الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

احتراق الثقافة

الياس خوري *

يحيرني سلمان رشدي، رغم أن الوقت ليس وقته ولا مكان له في الأجندة الفعلية التي تدور في الشرق الأوسط.

لكن هذا المزيج بين الذكاء والتذاكي يزعجني لأنه يجعلني عاجزاً عن فهم الأمور وتصنيفها.

كيف انقلب هذا اليساري إلى أحد دعاة اليمين؟

سلمان رشدي ليس أول من انقلب ولن يكون آخرهم. فالزمن انقلب، والقيم تدحرجت والأخلاق انهارت، فرأينا أعداداً كبرى من المثقفين يهجرون نصوصاً كتبوها كي يلتحقوا بركب اليمين الصاعد.

كيف يستطيع مثقف أمريكي أو بريطاني أن يهاجم حركة الطلاب التي اندفعت لتأييده حين ألمت به مصيبة التحريم ووجد نفسه وحيداً؟

الخيار كان بين الشجاعة والأخلاق من جهة، والالتحاق بالسلطة من جهة أخرى.

ما فعله سلمان رشدي في انقلابه المتدحرج نحو تأييد إسرائيل كان الانحياز للسلطة، والتخلي عن رفاقه القدماء لأنهم ما عادوا ينفعونه شخصياً.

هل هذا الخيار كان مختبئاً في شخصية الرجل، أم أنه نبع فجأة؟

لا أؤمن بأفكار تنبع فجأة. فالرجل البرجوازي عاد إلى أصوله وانتفض ضد فلسطين كي يحمي نفسه من الخطر الصهيوني. فسقط في الخطيئة التي لا مخرج منها.

هل يمكن مقارنة «طالبان» بالمقاومين الفلسطينيين في غزة؟

هل يمكن مقارنة من يقاتل منذ ثمانية أشهر وظهرهم إلى الحائط وجثثهم مرمية في الشوارع، بعصابات المجرمين التي اقتاتت على الإسلام لكنها ليست سوى أداة قتل وتدمير وموت؟

غير أن رشدي وأضرابه من المثقفين لا يأبهون لمثل هذه الأسئلة، فهم مشغولون بلعبة المال والسلطة والنجومية. وكل ما عدا ذلك، لا قيمة له.

لذا، انقلبوا بخفة وخلعوا ثيابهم القديمة ليجدوا أنفسهم عراة ومكروهين ولا أحبة لهم سوى الحكومات الدكتاتورية في الغرب.

لقد فضحت إسرائيل الديمقراطية الغربية عندما نزعت منها آخر ما يستر عنصريتها، فخرجت عارية لا تحمل في يديها سوى القنابل ولا تعد سوى بالدم.

انظروا إلى الطلاب في أميركا، فستجدون صوركم عندما كنتم أنقياء وشجعاناً وتحملون المبادئ على أكتافكم.

وانظروا الآن إلى قبحكم عندما أصبحتم جزءاً من السلطة والنفوذ والمال.

غريب، كيف يفعل الإنسان بنفسه هكذا؛ يذهب إلى القباحة طائعاً وهو الذي كان يعلمنا أن لعنة التاريخ لا ترحم!

في رفح، حيث دارت المحرقة، يتجسد معنى الكلمات التي احترقت هي أيضاً مع الناس الذين اشتعلت فيهم النار.

النار اشتعلت في الكلمات قبل أن تشتعل في أجساد الضحايا. وفي عيد الشعلة، أحد الأعياد الدينية اليهودية الذي تزامن مع مجزرة رفح، احتفل الاحتلال وأبواقه على وسائل التواصل الاجتماعي بإشعال جثث الأطفال الذين أخرجوا من الخيام بلا رؤوس.

في كل يوم أسأل نفسي سؤال إدوارد سعيد عن الحدود في لعب دور الضحية، ويصفعني جواب التكرار الممل الذي قامت إسرائيل عبره بتحطيم فكرة الضحية من أساسها.

واختاروا كعادتهم الجديدة، عيداً دينياً ليبصموه بالإبادة والدم. ثم يقف نتنياهو مدافعاً عن جريمة جنوده بادعائه أنه سيحقق في الجريمة.

هذه البشاعة المطلقة لا تلائم سوى الفاشية والقوى الاستعمارية.

ما دفع السيد بايدن لاستخدام أحد شعارات التضامن مع الإبادة في غزة «كل العيون على رفح» وتحويله إلى شعار حملته الانتخابية: «كل العيون على هذه الحملة الانتخابية». فالأمريكي الأبيض لا يزال يعيش في أوهام مركزيته وسيطرته على العالم، متناسياً أن غزة اليوم هي قلب العالم، والإشارات التي تصدر منها هي علامات التغيير. والبوادر الأولى لهذا التغيير نراها جميعا في الولايات المتحدة نفسها التي يطمح بايدن لترؤسها من جديد.

بعد أن اعترفت إسبانيا والنرويج وأيرلندا بدولة فلسطين المستقلة، ضاق الخناق على إسرائيل، وسيكتشف الإسرائيليون أنهم دخلوا في مجاهل الأنفاق التي حفرها فدائيو غزة لاستقبالهم.

في إسبانيا ترتفع صورة غارثيا لوركا، لتتحدى العالم معلنة أن النصر صبر ساعة، وأن الساعة قد تمتد إلى سنوات طويلة.

لكن في النهاية، سوف يعود لوركا إلى أرضه ويكتب لنا أغنياته ويمسك بذراع محمود درويش ليمشيا معاً إلى غرناطة والقدس وحيفا التي تنتفض اليوم.

ماذا يستطيع الإسرائيليون فعله إذا ما أرادوا تعطيل لقاء درويش- لوركا، ورحلتهما المشتركة إلى الأفق الجديد الذي يفتحانه بقصائدهما؟

هل سيرسلون رئيس الموساد السابق يوسي كوهين مهدداً كما فعل مع المدعية العامة السابقة في المحكمة الجنائية الدولية “فاتو بنسودا”؟

* كاتب وروائي لبناني

المصدر: القدس العربي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.