يبدو أننا مقبلون على صيف ملتهب وحار، يتراوح بين عسكري بحده الأعلى وسياسي بحده الأدنى، وكأنه سياق طبيعي لموجة الحرارة المناخية التي تمر هذا الصيف في سوريا والمنطقة برمتها.
تغير المناخ الملحوظ في الأعوام الماضية وتغير معدلات درجات الحرارة والهطولات المطرية في بعض مناطق العالم هو فعل الطبيعة العامة. وأهم مسبباته بحث الطبيعة عن توازنها الذاتي مقابل ما يرتكبه الإنسان بحقها من خراب صناعي يهدد بارتفاع درجة حرارة الأرض عموماً، وتوليد الحروب التي تجلب شتى أنواع الكوارث البشرية وتركيز مخلفاتها من غازات سامة وتآكل البيئة الخضرية في مناطقها. وإذ تحذر وكالات الأنباء من موجات حرارة مرتفعة في منطقتنا لم تشهدها سابقاً مع بدء هذا الصيف، لكنها بذات الوقت تحذر من موجات مماثلة سياسياً وعسكرياً. فإن كانت الأولى رد فعل الطبيعة على فعلنا البشري، فالثانية هو استمرار لهذا الفعل المتنامي بشهوة السيطرة والهيمنة على حساب مقومات الوجود البشري حياتياً وطبيعياً.
شهدت سوريا طوال الأعوام الماضية ارتفاعاً هائلاً في حمى درجات الحرارة والصراع السياسي والعسكري، لدرجة وكأن حرباً عالمية ثالثة دارت رحاها مركزة في مساحة لا تتجاوز 185 ألف كم2، شاركت فيها روسيا وإيران والتحالف الدولي وتركيا وغالبية دول المنطقة كلاً لأهدافه الخاصة دون أن تصطدم ببعضها.
ورغم جميع التفاهمات والاتفاقات الجيوعسكرية، من أستانا وعمان والقدس وسوتشي والتفاهمات الدولية عبر هيلسيكني والمباحثات العربية ومبادراتها خطوة بخطوة العام الفائت، لسحب فتائل تدهور ساحات صراعها بين القوى الكبرى، والتي يتجنبها الجميع، لكنها اليوم تعود بمؤشرات ارتفاع حُمى درجاتها. إذ ما زالت مولدتها قائمة ببقاء سلطة النظام السوري والميليشيات الإيرانية الداعمة العاملة على زعزعة استقرار المنطقة وفرض شروطها بالقوة العسكرية على الشعب السوري ودول الجوار، وما تخلفه من تهديد عمومي للمنطقة برمتها ولما بقي من سوريا!
تشير مؤشرات عديدة إلى إمكانية حدوث عمليات عسكرية محدودة وقابلة للتوسع لصراع المحاور الإقليمية الرئيسية في المنطقة. وحيث ستزداد حرارة المفاوضات السياسية التركية مع النظام بتسريع من إيران وروسيا والتي قد تحمل معها مؤشرات تفاقمها لعمل عسكري محدود في بعض مواقع خطوط التماس. ستكون إيران لاعبا أساسيا في جبهة أخرى تستعر فيها مؤشرات العمل العسكري المباشر بين مشروعين متباينين يتصارعان في المنطقة هما المشروع الإسرائيلي وآخر إيراني يقابله، لتقاسم النفوذ وفرض شروطه بالقوة المباشرة. في حين إمكانية ضبط قواعده وتمدده رهن بالتفاهمات الإقليمية والدولية على ضبط إيقاع الحرب، وعلى مصلحة كل من المشروعين على خوض غمارها جزئياً أو كلياً. وإن كنت أستبعد مؤشرات التوسع والحرب الكلية لذات الأسباب التي ولدتها، وهي الفوز بالحصص مع الزمن لا خسارتها دفعة واحدة، لكن المرجح والواضح هي حروب جزئية محدودة النتائج والأهداف. وجميعها، سياسية كانت أو عسكرية، محورها سوريا وصراع الدول على أرضها.
فمنذ 7 تشرين أول/أكتوبر الماضي وغمار الحرب التي بدأت من غزة آخذة بتحديد دوائر اشتغالها، واليوم تصل لجنوب لبنان مع حزب الله، الذراع الأساسية لما يسمى الجمهورية الإسلامية الإيرانية. وكلاهما، أي إسرائيل وإيران، مثلتا حالتي توسع واغتصاب للمنطقة العربية شرقي المتوسط، على حساب شعوب المنطقة وثوراتها الوطنية خاصة سوريا. واليوم تتبدى المواجهة المباشرة بين المشروعين وقد تتحول لمباشرة بينهما كدولتين. فبعدما عملت إيران على استباحة عواصم دول المنطقة بميليشياتها العسكرية وعقائديتها الدينية، ها هي اليوم تقع بين خياري الانكفاء الكلي أو التفريط التدريجي بأذرعها التي حققت لها هذا التوسع، مع التفاوض السياسي على مكاسبها الجيوسياسية في مواقع نفوذها في سوريا. فإن كان من غير المرجح أن تفرط كلية بحزب الله، فستحاول هي والحزب الإرهابي، سيئ السمعة، تجنب الحرب المباشرة ونقلها من جنوب لبنان لموقع آخر، وقد يكون جنوب سوريا أحد الاحتمالات لذلك مع تسريع مفاوضات الشمال السوري مع تركيا. لكن وبذات الوقت تقديم تنازلات سياسية واضحة أمام الشروط الإسرائيلية والأميركية بتراجع حزب الله عن الحدود الجنوبية لخطوط الليطاني. فيما إن تمسك الطرفان بشروطه السياسية، ودفع إسرائيل لفتح ساحة معركة خارج أرضها لإعادة جذب رأيها الداخلي الإعلامي بعد خسائر غزة ورفح الكبيرة، يجعل معادلة الحرب أكثر ترجيحاً من معادلة السياسة وكلاهما ساخنة مرتفعة الحرارة. هذا بينما تحاول أميركا ضبط معادلاتها مع عدم تراجعها عن حماية إسرائيل وأمنها.
إن الأثر الأوضح على ارتفاع معدلات حرارة المنطقة هو المعادلات التوسعية الإيرانية وقدرتها على المناورة بأذرعها الميليشاوية الطويلة، والتي حولت سوريا لمحطة انطلاق لها في ترسيم معادلات المنطقة السياسية والديمغرافية. فحزب الله الذي طالما صرّخ بتحرير القدس أتى على خراب المدن السورية وتدميرها وتهجير سكانها لم يحرك ساكناً أمام مجريات غزة. في حين أن إيران ومشروعها التوسعي تخلت عن حماس أم الهيمنة الإسرائيلية على كامل الجغرافيا الفلسطينية، مقابل بقاء إيران مهيمنة على مناطق واسعة في الداخل السوري ومتحكمة نسبياً بقرارها السياسي.
والضغوط الدولية والتلويح بعصا الحرب المباشرة على المواقع الإيرانية داخل سوريا وعلى حزب الله في جنوب لبنان قد يعيد سوريا مجدداً لأن تكون ساحة للحرب مجدداً. وليس من المستبعد أن تنجر بعض الأطراف السورية لدخول معتركها من موقع المعادي لإيران!
مجدداً، وفي كل سنوات الحرب السابقة، كانت دول المنطقة وسوريا خاصة هي الخاسر كمشروع وطني أمام تجاذبات المصالح الإقليمية والدولية، وسعيها الدائم للاستثمار في مطامح السوريين السياسية في التغيير السياسي. لتظهر معادلات الأرض والوقائع الجيوعسكرية الخسارة الكبرى التي مني بها المشروع الوطني السوري أمام المشروعين الإسرائيلي والإيراني، مقابل استفادة النظام السوري منهما. فعلى الرغم من احتدام المشروعين بينياً لكنهما يتفقان ضمنياً على إجهاض المشروع الوطني السوري، بمثل ما يتفقان على إجهاض مشروع حل الدولتين في فلسطين.
وبالضرورة وأمام تسخين جبهة الجنوب اللبناني والتي قد تتمدد للجنوب السوري ومحيط دمشق، وارتفاع حمى الصراع السياسي في الشمال السوري بين تركيا والنظام والتدخل الإيراني المتعجل لحسمه، تبقى المعادلة السورية بين هذه الحدود رهينة بالمبادرات العربية وتقاربها مع الأتراك في ذلك، مقابل التلاعب الإيراني ومثيراتها لمبررات الحرب اللاهبة لكسب شروط الأرض وفرض سياساتها الماكرة.
فإن كان السوريون تواقون لخروج الميليشيات الإيرانية وحزب الله من سوريا، لكنهم الخاسرون من رحى الحرب وتضارب مصالحها على الأرض السورية. وأياً تكن الاحتمالات القائمة، فالتمسك بالحل السلمي للمعضلة السورية وتغيير نظامها السياسي وتجنب الدخول في معادلات الحرب والعنف مرة أخرى هو الأكثر فعالية في خضم هذه التشابكات. والانتقال السياسي المشروط بتغيير النظام وبدعم القرارات الدولية والتظاهر السلمي، موقع رابح وطنياً وعربياً ودولياً رغم شروطه السياسية مرتفعة الحرارة والمسؤولية، ويخسّر النظام شروط ومقومات وجوده السياسي والذي يستقوي بكل التوازنات الإقليمية وبالدول الداعمة له عسكرياً. وليس فقط، بل بوابة واسعة لاستقرار وسلام المنطقة برمتها مطلوبة سورياً وعربياً ودولياً.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا