الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

كتاب «في الفكر السياسي»؛ (الجزء الثاني).. الحلقة التاسعة

 (الحرية أولاً) ينشر حصرياً الكتاب المفقود «في الفكر السياسي» بجزئيه، للمفكرين “الأربعة الكبار”، وهذه الحلقة التاسعة من الجزء الثاني– بعنوان: (مستوى جديد للحركة القومية العربية).. بقلم الدكتور “جمال الأتاسي”

                               مسائل في النضال الاشتراكي

                                            1

                           مستوى جديد للحركة القومية العربية

   النضال الاشتراكي، هو النضال الذي يستهدف تحرير الإنسان من الاستغلال. والحركة الاشتراكية، هي حركة تاريخية صاعدة، تقود الكادحين ليناضلوا ضد الظلم والاستغلال ولأن يطالبوا، من أجل أنفسهم ومن أجل جميع الناس، بشروط اقتصادية وسياسية جديدة، تعتقُ الانسان من جميع ضروب الاستغلال والتسلط، وتتيح له الفرص ليصبح إنساناً حراً وكلياً.

   ولكن واقع الظلم والاستغلال ليس بسيطاً، بل هو حصيلة ظروف وتطورات تاريخية معقدة راسخة في أرض المجتمع. والحركة الثورية الاشتراكية التي تحمل مهمتها التاريخية في تحرير الإنسان وتبديل المجتمع واقتلاع جميع أسباب الاستغلال من جذورها، إنما تنضج أيضاً من خلال تجارب طويلة ومعارك كثيرة. بل إن وعيها لواقع الاستغلال ذاته، لا يأتي عفواً، فهو حصيلة معاناة وتجارب قاسية مريرة.

   وكذلك كان شأن الحركة الثورية التي بدأت ترتسم اليوم معالمها واضحة في أكثر أقطار الوطن العربي. فهذا التحرك الجماهيري الثوري، الذي يمتد اليوم من الجزائر إلى بغداد، متجاوزاً الفواصل والحدود، ليوحد القوى الثورية العربية حول شعارات وأهداف واحدة، مبشراً بيوم قريب تلتقي فيه هذه القوى الثورية، في تنظيم موحد، وفي مشروع مشترك للعمل والنضال، كان هو أيضاً حصلة معارك وتجارب، لم تخلُ من كثير من العثرات والنكسات. فمن خلال النضال الطويل الشاق في سبيل التحرر من الاستعمار، ومن الثورات على ظروف التجزئة والتخلف والتابعية التي فرضها الاستعمار في الوطن العربي، تفتَّح وعي كتل جماهيرية واسعة على وحدة مصالحها ووحدة مصائرها وأهدافها، ليتجاوز النضال الشعبي إطاره الوطني الاقليمي، ويأخذ مجراه التاريخي كحركة تحرر كلي تنشد استكمال الوجود القومي للأمة العربية وتستهدف التحرر الإنساني الكامل.

   وأمام هذا النضج الثوري للقوى الجماهيرية في الوطن العربي، وأمام ذلك التحرك الشعبي الواسع الذي أخذ يصعد في طريق الوحدة والاشتراكية، راح الاستعمار، وراحت جميع القوى الاستغلالية والرجعية والانتهازية التي تستفيد من ظروف التجزئة والتخلف، تتآمر وتقيم السدود والعثرات. ولكن الاتجاه الثوري العربي استطاع أن يتقدم في وجه جميع أعدائه، وأن يسجل نصره الكبير في إقامة وحدة مصر وسورية، متحدياً مخططات الرجعية والاستعمار. وكان لا بد لهذا النصر، ككل انتصار ثوري حقيقي، من أن يتجاوز إطاره المحدود، ومن أن يعطي ثماره على صعيد الوطن العربي كله. فقامت ثورة ١٤ تموز/ يوليو في العراق، وأخذت ثورة الجزائر تقترب من النصر وتتفتح عن آفاقها العربية الواسعة، وأخذت ريح الثورة تعصف في جميع أرجاء المجتمعات العربية، لتزعزع عروش الرجعية وقواعد الاستعمار في كل مكان.

   ولكن هذه الانتصارات الأولية، لم تستطع أن تعزز بقاءها واستمرارها بشكلٍ حاسم. فالحركة الشعبية الثورية، تقدمت، ولكنها لم تُجّهز على أعدائها، وبخاصة على أولئك الانتهازيين والمتآمرين الذين ظلوا يدبُّون في أوصالها. والقيادات السياسية لتلك الحركة، كانت في أكثرها، دون مستوى مُهماتها، فهي لم تستطع أن تبلور ذلك النضج الثوري للجماهير، في حركة ثورية قائدة، أو في إيديولوجيا واضحة تخُط أمامها طريقاً واضحة للعمل والنضال.

   وتعثرت تجربة وحدة مصر وسورية، في تناقضات واخطاء كثيرة، مما أحاط مصيرها وطريقها بكثير من الشكوك، وبما ترك منافذ واسعة للنكسة والتآمر. وانحرف “عبد الكريم قاسم” بثورة ١٤ تموز/ يوليو عن أهدافها العربية ليحيط العراق بأسوار العزلة والاستبداد والإجرام. وأخذت الحركة الثورية في الأقطار العربية الأخرى، تواجه أعدائها منفردة مشتتة القوى…

   أما القوى الرجعية والاستعمار، التي ما انفكت عن التآمر على هذه الحركة، فقد استغلت هذه الفترة من التعثر والتردد، لتوجه ضرباتها- فقامت بمحاولات كثيرة في جميع الاقطار العربية- لسحق ذلك التحرك الجماهيري الصاعد في طريق الوحدة والاشتراكية، وكانت ضربة الانفصال أخطر مؤامرة استعمارية رجعية، خُططت ونُفذت لتكون سَحقاً نهائياً للاتجاه الوحدوي الاشتراكي في الوطن العربي.

   فالانفصال- كما قال السيد علي صالح السعدي في خطابه بمناسبة الذكرى الخامسة للوحدة، في القاهرة- أريد له أن يكون «التجربة المُميتة» لمشروع الوحدة العربية ولكن النتيجة في النهاية، كانت عكس ما أراده الاستعمار، لقد فتحت الوعي الشعبي بشكل أعمق وأقوى، على واقع الصراع الطبقي على صعيد الوطن العربي، وعرَّفته على حقيقة القوى المُعادية لمصالحه ولتحرره، وكشفت له طبيعة التحالفات القائمة بين الرجعية السياسية والاقتصادية وبين الاستعمار، فماج من جديد، واندفع بشكل أقوى وأصح، ذلك التحرك الجماهيري العربي، «وتعمق أكثر فأكثر» ذلك الربط الجذري، بين هدف التحرر القومي في الوحدة، وهدف التحرر الاجتماعي في الاشتراكية.

   واليوم وبعد أن تعزز الاتجاه العربي والاشتراكي في المغرب العربي، بانتصار ثورة الجزائر، وبعد أن جاءت ثورة اليمن تفتح ثغرة كبيرة في أخطر معاقل الرجعية والاستعمار في الوطن العربي ولتفتح الطريق أمام الحركة الثورية في الجزيرة العربية، وبعد أن جاءت ثورة ١٤ رمضان لتُخرج العراق من عزلته ولترتفع بالنضال العربي كله إلى مستوى جديد، ندرك بعمق أن الحركة الثورية العربية، الحركة الاشتراكية الوحدوية، هي الحركة الظافرة في الوطن العربي، وأنها وحدها الحركة المنسجمة مع مجرى التاريخ.

   إن نضج الوعي الجماهيري، وإن هذا التفاعل المباشر بين القوى الثورية في الوطن العربي، هو الذي استطاع أن يتجاوز نكسة الانفصال، ليحقق تلك الانتصارات الرائعة للحركة الثورية العربية. إن سورية نفسها، التي تناوَلتها مباشرة نكسة الانفصال، هي اليوم أيضاً في طريقها إلى تجاوز هذه النكسة.

   فالوضع الرسمي الانفصالي القائم ما هو إلا ستارة واهية لوضع كاذب مصطنع، فوراء هذه الستارة تتحرك قاعدة شعبية ثورية كبيرة أصبحت تعي طريقها وأهدافها وأخذت توحد قواها واتجاهاتها في ساحة المعركة الدائرة ضد قوى الانفصال، وهي لا بد وأن تفرض إرادتها في وقت قريب.

                                *         *          *

   لقد أردتُ من هذه المقدمة أن أشير إلى المستوى الجديد الذي تُطرح عليه مسائل النضال الاشتراكي في الوطن العربي، فالأبحاث التي ننشرها هنا (قد كتبت أو ألقيت في مناسبات معينة، وقبل عدة اشهر) تُعالج مشكلات نظرية وعملية، من خلال الأزمة التي مررنا بها في هذا القطر العربي، أيام الوحدة، وبعد الانفصال.

   فالعقلية التي سادت الحكم أيام الوحدة، والإجراءات الاقتصادية الجريئة التي سار فيها ذلك الحكم، تطرح علينا:

   ما هي طريق الاشتراكية، وما هي أداة تحقيقها، وما هي ضماناتها؟ والانفصال، والشكل الذي جاء عليه هذا الانفصال، والأوضاع التي أعقبته، كل ذلك خلق ظروفاً جديدة أمام نضال الجماهير الاشتراكية، فما هي هذه الظروف وما هي الشعارات التي طرحها ويطرحها هذا النضال؟

   تلك هي المسائل التي تتناولها هذه البحوث، ونترك لثورة الجزائر في النهاية أن تدلنا إلى طريقها.

……………………………..

يتبع.. الحلقة العاشرة بعنوان: (الاشتراكيون أمام تجربة الانفصال).. بقلم الدكتور “جمال الأتاسي”

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.