم فيها أكثر من طرف، وكان آخرهم أولئك الذين حركتهم «الكرامة الشخصية» و«الكرامة الإقليمية». فالبورجوازية السورية الكبيرة، التي تعمل برساميلها واحتكاراتها كعميلة للاستعمار الرأسمالي وللاحتكارات والاستثمارات العالمية، والقوى الرجعية تضافرت جهودها في المشرق العربي مع الاستعمار؛ تلك هي القوى التي هيأت «الفراش» لفُـرقاء الانفصال.
وبعد أن فُضحت بعض فصول هذه المؤامرة، وكُشف عن بعضٍ من مصادر التمويل والخيانة، نستطيع أن نجزم أن الانفصال، لم يكن معركة كسبتها الديمقراطية ضد الدكتاتورية، ولم تكن معركة كسبتها الحرية ضد الاستبداد كما تحاول بعض الدعايات تصويرها، بل هي معركة كسبها الانفصال ضد الوحدة، وكسبتها الرأسمالية العميلة ضد وضع كان قد وَجه لها ضربات قاصمة، وكسِبها الاستعمار ليعزز دعائم الرجعية العربية. فدكتاتورية الأجهزة بقيت قائمة بعد الانفصال وبقيت السلطات الانفصالية تمارس الاستبداد بشكليه السافر والخفي، وظلت الحرية وعداً، يتآمر عليها الذين ينادون بها. ولكن حادث الانفصال وما تلاه من أوضاع، كان كشّفاً ثميناً للشعب، لقد عرَفه بشكل تجريبي ولو أن الشعب هو الذي دفع الثمن، وشخّصَ له المخاطر الكبرى التي يحملها الحكم الفردي وكل حكم لا تكون ضمانته الشعب نفسه، بقواه الواعية المنظمة، ولا ينبثق عن الشعب ولا تراقبه وترعاه وتُسيره جماهير الشعب. ولقد كشفت له هذه التجربة أيضاً أعدائه الحقيقيين، وعن الاستبداد الأساسي القائم في طبيعة تكوين القوى الاقطاعية والرأسمالية والرجعية، وعن مقومات هذه القوى ووسائلها وارتباطاتها. لقد كان من أخطاء حكم الفرد، أنه توهم وجود إمكانية للتعايش السلمي بين جميع الطبقات، وأغفل وجود الصراع الطبقي، وأغمض عين الطبقات الشعبية عن أعدائها.
وجاء الانفصال فأسقط جميع الحُجب والأقنعة، وواجه الشعب أعداءه مكشوف الظهر، مُفتت القوى.
لقد كان الشعب خاسراً في جميع المعارك التي تلت الانفصال، ولكنها خسائر موقتة عارضة، كان لا بد منها ليتعرف إلى واقع الاشياء، وإلى طبعة العنف الذي يمارس ضده، ليختار هو في النهاية طريق النضال وطريق الاشتراكية الثورية.
إن معركة الوحدة والانفصال، هي أعمق بكثير من القضايا المباشرة التي تدور من حولها هذه المعركة. ولا شك أن التزييف يتناول هذا الشعار (شعار الوحدة) من أكثر من جانب. وأن مستوى المهاترات والدعايات والإثارات الدائمة، الذي تُنقل إلى صعيده هذه المعركة لم يُقصد منه إلا تضييع القضية وصرف الشعب عنها.
ونحن هنا لا نرمي إلى أكثر من الدعوة إلى التبصر، وإلى تحليل الوقائع بمنطق اشتراكي جذري. والاشتراكية كمطلب أساسي من مطاليب شعبنا لا يمكن فهمها وتحليلها بمعزل عن الوضع الذي نعيش فيه والمرحلة التي نمر بها.
إن الاشتراكية ليست مجرد نظرية أو نظام، كما وأنها ليست شيئاً محتوماً يأتي في نهاية طريق وفي نتيجة تطور، بل هي حصيلة نضال طويل، يبدأ من وعي الإنسان المظلوم المستَغَل، لواقع الاستغلال والظلم، ويصعد به صعوداً شاقاً إلى المطالب الاشتراكية الشاملة. ولا بد لمن ينخرط في النضال من أجل الاشتراكية ولمن يؤمن بالثورة وبالتحرر الكلي للإنسان، لا بد له من البدء باستقصاء الواقع ومن التعرف إلى طبيعة الصراع القائم بين البشر، هذا الصراع الذي يولد حركة التاريخ والتقدم.
ولكننا إذ نجد أنفسنا أمام تشويهات كبيرة للشعارات والأفكار، وإذ نواجه تهديدات هائلة للقوى الاشتراكية الثورية، تُهدد مكاسبها وتهدد مطامحها.. لذا لا بد لنا من أن نبدأ بوضع شيء من التنظيم في أفكارنا، من أن نبدأ يبحث البديهيات النظرية للاشتراكية، وإيضاح أداة النضال الاشتراكي وضمانات الاشتراكية، لعلنا نستطيع بعد ذلك أن نكشف على ضوء الوقائع، ومن خلال المعاناة والصراع، الطريق التي يسير عليها نضال شعبنا العربي نحو الاشتراكية .
……………………………..
يتبع.. الحلقة الحادية عشرة بعنوان: (المكاسب الاشتراكية وشعارات النضال).. بقلم الدكتور “جمال الأتاسي”