شهدت السبعينات من القرن الماضي انتشار الفكر اليساري في سورية بين النخب في حقل السياسة كما في حقل الثقافة، لكن مع اقتراب عقد السبعينات من نهايته كانت السجون السورية قد استقبلت أفواجًا من الشباب المثقف لتستمر في ذلك في الثمانينات والتسعينات بتواتر يزيد وينقص، كما أن قسما من المعتقلين السابقين أفرج عنهم على دفعات حتى نهاية التسعينات.
خرج الشباب اليساريون من السجون وقد بدأ الشيب يخط رؤوسهم، ففوجئوا بعالم مختلف تماما، فالاتحاد السوفييتي الذي كان المثال الحي لتطبيق النظرية الاشتراكية قد انهار وتفكك، وخرجت منه روسيا القومية التي لم تعد ترى في الاشتراكية سوى تاريخ سابق بينما كانت تتطلع للاندماج مع العالم الغربي بشغف وحرارة.
ومع انهيار الاتحاد السوفييتي انهار ” المعسكر الاشتراكي ” بكامله وخرجت من رحمه دول قومية تتلمس طريقها نحو الديمقراطية والنموذج الغربي في الاقتصاد الحر.
تراجعت التيارات اليسارية في أوربة، ولم يعد لها وجود مؤثر في السياسة والثقافة والمجتمع، وتحول ما تبقى من الدول الاشتراكية كالصين وكوريا الشمالية وكوبا الى دول قومية – بوليسية في السياسة وليبرالية في الاقتصاد فريدة من نوعها تجمع بين أساليب انتاج وتسويق معولمة لكن بقيادة وتحكم الحزب الشيوعي كما في الصين، ودول بوليسية معزولة ورثت عبادة الفرد مع تطوير قدرات عسكرية لافتة واقتصاد متعثر كما في كوريا الشمالية، أما كوبا فقد أصبحت جمهورية – ملكية يحكمها كاسترو للأبد ويورثها من بعده لأخيه.
سبب العالم الجديد صدمة للرفاق الخارجين من السجن، فهو لم يتغير كليا في الخارج بل وفي الداخل أيضا فلم يعد المجتمع مهتما بأي حديث عن الاشتراكية، وتقلص الاهتمام بالسياسة مع حملات القمع التي تحولت إلى مجازر كبرى في حماة وتدمر وحي المشارقة بحلب وغيرها، لقد أصبح الخوف سيد الموقف، وكانت القوى السياسية المحدودة تحاول مجرد البقاء على قيد الحياة في حياة سرية مغلقة.
انفرط بالتالي عقد التنظيمات السياسية اليسارية التي كانت الأكثر نشاطا وحيوية في السبعينات، تفرق الرفاق نحو الهجرة أو الاهتمام الشخصي، ومن بقي منهم مثابرا في حقل السياسة كان عليه إجراء مراجعات معمقة للخط الفكري السياسي الذي أصبح قديما الآن.
من تلك اللحظة ولدت الليبرالية السورية الثقافية التي بدأت تتلمس السياسة ثانية لكن في حقل فكري مختلف تماما، لقد أسقطت عن كاهلها كل ما يتعلق بالفكر الاشتراكي والماركسية والثورة، وبدأت تجد في حقوق الانسان والديمقراطية مجال عملها المستقبلي.
شيئا فشيئا بدأ التنظير للفكر السياسي الجديد، أصبحت الديكتاتورية هي الخصم، تراجعت النظرة العدائية نحو الرأسمالية والغرب، بل بدأ الفكر السياسي الجديد يرى في الغرب حليفه الطبيعي، وعلى الصعيد الاجتماعي تبخرت المفاهيم الطبقية، وصار متاحا ايجاد شكل من التحالف مع بقايا بورجوازية مدنية فقدت وزنها السياسي لكن وزنها الاقتصادي لم تفقده بعد ولذا فلديها شيء من الطموح في استعادته بطريقة من الطرق بعد أن أصبحت مرتابة في نوايا النظام تجاهها.
استعاضت الليبرالية الثقافية السورية عن العمل السياسي الذي كان شبه مغلق أمامها بفعل قمع النظام بأشكال عمل اجتماعية شبه سياسية تمكنت من خلالها من طرح مفاهيم جديدة للسياسة في سورية تتعلق كلها بالحريات وحقوق الانسان والديمقراطية.
بالطبع فقد كان ذلك هو الانجاز التاريخي الأبرز لهذه الطبقة السياسية، لكن ماذا حصل بعد ذلك؟
بدأت مظاهر الانحراف في الليبرالية السورية بتصوير الغرب ليس كشيطان كما كانت تصوره تيارات اليسار والتيارات القومية ولكن كملاك منقذ، وهكذا فالتحالف معه من أجل الديمقراطية هو تحصيل حاصل.
لم يعد المنظور الليبرالي الجديد يقيم أي وزن فعلي للرابطة العربية التي تحولت عنده لمجرد فكرة قومية بائدة، وفي مجال التراث فقد تبنت الليبرالية السورية في الحقيقة القطع التام مع التراث دون أن تعترف بذلك صراحة.
وشيئا فشيئا فقد أصبح الخصم الفكري أمامها يتمثل في العروبة والاسلام.
لقد تلاشت تماما الخصومة مع الغرب، ولم تعد الليبرالية السورية تطيق أي انتقاد له في الحاضر والماضي حتى لو كان تاريخه أسود مليئا بالدماء.
في المقابل لم تعد ترى في التاريخ العربي الاسلامي سوى اللون الأسود مهما كان فيه من انجازات حضارية وانسانية وثقافية، بل أصبح مجرد النظر إليه انسحابا رجعيا نحو الخلف.
طبيعة الليبرالية السورية التي انقلبت فجأة من الايديولوجيا الماركسية إلى الايديولوجيا الليبرالية جعلتها لا تقبل الحوار بل تنظر إلى موضوعاتها كأشياء مسلم بها لك أن تقبلها أو ترفضها لتذهب بعيدا.
أزمة الليبرالية السورية أنها لا تستند إلى حامل اجتماعي داخلي، فهي ليبرالية معلقة في الهواء، لذا فلا مناص من أن ترتمي في أحضان الغرب بحوامل مثل مراكز بحوث ممولة، أو جمعيات أو منصات مدفوعة الأجر، ومقابل ذلك فهي تعلم ماذا عليها أن تفعل لتضمن بقاء احتضانها من الغرب وحلفائه المحليين.
الهدف ليس سوى العروبة والاسلام ليست العروبة كعصبية قومية ولكن كانتماء برسم الماضي والحاضر والمستقبل وليس الاسلام كدين ولكن كثقافة وحضارة وقيم.
ذلك ما يهدد الهيمنة الغربية على المنطقة وقل بعدها ما شئت.
المصدر: موقع ملتقى العروبيين