الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

نحن والعالم والمناظرة الأميركية!

عبد الله السناوي *

«جو بايدن احترق تمامًا».. كان ذلك تلخيصاً نشرته صحيفة «بوليتيكو» الأمريكية منقولًا عن عضو بارز في الحزب الديمقراطي للصورة الكارثية التي بدا عليها الرئيس الحالي في المناظرة المُبكرة مع خصمه اللدود الرئيس السابق «دونالد ترامب».

لم يكن «بايدن» قادرًا صحيًا وذهنيًا على إقناع غالبية الأمريكيين بقدرته على قيادة البلاد لفترة رئاسية ثانية يبلغ عمره عند نهايتها (86) عامًا.

بدت عليه علامات الوَهَن وغابت عنه في بعض الأوقات قدرته على التذكُر والتدفق، حتى إنه لم يتمكن من أن يستخدم حقه في الوقت المخصص له لشرح برنامجه الانتخابي أو إحراج منافسه.

تحدث «بايدن» لـ(35) دقيقة فيما تمكن الطرف الآخر في المناظرة من الحديث لـ(40) دقيقة بفارق (5) دقائق كاملة.

عُقبَ المناظرة، التي أدارتها محطة «سي. إن. إن»، الأمّيل إلى المعسكر الديمقراطي أوضح استطلاع رأي أجرته أن (67%) رأوا أن «ترامب» قد ربحها.

لم يكن «ترامب» مقنعًا بقدر ما كان «بايدن» سيئًا.

كانت الصدمة مدوية داخل الحزب الديمقراطي كأن الانتخابات قد حُسمت من الجولة الأولى.

اعترفت نائبة الرئيس «كاميلا هاريس» بحجم الصدمة وأثارها السلبية، لكنها عزت الصورة التي بدا عليها في بداية المناظرة إلى نزلة برد ألمت به!

إذا افترضنا أن «ترامب» قد نجح في العودة إلى البيت الأبيض فإنه سوف يصل عمره عند نهاية الفترة الرئاسية إلى (82) عامًا، لكنه بدا أثناء المناظرة أكثر انضباطًا مما هو منتظر وأكثر تدفقًا في إجاباته قياسًا على خصمه.

إننا أمام وضع غير مسبوق في أية انتخابات أمريكية، رئيسان حالي وسابق متقدمان في العمر ينسب كل منهما إلى الآخر أنه أسوأ رئيس في التاريخ.

مشكلة العالم مع أمريكا أنها حاضرة في كل أزمة وصراع وحرب كالملح في كل طعام.

بأي نظر واعتبار لا يمكن تجاهل الأدوار الأمريكية في الصراع على مصائر الإقليم الذي نعيش فيه وتشتعل النيران في جنباته ولا على الرسائل المبكرة للانتخابات الأمريكية الوشيكة.

في المناظرة تسابقَ الرجلان بدرجتين مختلفتين في الانحياز إلى إسرائيل.

بدا «ترامب» أكثر استعدادًا لدعم العمليات العسكرية الإسرائيلية حتى تحقق كامل أهدافها في الحرب على غزة دون نظر إلى العواقب المروعة التي تلحق بالمدنيين الفلسطينيين من إبادة جماعية وتجويع منهجي.

كلاهما تجاهل الاحتجاجات التي عمت المدن الكبرى وجامعات النخبة الأمريكية تضامنًا مع عدالة القضية الفلسطينية، كأنها لم تكن.

وكلاهما أكد إنهاء حماس.

بعدوانية مفرطة ضد كل ما هو إنساني وعادل وصف «ترامب» خصمه الانتخابي بـ«الفلسطينى السيء والضعيف في التعامل مع إسرائيل».

تهربَ من الإجابة عن سؤال «حل الدولتين»، قائلًا: «إنه سوف يُفكر ما إذا كان يمكن له أن يوافق على إنشاء دولة فلسطينية».

لم تكن عند «ترامب» أية تصورات لليوم التالي باستثناء الدعم المطلق لحكومة بنيامين نتنياهو الأكثر يمينية وعنصرية في تاريخ الدولة العبرية.

إنه مشروع تقويض كامل لحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم بأنفسهم.

بصياغة أخرى، إنه مشروع صدام آخر يلوح في الأفق المسدود.

بالمخالفة للحقيقة أعفى «بايدن» إسرائيل من مسؤولية إجهاض خطته لوقف إطلاق النار في غزة وتبادل الأسرى والرهائن.

حمّل المسؤولية لـ«حماس» وحدها، لكنه أردف: «ما زلنا نضغط عليها لتقبل الخطة المقترحة».

«ينبغي على إسرائيل أن تكون حذرة في استخدم القنابل الثقيلة في المناطق المأهولة».

كان ذلك الحد الأقصى الذي وصل إليه في الحديث عن جرائم الحرب المروعة التي تُرتكب في غزة.

في موضع آخر، قال: «نحن دولة تحافظ على كلمتها».

هذا الادعاء يصعب تصديقه بالنظر إلى الضعف والاهتزاز، الذي تعانيه السياسة الأمريكية في إدارة الحرب على غزة أمام أكثر الحكومات الإسرائيلية يمينية وعنصرية.

تبدو الفوارق بين «بايدن» و«ترامب» في القضية الفلسطينية، كما لو كانت خياراً بين السيء والأسوأ.

كان مستلفتًا إشارة «بايدن» للدور، الذي لعبته القوات الأمريكية في حماية إسرائيل من الصواريخ والمسيرات الإيرانية.

بدت المساحات ضيقة في المسألة الإيرانية.

في الحالة الأوكرانية اتسعت الفوارق بصورة كبيرة.

«لو كان لدينا رئيس يحترمه العالم لما جرت الحرب الأوكرانية ولا جرى إهدار الأموال فيها».

استغرق النزيف الاقتصادي مداخلة «ترامب» لاجتذاب قطاعات واسعة من الرأي العام الأمريكي، لكنه أكد بنفس الوقت عدم استعداده لتقبل شروط «بوتين» تجنبًا لأية شبهات تحاصره في ذلك الملف.

بدا أكثر تحديدًا في توصيف موقفه من الحرب الأوكرانية، واصفًا السياسات العسكرية لـ«بايدن» بأنها «خرقاء».. «وقد تقود العالم إلى حرب عالمية ثالثة».

بالمقابل حاول «بايدن» أن يشرح سياسته باعتبارها دفاعًا عن العالم الحر، وإنه إذا كان قد صمتَ على الغزو الروسي لأوكرانيا فإنه سوف يتمدد إلى دول أوروبية أخرى.

أخذ صِدام المواقف مداه فيما يتعلق بمستقبل حلف «الناتو».

عاد «ترامب» إلى مقولاته القديمة التي تقلل من أهمية الحلف فيما وصفها «بايدن» بأنها عبثية مشيرًا إلى أن (50) دولة أيدت موقفه في هذه الحرب.

مستقبل «الناتو» قضية تُقلق أوروبا وتطرح تساؤلات جدية عن مستقبل الأمن فيها.

تمويل الحرب سوف ينخفض باليقين مع الصعود المرجح لـ«ترامب» والتسليم بالهزيمة مسألة وقت.

على مدى الساعة ونصف الساعة تحدث كلاهما عن إنجازاته في فترة ولايته، والماضي غلبَ المستقبل.

المناظرة تطرقت إلى الملفات الداخلية، التي تشغل أولويات الأمريكيين وتعبر عن الخلافات التقليدية بين الجمهوريين والديمقراطيين كالإجهاض والضرائب والتضامن الاجتماعي والتأمين الصحي وعجز الموازنة وأوضاع السود والأقليات.

بإلحاح بالغ طرح سؤال الديمقراطية الأمريكية ومستقبلها على خلفية الدور الذي لعبه «ترامب» في التحريض على اقتحام مبنى «الكابيتول»، لمنع إعلان فوز «بايدن» بالانتخابات الرئاسية الأخيرة.

رفض «ترامب» إبداء أدنى استعداد لتقبل نتائج الانتخابات الرئاسية المقبلة «إذا لم تكن نزيهة وعادلة»، كأنه يقول مجددًا: «أنا أو الفوضى»!

* كاتب صحفي مصري

المصدر: الشروق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.