تزداد هذه الأيام نغمة سمعناها مراراً، أن “الصراع” القائم بين الإسرائيليين والفلسطينيين لا يخصّ الدول أو الشعوب العربية، بل تدفع الشعوب العربية ثمن عدم جنوح الفلسطينيين إلى “السلام”. وهذه ليست مقولة خاطئة فقط، بل تستعملها إسرائيل وأميركا لدمج هيمنة إسرائيل وتثبيتها في المنطقة.
بدايةً، لا يوجد صراع “إسرائيلي – فلسطيني”، وإنما يوجد مشروع استيطاني إحلالي عنصري مدعوم بقوة من الدول الاستعمارية الغربية ينفذ علناً خطّة إنهاء الشعب الفلسطيني وهويته العربية بصفته الشعب الأصيل في فلسطين.
المشروع الصهيوني، منذ بدء تنفيذه منذ قرنين، كان خطراً على العرب، فتهويد الأرض وانتزاع ملكيتها وجلب مستوطنين من أوروبا “بصفتهم يهوداً” لم يستهدف فلسطين فحسب. مثالاً، ما ثبته حراك الأردنيين منذ المؤتمر الوطني الأردني الأول عام 1928 برئاسة حسين باشا الطراونة، ورفضهم مخطّطات اقتلاع الشعب الفلسطيني، ومشاركاتهم في النضال ضد الاستيطان اليهودي في مختلف الثورات في فلسطين قبل النكبة، لقناعتهم أن التهديد الصهيوني لا يستهدف فلسطين فقط.
فالشعوب العربية حينها كانت تعي من تجربتها النضالية معنى الاستعمار الذي كانت تكافح للتحرّر منه، ولم يقصر ذلك على المفكّرين؛ فمن شاهد ما يحدث في فلسطين رأى مشروعاً استعمارياً جديداً يريد تغيير قلب العالم العربي وإلغاء هوية الأرض ليعيد كتابة تاريخ المنطقة بما يناسب طموحه وأهداف القوى الغربية التي تدعمه.
هنا لا بد من التأكيد أن الشعب الفلسطيني ليس أفضل من غيره أو أسوأ، ولا أولوية لوجعه على وجع بقية الشعوب العربية، لكن فهم القضية الفلسطينية بوصفها جذر الصراع في المنطقة يعني الوعي بأن إخضاع الشعوب العربية يأتي عن طريق تشريد الشعب الفلسطيني، وإبادة جزء منه، وكما يحدُث حالياً في قطاع غزّة، ومحو وجوده شعباً في فلسطين.
لا مفاضلة بين معاناة الشعوب العربية من الاستبداد أو الغزو العسكري وبين صرخات الشعب الفلسطيني، فما حدث في العراق وسورية مهول، وما يجري في السودان ليس أقل وجعاً أو أهمية مما يحدث في فلسطين، فترديد مقولة إن الشعوب العربية ضحية لصراع ليس لها فيه مصلحة أو علاقة مردودٌ على قائليه، والعكس صحيح؛ فما يؤذي الشعوب العربية في أوطانها يؤذي الجميع، وإلا فماذا يعني احتلال الجيش الصهيوني باقي أراضي الوطن الفلسطيني وهضبة الجولان السورية، وصحراء سيناء المصرية، إلى اجتياح لبنان وحصار بيروت واحتلال جزء من جنوب لبنان إلى الغزو الأميركي واحتلال العراق؟ هي أحداث أضعفت واقعنا وسرقت منا طموحات في مستقبل أفضل. … فسقوط بغداد تحت الاحتلال الأميركي عام 2003 نقطة فارقة؛ كان هدف أميركا إشعارنا بهزيمتنا وضعفنا وأن “البسطار” الأميركي هو الحاكم الفعلي للمنطقة وشعوبها، بما يعنيه ذلك من نصرة لإسرائيل وضرب لميزان القوى لمصلحة إسرائيل وسيطرتها. تهديدات إسرائيل بتدمير لبنان وإرجاعه “إلى العصر الحجري” وفقاً لوزير الدفاع الإسرائيلي، غالانت، هو إيغال في تعذيب الشعوب وتركيعها.
وبغضّ النظر عن نقدنا إيران وسعيها إلى بسط نفوذها قوة إقليمية، وكل تحفظاتنا ونقدنا حزب الله، فإسرائيل ليست مهتمة بحماية الشعب اللبناني من حزب الله، بل حماية نفسها لأنها ترى في حزب الله وقوته خطراً وتهديداً لمخطّطاتها للهيمنة على المنطقة، فإسرائيل يجب أن تبقى هانئة ومسيطرة، ومن يجرُؤ على مواجهتها، ولو مواجهة محدودة، يستحق العقاب وعقاب كل مواطن وكل حجر في لبنان ومن يتجرأ على مقاومة نفوذ إسرائيل.
هنا يجب الإقرار بأن جزءاً من مأساة الشعب الفلسطيني أن أميركا والغرب يحظران مواجهة الدول والشعوب العربية إسرائيل. وليس الحديث هنا عن مواجهة عسكرية؛ لكن أي دولة عربية لم تجرؤ على قطع علاقاتها مع اسرائيل، وبقيت ردود فعلها قاصرة. وإنْ كنا لا ننكر دور بعض الدول في مجلس الأمن ومحكمتي العدل والجنايات الدوليتين، لكنّ هناك قراراً دولياً بمنع مقاومة الفلسطينيين وتجريمها.
عادةً، تحتاج حركات المقاومة، في حروب التحرر الوطنية، إلى قاعدة قرب بلدها المحتل، إلا المقاومة الفلسطينية فغير مسموح لها ذلك؛ لأن أميركا وإسرائيل تجعلان حياة شعوب الدول المجاورة جحيماً، وهذا ما يجعلها تخاف وترفض أن تكون قاعدة لانطلاق حركة التحرّر الفلسطيني ولو سياسياً وليس عسكرياً.
بالتأكيد تواطؤ الأنظمة واندفاع بعضها إلى معاهدات تطبيعية، بل تحالفية، زاد من ضعف دورها وأطبق الخناق على شعوبها.
هناك مقولة متصلة بموضوع المقال، وهي أن الانشغال بالقضية الفلسطينية كان على حساب الحرّيات والتنمية في العالم العربي.. هناك بعض الصحة، لكن لجهة أن القضية استغلتها أنظمة لتبرير قمع الشعوب، وهذا ليس ذنب الفلسطينيين، بل لم تدعم تلك الأنظمة في المحصلة القضية الفلسطينية كما تدّعي، لهذا ذلك لا يبرّر دعوة بعض الأصوات إلى فك الارتباط مع القضية، للتركيز على النضال من أجل الحريات والحقوق للمواطن العربي، وغير صحيح أن الانشغال بمواجهة إسرائيل عرقل نهوض المجتمعات أو منعه.
صحيح أن وجود إسرائيل في وسط المنطقة العربية زاد الضغوط الغربية على شعوبها، بل إن مقياس رضى أميركا بالذات عن الأنظمة العربية أصبح مرتبطاً بمدى تحدّي المشروع الصهيوني أو قبوله، ما زاد من التبعية الاقتصادية والسياسية للغرب. وهذا في ذاته يؤدّي إلى إضعاف التنمية والحريات، واستبداد الأنظمة سواء تحت حجّة منع معارضة سياستها وتنبيهات لواشنطن أو تحت شعار دعم القضية الفلسطينية هو لبّ المشكلة وليس القضية ذاتها. فأين التنمية والحريات في الدول التي تبعت السياسة الأميركية؟ بل إن قمع الحريات يتصاعد في الدول المهادنة التي لها اتفاقيات تطبيعية مع إسرائيل.
نعم، كان هناك توظيف لشعار دعم المقاومة لتبرير القمع، ولكن هذا سببه الاستبداد والتعلق بالسلطة والحفاظ عليها، وليس الشعب الفلسطيني أو القضية الفلسطينية.
جاءت ضرورة تفنيد هذه المقولات لأن الإدارة الأميركية، في سعيها إلى تكملة حلقة التطبيع، تدعم حرب الإبادة الصهيونية وهجمة المستوطنين على الفلسطينيين في الضفة، تمهيداً لضمها وتهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية والقدس الشرقية. هناك رسالة إلى الشعوب العربية، وأولها الشعب اللبناني، أن سبيله إلى السلام هو في الخضوع للشروط الإسرائيلية، ولا نتحدّث عمّا يتعلق بحزب الله هنا، بل بمشاركة مصادر لبنان الطبيعية مع إسرائيل.
ليس مستغرباً التبشير بالانعزالية السياسية التي ظهرت بقوة عشية توقيع اتفاقية كامب دافيد بين مصر وإسرائيل عام 1978، فمقولات أنْ لا مصلحة للشعب المصري بالالتزام بالقضية الفلسطينية، وأن جذور الشعب المصري ليست عربية، بل فرعونية لتبرير فك الاشتباك مع القضية .
النظر إلى الوضع الحالي في مصر بعد أكثر من أربعة عقود من معاهدة “السلام”، من تدهور اقتصادي واستهتار إسرائيل بالعادة نفسها بأمن مصر وسيادتها، هو أهم تفنيد لمقولات الانعزالية، فلم تجلب المعاهدة الأمن والرفاه، فنشر فكرة الانعزالية السياسية هي دعوة إلى معاهداتٍ منفردة مع إسرائيل، وتصويرها كأنها طريق الخلاص، ادّعاءات واهمة وخادعة، ومن الضروري فضحها ومواجهتها.
المصدر: العربي الجديد