كتبت منذ ثلاثة أسابيع تقريبًا مقالة بعنوان “هل يمكن تصنيع نخبة ثقافية سياسية؟” لاقت استحسانًا في بعض الأوساط من حيث تحريضها على التفكير في الحدِّ الأدنى، لكنها لاقت استهجانًا واستنكارًا في أوساط أخرى أيضًا، وهذا طبيعي ومفهوم. لكنَّني بدوري استهجنت انحشار “النقد” في ثلاثة انتقادات “بسيطة”، على الرغم من أنَّ المقالة تحتوي أفكارًا كثيرة تحتاج إلى مقاربةٍ ونقدٍ بقصد تعميقها. هذه الانتقادات هي: 1) يشير نصّ المقالة إلى تعاطٍ استعلائي من برج عاجيٍّ لا يعترف بوجود “النخب السورية”، 2) أشارت المقالة بتعالٍ إلى ما سمَّته تعفّن المجتمع السوري أو الشعب السوري، 3) استخدمت المقالة تعبير “تصنيع النخب”، وهذا طرح متعالٍ وخيالي، ويعني إدارة الظهر للصراع مع “النظام السوري”، فالنخب السورية موجودة (كما يرى الناقدون) ولا ينقصها سوى أن تجتمع في جبهة أو تجمع أو… إلخ.
كان أول انطباع لدي إزاء هذا النمط من الانتقادات أنها تشبه آلية تعاطي السلطة الشمولية مع الأفكار المغايرة، فإما أن تجري الإشارة إلى “تعالي الكاتب على الناس” ما يسهِّل رفض أفكاره، وإما يجري التأكيد على أننا “بخير” ولسنا في حاجة إلى مثل هذه الأفكار، وإما يجري التشكيك في الأهداف والمقاصد البعيدة غير المقبولة للكاتب “شيء يشبه التخوين”. هذا النمط البائس والسطحي من النقد يسهِّل على الناقد رفض أفكار الكاتب جملة وتفصيلًا، وإدارة الظهر لها أو التحريض ضده، ومن ثمَّ العودة إلى ما هو معتاد ومألوف وغير متعب للتفكير. في الحقيقة يحدث مثل هذا التعاطي مع النصوص والأفكار عندما تشكل نوعًا من الصدمة أو حالة من الاهتزاز لقناعات مريحة ألفها البشر.
أتناول في هذه المقالة مسألة “الاستعلاء على الناس”، وما يلازمها من عيش بعض “النخب” في “أبراج عاجية” بعيدًا من الواقع والبشر كما قيل ويُقال، من جوانب أعمق وأدق ربما لم تخطر في بال منتقدي مقالتي، والغاية ليست الردّ على الانتقادات بل التفكير جديًا في ماهيتها وتعميق الأفكار المطروحة.
لا بدَّ من الإشارة إلى نقطتين مهمتين في البداية؛ الأولى هي أنَّ غياب الموضوعية وحضور الاستعلاء يتجليان بوضوح عندما يكون هناك رفض مبدئي لدى القارئ لتغيير ما يعتقده أو ما اعتاده، فيلجأ إلى اختزال أيِّ نصٍّ مكتوب ببضع كلمات بما يسهِّل عليه الجور على الكاتب والنصِّ في آنٍ معًا، أو عندما يكوِّن القارئ فهمًا قسريًا مصطنعًا عن هذا النصِّ بقصد نقده وحسب، ومن ثم الاستمرار في النوم على مخدّاته الأيديولوجية والشعاراتية وهو مرتاح الضمير. الأسوأ هو أن يصل القارئ إلى عدم التمييز بين النصّ وكاتبه فيرفضهما معًا، بدلًا من لفت انتباه الكاتب بصورة لبقة وتضامنية إلى ما قد يكون قد غاب عنه أو ربما ذكره من دون توضيحٍ كافٍ.
أما الثانية، فهي أنَّ التناول السطحي للنصِّ المكتوب من جانب القارئ يقود الكاتب، للأسف، إلى إعادة تأكيد بدهيات يُفترض أنها معروفة سلفًا، وهنا أراني مضطرًا إلى تأكيد قناعة راسخة لديَّ تتمثَّل بأننا جميعًا متساوون في القيمة الإنسانية والكرامة، لكننا بالتأكيد لسنا متساوين في المعرفة والعقول وإمكانات التفكير وقيمة الآراء والخبرات، ويُفترض أن يكون هذا طبيعيًا وبدهيًا ومفهومًا، وليس فيه أيُّ ملمح لتعالٍ على البشر أو إشارة إلى عدم احترامهم.
ماذا يعني التواضع؟ التعالي على العلم والواقع والتاريخ
لا بدَّ من تمييز التواضع بمعناه الشخصي من التواضع بمعناه السياسي، فالشعور بتواضع أو عدم تواضع شخص ما في الحياة اليومية الاعتيادية هو شعور ذاتي لا قيمة له، سلبًا أو إيجابًا، في الحقل السياسي في الحصيلة، بينما التواضع بمعناه السياسي فله معانٍ عدة ربما لا تخطر في بال المنتقدين؛ يعني التواضع بمعناه السياسي الاعتراف بقوانين الواقع وسنن تطور المجتمعات لمعرفة الحدود الممكنة لحركتنا وقدرتنا، ويعني أيضًا التزام حكم الواقع لا حكم القيمة، والاعتراف بمسؤولية الذات عن الكوارث لا تحميل المسؤولية للأحوال الموضوعية والخارج وحسب، والاعتراف بقدرة الذات المحدودة في لحظة معينة، والإقرار بالهزيمة كنقطة انطلاق للتغيير على أسس مغايرة للأفكار والرؤى التي ساهمت بطريقة أو أخرى في إنتاج الهزيمة. يمكننا القول بالتالي: إنَّ ظواهر الاستعلاء الأخطر السائدة بين “النخب الثقافية والسياسية” هي ظواهر الاستعلاء على الواقع والحقيقة، وإنكار منطق التاريخ وعدم الاعتراف به، وإنَّ “النخب السياسية الثقافية” السورية، وفق هذه المعايير، كانت متخمة بالاستعلاء وممتلئة بالعُنجهية طوال ثلاثة عشر عامًا بدءًا من آذار/ مارس 2011.
يعني التواضع في اللحظة الراهنة الإقرار بعجزنا وهزيمتنا، شعوبًا ونخبًا، وإلَّا فإننا مستمرون في إعادة إنتاج الأنظمة المستبدة التي لم تعترف بهزيمتها قط في أي لحظة. المتعالي اليوم هو الذي لا يعترف بهذه الهزيمة الماحقة التي تعرضنا لها دولًا وأنظمة وحكومات وقوى سياسية ومثقفين وشعوبًا.
عملت “النخب السياسية الثقافية العربية” بعد هزيمة حزيران/ يونيو 1967 على تهوين مشكلتنا والتخفيف من وقع الهزيمة، ووصفتها بأوصاف بسيطة مثل “نكسة”، وأكَّدت أننا سنتجاوزها بسهولة، وكان الاستثناء بينها عدد قليل من المثقفين والسياسيين، مثل ياسين الحافظ وإلياس مرقص وسعدالله ونوس وصادق جلال العظم وغيرهم، على الرغم من أنهم كانوا الأكثر حساسية تجاه الهزيمة وتألمًا بسببها. وفي الحصيلة كان وصف هؤلاء للواقع هو الصائب، بدليل أننا ما زلنا نعيش مرارة تلك الهزيمة ونتائجها الكارثية إلى اليوم. فعندما حلَّلوا الهزيمة وأسبابها عادوا إلى دراسة عمارة المجتمع العربي، وأكَّدوا تأخرها وفواتها وتعفنها، مثلما شدَّدوا على بؤس الوعي الذي تحمله “النخب الثقافية والسياسية” السائدة إن في السلطات أو المعارضات. لم يعيدوا الهزيمة إلى خيانة أو سوء أداء الحكام وحسب، لأنَّ هذا التحليل سهل وسطحي ولا يتطلب جهدًا ولا يفسِّر عمق الكارثة واتساعها، فضلًا عن كونه تحليلًا محافظًا لا يغيِّر من الواقع شيئًا، ولا من وعي الناس وأدائهم، من أجل مواجهة حقيقية وفاعلة للهزيمة.
هل من الصائب وصف الناقدين للبنية الاجتماعية السورية (والعربية عمومًا) و”النخب الثقافية والسياسية” السائدة بالاستعلاء على البشر وعدم احترامهم؟ أو وصفهم بأنهم ينكرون مسؤولية الحكام عن كوارثنا لأنهم ينتقدون الوعي العام السائد ويرون أنه مساهم رئيس أيضًا في الكارثة؟! حكامنا مسؤولون ونحن جميعًا مسؤولون أيضًا؛ سقط نظام صدام حسين منذ نحو عشرين عامًا، فماذا أنتجت “النخب العراقية” المعارضة لنظامه؟! دولةً هشة محكومة من إيران، دولةً يأكلها الصراع الطائفي والإثني، وشعبًا مشظَّى يعيش خارج الحياة والتاريخ، وميليشيات متعفنة تجوب الشوارع وتنشر سمومها في الأجواء والمحيط، واقتصادًا بدائيًا فاسدًا… إلخ.
عندما خالف غاليليو تعاليم الكنيسة وظلَّ أمينًا لعقله وعلمه، فهل هذا يعني هذا أنه لا يحترم البشر؟! وعندما خالف الرسول بني قومه ووصف حياتهم بالجاهلية، هل كان ذلك يعني أنه يحتقرهم؟ عادة ما يُوصف الذين يخالفون الثقافة السائدة ومنتجو الأفكار والمبدعون بالاستعلاء، إلى درجة أنَّ حديثهم يشكل استفزازًا وتحديًا بالضرورة للآخرين، لكن يُفترض ألَّا يكون الأمر كذلك عند الذين يرون أنفسهم في عداد النخب الثقافية والسياسية.
ماذا يعني تواضع المثقف أو السياسي؟ هل يعني أنَّ عليه أن يوافق الناس في ما يقولون ويتصرفون؟ هل يعني أنَّ عليه أن يسير في ركاب الثقافة السائدة أو القناعات المتداولة ليكون متواضعًا؟ هل عليه أن يرمي عقله وتفكيره وعلمه ويشارك في جوقة النفاق السائدة اليوم حول الانتصارات واقتراب نهاية إسرائيل مثلًا؟ هل المطلوب من الطبيب ليكون متواضعًا في نظر الآخرين أن يقبل برأي الناس غير المتخصِّصين بالطب أو العارفين به أو برأي من يمارسون الشعوذة في الطب أو برأي الدجالين والنصابين؟! مع ذلك، يبقى الأهم من ذلك كله هو أن الحقيقة العلمية، في جميع ميادين العلوم، الطبيعية والإنسانية، يجب أن تناقش بأدوات العلم بصرف النظر عن مشاعر التعالي والتواضع، وهي فوق الجميع شاؤوا أم أبوا.
ما هو أكثر كارثية حقًا على البشر والواقع هو “النخب الجاهلة” الممسكة بزمام الأمور أكانت في حيز السلطات أو المعارضات، فكيف إذا أُضيف “التعالي” إلى الجهل. هذان الداءان تمظهرا مجتمعين، في سوريا مثلًا، في محطات عدة، على مستوى “النخب الثقافية السياسية” السائدة: هل تواضع الذين كانوا يتسابقون ويتنافسون، ويحفرون الحفر لبعضهم بعضًا، من أجل الظفر بكرسيٍّ في “المجلس الوطني” أو “الائتلاف الوطني”، أو أولئك الذين كانوا يلهثون للظهور على محطة إعلامية وهم لا يملكون شيئًا سوى العويل والنواح والشتائم؟! هل تواضع أولئك الذين كانوا يتزاحمون للقاء أيِّ دبلوماسي من الدرجة العاشرة؟! هل تواضع المحلِّلون السياسيون والعسكريون السوريون الذين لم يصيبوا في قراءة الواقع والتنبؤ بمساراته في أي لحظة، ولم تثبت تحليلاتهم السياسية صحتها مطلقًا؟ هل قدموا اعتذارًا للسوريين عن الحماقات السياسية والعسكرية التي ارتكبوها؟ عن التفاؤلات السياسية الواهمة التي بثّوها؟! عن الوعود التي أطلقوها؟!
ظواهر الاستعلاء الأيديولوجي
لا شك في أنَّ الكائنات الأيديولوجية هي أكثر الكائنات التي تستعلي على البشر؛ فهي تنظر إليهم بوصفهم كيانات مسلوبة التفكير والإرادة تريد حشرهم في دائرتها المغلقة، وتحاسبهم في حال الخروج على تعاليمها المقدسة، وتكفِّرهم أحيانًا أو تنظر إليهم بوصفهم مهرطقين عندما ينتقدونها، وربما يصل الأمر بها إلى حدِّ تشويههم وإباحة قتلهم.
يرفض الأيديولوجيون الاعتراف بالواقع السياسي الاجتماعي للشعوب وممكناته وشروطه، ويستبيحون نفيه باسم صياغات أيديولوجية مغلقة، أكانت علمانية أو دينية. عندما يؤولون الواقع ويفسِّرونه بما يخدم ذواتهم وأيديولوجياتهم وشعاراتهم، أليس هذا استعلاء على الواقع والحقيقة والتاريخ والبشر؟ فضلًا عن كونه شكلًا من أشكال العمى السياسي وتزييف الواقع؟!
كيف نسمي رؤية حركات الإسلام السياسي تجاه الغرب؟ ألا تصبُّ رؤيتها في خانة الاستعلاء على البشرية قاطبة؟ كيف نسمي إصرار الإسلاميين على تنفيذ التشريعات الإسلامية نفسها في هذا العصر، وفي بلدان تحتوي على تنوع ديني وطائفي مثل سوريا؟ أليس هذا استعلاء على منطق العصر، وعلى الأديان والمذاهب الدينية والطوائف الأخرى؟ كيف نسمي رؤية كثير من القوميين العرب تجاه الكرد؟ ألا تنضوي هذه رؤيتهم على شيء من الاستعلاء؟ كيف نسمي تعامل التنظيمات الأيديولوجية اليسارية مع واقع المجتمعات العربية؟ ألم يكن تعاملها مبنيًا في الجوهر على نفي هذا الواقع وطرده من الذهن، متخيّلة أنَّها أمام واقع تستطيع أن تأخذه إلى حيث تريد، إلى الاشتراكية والشيوعية والأممية العالمية، وفي أي وقت؟ ألا يصبُّ هذا في خانة الاستعلاء حقًا على الواقع والتاريخ والبشر؟!
الشعبوية أمُّ الاستعلاء
تمارس الكائنات “الثقافية والسياسية” الشعبوية فعل الخديعة مع الناس، وتكذب عليهم، جهلًا أو قصدًا، بإسماعهم ما يجعلهم مطمئنين وفرحين، لكن غالبًا ما تسير بهم في اتجاهات مسدودة لأنَّهم أصلًا لا يمتلكون المعرفة المطلوبة بالواقع والتاريخ والبشر. فهذه الكائنات ترى الواقع “كما تريد” لا “كما هو”، أي كما تشعر أو ترغب، أو تكوِّن عنه صورة تتوافق مع مصالحها وأهدافها، ما يعني أنها تخلط بين الواقع والهدف، وتتخيَّل أن أهدافها هي الواقع أو قريبة من التحقق.
هل يقع على عاتق السياسي أو المثقف النقدي المهموم بالمجتمع وتطوره أن يقبل بتحليلات الشعبويين والأيديولوجيين وغير المتخصِّصين وأولئك الذين يبنون آراءهم على ما هو مباشر وآنيٍّ ومؤقتٍ وتأخذهم الكلمات مرة باتجاه اليمين ومرة باتجاه اليسار، مرة باتجاه “جبهة النصرة” و”جيش الإسلام” و”أحرار الشام”، ومرة تعلن الكفر بهذه التنظيمات كلها، مرة باتجاه السعودية وأخرى باتجاه قطر، مرة باتجاه السِّلمية وأخرى باتجاه العسكرة؟! هل عليه أن يقبل بهذه التحليلات الكارثية، وبتلك المواقف البائسة ليكون متواضعًا؟!
تسعى الكائنات الشعبوية أيضًا للتهوين من مشكلاتنا وبلايانا، إما لقصور في عقلها أو لغرض بثّ التفاؤل في “صفوف الشعب” كما تقول وتردِّد، على الرغم من كونه تفاؤلًا كاذبًا وخادعًا بالطبع. يرى بعض الشعبويين مثلًا أنَّ اجتماع عدد من ذوي “السمعة العطرة” كفيلٌ بوضعنا في الطريق الصحيحة، مع أنَّ النخب السائدة سلكت مسلكًا تحطيميًا لبعضها بعضًا بحكم تنافسها الطفولي وغير العقلاني، اعتقادًا منها أنَّ الطريق مفتوحة وسريعة إلى القصر الجمهوري السوري. فمن ينظر إلى مشكلات سوريا اليوم سيقف حائرًا من أين يبدأ بعدِّها وعلى أي مستوى، ووصلت الأمور إلى أنَّ المسارات كلها أسوأ من بعضها بعضًا سواء بقي “النظام السوري” أم رحل. هنا التواضع مهم، والاعتراف بعدم وجود حلول سريعة هو عينُ التواضع.
كلمة أخيرة: كي تُغيِّر يجب أن تتغيَّر
في الحقيقة، لا توجد صفة ملازمة للمثقف أكثر من صفة التفكير النقدي، فمن دونها سيكون أيَّ شيء آخر باستثناء أن يكون مثقفًا. وهدف النقد هو الارتقاء وبث روح العمل الجدي لا بث روح الاستسلام كما يعتقد المحافظون الذين لا يريدون أن يتغيروا، وفي الحصيلة لا يريدون أن يساهموا جديًا في تغيير الواقع على الرغم من صراخهم الدائم من أجل القيام بعمل ما؛ كي تُغيِّر يجب أن تتغيَّر.
هذا النقد سيكون مفيدًا عندما تتعامل معه عقول منفتحة تدرك أنَّ ثمة شيئًا مفيدًا دائمًا في أيِّ نقدٍ حتى لو كان معظمه خاطئًا. يُوصف الناقدون لأنماط التفكير السائدة بالاستعلاء، وهذا طبيعي، ربما لأنَّ الأغلبية تكره أن تفكِّر وتتغيَّر، وتفضِّل الاستمرار في أنماط حياتها المعتادة، والتاريخ حافل بمحاربة أصحاب التفكير النقدي، لكنه حافل أيضًا بالمصادقة على أفكارهم بمرور الزمن.
المصدر: سوريا وأحوالها/ 963+