الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

جاسم علوان.. الرجل الذي كشف نفاق البعث وحاربه

أحمد عجيل

(أحد الأسباب الأساسية لعودتي هو أن أقرأ الفاتحة على قبر والدتي) بهذه الكلمات أنهى الكهل الذي أبعد عن سوريا أكثر من 40 عاماً مقابلته مع قناة الجزيرة بعد عودته إلى سوريا إثر غيابه الطويل.

لن يصدق أحد أن هذه الكلمات يمكن أن تخرج من صاحب الرقم القياسي في الانقلابات العسكرية التي قام بها الضابط السابق في الجيش السوري جاسم علوان بهدف إعادة الوحدة مع مصر، الانقلابات التي أفشلها الضباط البعثيون أصحاب شعار الوحدة العربية!

العقيد جاسم علوان هو من مواليد دير الزور في العام 1926، نفي من سوريا في العام 1964، شارك في الحراك ضد الاستعمار الفرنسي حيث شكل مع مجموعة من أبناء دير الزور لجنة طلابية كان أمينها العام، بعد أن أنهى دراسته الثانوية التحق بالجيش السوري وكان من ألمع الضباط السوريين إذ اختير مع عشرة ضباط آخرين للذهاب إلى فلسطين قبل تخرجه من الكلية العسكرية، وكان أول ملازم يصل إلى رتبة مرافق لرئيس الجمهورية.

لم ينتسب جاسم علوان لأي حزب سياسي بسبب التزامه بقواعد الخدمة في الجيش، على عكس معظم الضباط السوريين في فترة الخمسينات والستينات حين تحول ضباط الجيش السوري إلى أذرع عسكرية للأحزاب السورية، لكنه كان متأثراً بالأفكار القومية والوحدوية ولهذا كان من بين الضباط ال 24 الذين كتبوا المذكرة التي حملها الضباط السوريون لإقناع جمال عبد الناصر في منتصف الخمسينات بالوحدة.

رُشح في أواخر فترة الوحدة مع مصر من قبل المشير عبد الحكيم عامر قائد جيش الجمهورية العربية المتحدة حينها لقيادة جيش الإقليم الشمالي (سوريا) لكن الانقلاب الذي قام به مجموعة من الضباط السوريين في 28 أيلول 1961 بقيادة عبد الكريم النحلاوي والذي أنهى الوحدة حال دون تسلمه لقيادة الجيش السوري.

يمكن تلخيص تاريخ سوريا منذ استقلالها عن فرنسا بأنه تاريخ من الانقلابات العسكرية، إذ إن عدد الانقلابات الفاشلة لوحدها يتجاوز 27 انقلاباً، في مقابل أقل من عشر انقلابات ناجحة أخرى.

بعد الانقلاب العسكري الذي أطاح بالوحدة مع مصر بدأت سلسلة جديدة من الانقلابات العسكرية كانت ظروفها ودوافعها مختلفة تماماً عن الانقلابات التي تكررت مراراً في بداية الخمسينات، أولى هذه الانقلابات كان بقيادة العقيد جاسم علوان في حلب حيث عرفت الحركة الانقلابية التي قام بها حينها باسم “عصيان حلب” وذلك في 30 آذار عام 1962 وجاءت هذه الحركة رداً على الانفصال إذ إن العقيد جاسم علوان طالب عبر إذاعة حلب بإسقاط حكومة الانفصال وإعادة الوحدة مع مصر لكن الجيش تدخل ضده وحصلت اشتباكات انتهت بالقضاء على محاولة الانقلاب وتم اعتقال العقيد جاسم علوان مع معاونيه.

بعد الإفراج عنه بفترة بسيطة لم يتوقف العقيد جاسم إذ عاد ليقوم بانقلاب جديد أو ما دعي بتمرد جاسم علوان في الثالث من نيسان عام 1962 في حلب أيضاً، وشاركه في هذا الانقلاب العقيد لؤي الأتاسي، ونجح في هذه المرة بالسيطرة على مطار النيرب العسكري شرق حلب وعلى القيادة العسكرية في حلب، ومحطة البث الإذاعي في سراقب، وبثت إذاعة حلب النشيد الوطني الذي كان زمن الوحدة وهو نشيد الوحدة، وأعلنت الإذاعة أن مطار حلب الدولي مفتوح للطائرات المصرية، وطالب علوان الحكومة والرئيس بالاستقالة فوراً وإعادة الوحدة مع مصر، لكن الانقلاب سرعان ما تم سحقه من قبل الجيش بعد وقوع الكثير من الضحايا، وأعلن بعدها الرئيس ناظم القدسي في 14 نيسان عام 1962 عودة الجيش إلى ثكناته ووضع الميثاق الوطني، والحفاظ على المنجزات الاشتراكية وتشكيل حكومة جديدة برئاسة بشير العظمة، الإجراءات التي اعتبرت في حينها ترسيخاً نهائياً للانفصال.

بعد هذا الانقلاب اختفى العقيد جاسم لمدة عام كامل خوفاً من اعتقاله، ليعود للمشاركة في الانقلاب الذي أطاح بحكومة الانفصال في 8 آذار 1963 والذي قام به مجموعة من الضباط الوحدويين والبعثيين والمستقلين والذي كان من المفترض أن يتلوه إعادة الوحدة مع مصر لكن الضباط البعثيين قاموا بحملة من التسريحات في الجيش شملت الكثير من الضباط الوحدويين والمستقلين كان أشهرهم قائد انقلاب 8 آذار اللواء زياد الحريري أثناء زيارته للجزائر واللواء راشد قطيني رئيس أركان الجيش السوري.

بسبب هذه السياسة التي هدفت إلى إقصاء كل القياديين غير البعثيين من الجيش عاد العقيد جاسم علوان في 18 يوليو عام 1963 ليقوم بانقلاب جديد في وسط دمشق، كان هذا الانقلاب الأكثر دموية بين جميع الانقلابات التي سبقته إذ إن حجم الإعدامات التي قام بها وزير الداخلية أمين الحافظ بعد فشل الانقلاب وسيطرة قيادات الجيش البعثية عليه والتي استمرت لمدة عشرة أيام تسبب بضجة في وسائل الإعلام والإذاعات العالمية وهدأت الأمور بعد إلقاء القبض على العقيد جاسم علوان.

تلت عملية الانقلاب الفاشلة عملية تسريح شملت الكثير من الضباط وصف الضباط من غير البعثيين، بسبب هذه الإجراءات قدم الفريق محمد الصوفي وزير الدفاع السوري استقالته وبسبب عدم رضى الرئيس لؤي الأتاسي عن عمليات الإعدام والتسريح التي تمت بدون موافقته قام البعثيون بالانقلاب عليه ليسلموا أمين الحافظ رئاسة الجمهورية.

ميزة هذا الانقلاب هو أنه آخر انقلاب ضد البعثيين من خارج البعثيين، إذ تم بعدها تحويل الجيش السوري والدولة السورية إلى دولة بعثية، كذلك فهذا الانقلاب تميز بالرد الدموي وعدد التسريحات الهائل في الجيش من قبل البعثيين، ذلك أن العادة جرت في الانقلابات السابقة أن عقوبة قائد الانقلاب الفاشل تقتصر على نفيه في وظيفة ملحق عسكري في السفارة السورية في إحدى الدول البعيدة.

أظهر انقلاب جاسم علوان الأخير مدى التناقض الذي يعيشه البعثيون إذ إن شعار الوحدة العربية لم يكن سوى غطاء للوصول إلى السلطة فالاتهامات التي وجهت لمن قاموا بالانقلابات كانت في منتهى السخافة فمرة اتهموهم عن طريق صحيفة البعث بالشعوبية ومن ثم بالانفصالية وأحيانا بالماسونية!

كذلك تم القضاء على الحياة السياسة وتحول السوريون إلى متفرجين على الانقلابات بين الضباط البعثيين لحين وصول حافظ الأسد إلى رأس السلطة عام 1970 ليحكم بعدها سوريا بإرهاب أجهزة الأمن ليتبعه ابنه منذ عام 2000 حتى قيام الثورة السورية في العام 2011.

بعد إلقاء القبض على العقيد جاسم علوان إثر فشل انقلابه الأخير تم تعذيبه في السجون السورية بتهمة التآمر مع المخابرات المصرية، عقدت له بعد ذلك محكمة عسكرية استثنائية برئاسة اللواء صلاح الضللي “من أبناء دير الزور” حكمت عليه وعلى رفاقه بالإعدام لكن الوساطات التي قام بها الرئيس جمال عبد الناصر عن طريق الرئيس الجزائري بن بيلا الذي كان يحظى باحترام من قبل البعثيين نجحت بدفع الرئيس أمين الحافظ بإصدار عفو عن علوان في العام 1964 ليتم ترحيله إلى مصر، وتجدر الإشارة هنا إلى أن الرئيس أمين الحافظ هو أحد الضباط ال24 الذين وقعوا وثيقة الوحدة وكان على صداقة مع العقيد جاسم علوان إذ كانا من الدفعة ذاتها في الكلية الحربية.

بعد وصول العقيد جاسم إلى مصر حاول الذهاب إلى اليمن للمشاركة بالقتال هناك ضد الانفصاليين لكن الرئيس عبد الناصر استبقاه في مصر ومنحه رتبة وزير.

بعد هزيمة 1967 التي تكبدتها الجيوش العربية أمام الجيش الإسرائيلي حاول العقيد جاسم علوان العودة إلى سوريا عن طريق لبنان لكن النظام السوري لم يسمح له بالدخول رغم محاولاته ورغم أنه حاول تقديم أي نوع من الضمانات والتأكيدات أنه قادم فقط للمساعدة في القتال وأنه مستعد للقتال تحت إمرة أي ضابط. لكن البعثيين رفضوا دخوله فعاد إلى مصر وتم تعيينه آمراً للمقاومة الشعبية في غزة.

في العام 1968 انتخب أميناً عاماً لحزب الاتحاد العربي الاشتراكي في سورية، لكنه اعتذر بسبب وجوده في مصر الأمر الذي سيحول دون قيامه بمهامه فانتخب بدلاً عنه الراحل جمال الأتاسي.

في العام 1980 وبعد نشوب الانتفاضة التي قادها الإخوان المسلمون ضد النظام السوري، اجتمعت المعارضة السورية في بغداد لتنظيم العمل السياسي والعسكري من أجل إسقاط النظام، لكن النظام سحق الانتفاضة بهمجية كبيرة تجلت في أوضح صورها بمجزرة حماة التي ارتكبتها قوات النظام في شباط 1982.

بعد سحق الأسد الأب للانتفاضة لم يتدخل العقيد جاسم في السياسة من جديد والتزم الصمت إزاء الوضع السوري، وبتاريخ 19-4-2005 وصل العقيد جاسم إلى مطار دمشق بعد وساطة من مصطفى طلاس ذلك أن العقيد جاسم علوان كان مُدرباً في الجيش لكل من مصطفى طلاس وحافظ الأسد!

في دير الزور تم الاحتفال بالعقيد جاسم، إذ نُصبت عدة خيم من أجل الترحيب به واستقبال الزوار والمهنئين بعودته، الذين قدموا لدير الزور من مختلف المحافظات السورية، فعودته بعد كل هذا الغياب كانت مفاجئة لجميع السوريين بعد كل الانقلابات التي قام بها ضد نظام البعث.

بعد أن زار العقيد العائد قبر أمه التي أوصته أن يدير وجهها في القبر إلى القبلة دون أن ينجح في ذلك بسبب عدم قدرته على حضور جنازتها، عاد العقيد جاسم علوان إلى مصر ليكمل حياته في المنفى مرة أخرى.

ومع انطلاق الثورة كان العقيد جاسم علوان قد بلغ في منفاه ما يقارب التسعين عاماً ، حيث أن قوات النظام السوري داهمت في صيف العام الأول من الثورة منزله في حي الحويقة بمدينة دير الزور وقامت بنهبه وتخريب محتوياته.

 

المصدر: الغربال

 

22 آذار 2015

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.