ثمّة أشياء تكشف المدى الذي وصل إليه الانحدار في الوضع السياسي في العراق، وثمّة مفارقاتٌ بالغة التعبير، كما هي بالغة الخطورة، قد لا نجد وصفاً لها أبلغ من الوصف الذي وضعه الشاعر الراحل مظفّر النواب في سؤاله: “ما لبعض القوم يُناصر ذئباً على آخر”؟
أول الأشياء، وليس أخيرها، أحاديث أوساط بغداد عطفاً على تعيين تريسي آن جاكوبسون سفيرة أميركا الجديدة في العراق، التي أعطيت صفة سفير فوق العادة، بمعنى أنها “سفيرة مهامّ خاصة بصلاحيات استثنائية”، بإمكانها إبرام اتفاقات وعقد معاهدات وتقرير خطط معينة، قد تكون منها خطط عسكرية عندما يتطلّب الموقف ذلك، من دون الرجوع إلى حكومتها، ومنها أيضا الإشراف على عمل سفارات بلادها في بعض دول المنطقة، وهي منذ أطلقت “بيانها الأول” أمام لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس، والضجيج يتصاعَد في مواقع التواصل والصحف والفضائيات العراقية عن دلالة هذه الخطوة، وما تحمله من نُذُر شرٍّ مستطير قد لا يكون المناخ السياسي الماثل في العراق والمنطقة قادراً على تحمّله واستيعابه.
وقد كانت لافتة في جاكوبسون، وهي الحاملة رؤية استراتيجية لما تريده أميركا في المنطقة إلى جانب خبرة عقود في العمل الدبلوماسي في أماكن ساخنة عديدة، لهجة خطابها المتشدّدة الصريحة التي أفصحت من خلالها عن نظرتها إلى إيران كونها “عاملاً خبيثاً في العراق، ومزعزعا للاستقرار في المنطقة”، وخطّتها للعمل على التصدّي لنفوذها في العراق، وتقويض البنية التحتية للمليشيات المتحالفة معها، وحتى القضاء على الأفراد الذين خطّطوا لهجمات على مصالح الولايات المتحدة. وقالت إنها لن تسمح لإيران بالتأثير السلبي على اقتصاد العراق عن طريق استخدام الغاز المورّد إليه سلاحاً ضدّه.
المفارقة أن خطبة جاكوبسون هذه أحدثت تجاذبا بين فريقي اللعبة السياسية الماثلة. رأى الفريق الموالي لإيران فيها تكريسا للوجود الأميركي، والإصرار على البقاء. وهدّدت المليشيات بالتصدّي لهذا التوجه، و”لن تكون صفعاتنا القادمة إلا على الأنوف، وسيرى الأميركيون لمن القول الفصل”. ولم توفر المليشيات رئيس الحكومة محمد شياع السوداني من هجومها، إذ اتهمته بالتخبّط والإنجرار وراء المطامع والانتهاكات الأميركية، والتغافل عن حماية سيادة العراق واستقلاله. كما دعت إلى عدم قبول السفيرة الأميركية الجديدة، واعتبارها “شخصية غير مرغوب فيها”. وعبّر الفريق الآخر المناهض للهيمنة الإيرانية عن ارتياحه للتوجّهات التي أفصحت عنها جاكوبسون، واعتبرها “تحوّلاً مثيراً في سياسة الولايات المتحدة تجاه العراق والمنطقة”. وأجاز بعض هؤلاء لأنفسهم أن يبشّروا العراقيين بأن التغيير قادم، وبأن رؤوساً قد أينعت وحان قطافها، وليس عليهم سوى أن ينصبوا خيامهم على شاطئ دجلة، وستأتي المياه بجثث خصومهم.
وفي المفارقة نفسها، تجاهلت حكومة السوداني، ومن ورائها “الإطار التنسيقي” الحاكم، ما أطلقته جاكوبسون، وما رسمته من خطط، الاستثناء الوحيد كان لأحد مستشاري رئيس الوزراء الذي أطلق، على استحياء، تغريدة على منصة إكس، اعتبر فيها خطاب السفيرة “عدم فهم واضح للعراق الجديد، ويعدّ تدخّلاً في شؤونه الداخلية وإساءة لجيرانه”. وفي واقع الحال، تكشف هذه “المفارقة” كم هو مقدار الانحدار الذي آل إليه وضع العراق، الذي جعل اللاعبين السياسيين فيه فريقيْن، يقف كلٌّ منهما مع قوّة محتلة ومهيمنة ضد قوةٍ أخرى مثلها، أو قل يناصر ذئباً في مواجهة ذئبٍ آخر بالمعنى الذي قصده شاعرنا النواب، ولا أحد منهم يقف مع وطنه ويناصره!
على أن هذه المفارقة لن تدوم أكثر مما هو مقدّر لها. وعندما تصل تريسي آن جاكوبسون إلى بغداد ستمدّ أمامها السجادة الحمراء، وستدخل المكاتب والبيوت من دون استئذان، وسوف يستسلم أمامها رافعو رايات المقاومة والجهاد. تماماً كما كان يجري الحال مع سابقتها ألينا رومانوسكي. أما الآخرون فسوف يركنون إلى حال الطمأنينة والدّعة، فليس أكثر أماناً لهم من وجود راعٍ أميركيٍّ ذي أسنان!
يبقى المواطنون العاديون المحكومون بأقدارٍ ومتغيّراتٍ لا يد لهم في صنعها، ولا حول لهم في مواجهتها، سيبقون في انتظار “المهدي” الذي دخل في وجدانهم، وسوف يقيم لهم دولة العدل والأمان. وإلى أن يحدُث ذلك، ليس أمامهم سوى المشاركة في مواكب اللطم ومسيرات التأسّي والحزن، وسوى ممارسة جلد الذات، واعتناق الصبر إلى أن يقضي الله أمراً!
المصدر: العربي الجديد