حسن فحص
المرشد الأعلى لن يفرط في ما تم إنجازه حتى الآن وما ضمنه من تكريس لموقع بلاده في المعادلات الإقليمية والدولية.
يمكن القول إن براغماتية القيادة العليا للنظام في التعامل مع المتحولات الاجتماعية والسياسية، لن تجد صعوبة في التعامل مع أي مستجد من خارج إرادتها أو توقعاتها، وهذا ينطبق أيضاً على التعامل مع إمكان فوز مرشح القوى الإصلاحية، بخاصة في ظل ارتفاع احتمال حدوث مثل هذا الخرق.
حادثة مقتل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ومرافقيه بسقوط المروحية فتحت النقاش الداخلي الإيراني على مصراعيه حول مستقبل السلطة والاتجاه الذي من المفترض أن تكون عليه المرحلة المقبلة.
لا شك في أن هذه الصدمة التي لحقت بمؤسسة النظام ومنظومة السلطة، وضعتها أمام تحدي انتخابات مبكرة وضرورة البحث عن رئيس جديد ينسجم مع توجهاتها، وهو ما لم تكُن مستعدة له في ظل إمكان التجديد للرئيس الموجود لدورة ثانية تستمر حتى عام 2029.
يمكن القول إن هذه الانتخابات المبكرة وما رافقها وتلاها من تطورات داخلية وخارجية، إضافة إلى ما صدر عن مجلس صيانة الدستور الذي حدد دائرة التنافس ومعركة السباق الرئاسي بين ستة أشخاص، موزعين بصورة غير عادلة أو منصفة بين التيار المحافظ الذي يتمثل بخمسة مرشحين، والقوى الإصلاحية الممثلة بمرشح واحد، وضعت السلطة ومنظومة الحكم أمام حقائق جديدة من المفترض أن تكون مؤجلة، في مقدمتها وأبرزها تعزيز القناعة لدى هذه السلطة بضرورة إخراج السلطة التنفيذية من دائرة سيطرة ونفوذ المؤسسة الدينية، من خلال الإتيان برئيس للجمهورية لا ينتمي إليها، مع الاحتفاظ بثابتة أن يكون من قوى النظام والجماعات الموالية له.
أما الحقيقة الثانية التي وصلت إليها السلطة بعد مقتل رئيسي وطبيعة المعركة الانتخابية الجارية بين المرشحين، فهي صعوبة الاستمرار في سياسة الإقصاء واستبعاد القوى والأصوات الأخرى التي لا تنتمي إلى التيار المحافظ، وبذلك فإن مسار “استخلاص السلطة” وحصرها داخل القوى المحافظة يبدو مشروعاً معقداً وصعب التحقيق، بخاصة بعد ما شهدته هذه السلطة من فشل الذين فوّضتهم إدارة البلاد، وما أبدوه من عجز عن وضع سياسات وحلول حقيقية للأزمات التي تعانيها إيران على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية.
الحقيقة الثالثة، ولعلها الأهم في هذا السياق، أن غياب رئيسي عن المشهد، والمسرح الانتخابي القائم وطبيعة الصراع الذي يسيطر عليه، أخرجت الجدل حول مسألة خلافة المرشد من التداول في هذه المرحلة، إضافة إلى أنها ستخرج رئاسة الجمهورية من دائرة التنافس على الخلافة في حال وصول رجل مدني لا ينتمي إلى المؤسسة الدينية للرئاسة، ومن ثم فإن هذا التحول يسمح لجهود هندسة الخلافة بأن تسير بصورة طبيعية بعيداً من الجدل العلني، مما يبعد المرشد من الضغوط اليومية والمباشرة، وتسمح له بترتيب مسألة خلافته بهدوء وإدارة الصراع على الخلافة داخل المؤسسة الدينية من جهة، وداخل مراكز القرار في الدولة العميقة والمؤسسة العسكرية من جهة أخرى.
ولعل التحديات الخارجية على مختلف المستويات تشكل الحقيقة التي لا يمكن للنظام أن يغض النظر عنها لارتباطها بشخصية الرئيس الذي سيتولى قيادة السلطة التنفيذية نتيجة هذه الانتخابات، خصوصاً أن القيادة تسعى إلى أن تكون نتائج الانتخابات، أو الرئيس الجديد منسجماً أو ملتزماً التوجه الاستراتيجي الذي تحاول هذه القيادة تكريسه وترتيبه في المرحلة المقبلة قبل دخول إيران في المرحلة الانتقالية ودوامة الجدل حول خليفة المرشد التي من الممكن أن تضع البلاد والنظام في مواجهة ضغوط كبيرة ربما تفرض عليه تقديم تنازلات مؤلمة.
القيادة الإيرانية، تحديداً المرشد الأعلى الذي قاد خلال الأعوام الثلاثة الماضية من رئاسة رئيسي بصورة مباشرة المفاوضات المتشعبة مع الولايات المتحدة حول ملفات إقليمية ونووية عدة، وكادت هذه المفاوضات أن تصل إلى الثمار المرجوة منها، لن يفرّط في ما تم إنجازه حتى الآن وما ضمنه من تكريس لموقع بلاده في المعادلات الإقليمية والدولية، لذلك فإنه يسعى إلى أن تكون نتائج هذه الانتخابات منسجمة مع هذه التوجهات وأن يكون الرئيس الجديد ملتزماً بها ولا يعمل على عرقلتها أو تخريبها، لأن الرئيس وإن كان لا يملك صلاحية رسم السياسات الاستراتيجية للنظام على المستويين الداخلي والخارجي، إلا أنه قد يكون قادراً على تخريبها أو عرقلتها، وتجربة الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد ما زالت ماثلة أمام جميع القوى الإيرانية بمختلف انتماءاتها.
لذلك يمكن القول إن براغماتية القيادة العليا للنظام في التعامل مع المتحولات الاجتماعية والسياسية، لن تجد صعوبة في التصرف مع أي مستجد من خارج إرادتها أو توقعاتها، وهذا ينطبق أيضاً على التعامل مع إمكان فوز مرشح القوى الإصلاحية، بخاصة في ظل ارتفاع احتمال حدوث مثل هذا الخرق.
ومن المتوقع أن تدرج القيادة هذا الفوز المحتمل للإصلاحيين في خانة ضعف أداة القوى المحافظة وعدم قدرتها أو عدم نجاحها في استعادة السيطرة على السلطة التنفيذية، وأيضاً فشلها في تكريس سياسة الإقصاء والاستبعاد والمحاصرة التي حاولت السلطة ومنظومة الحكم ممارستها مع القوى المعارضة لمصلحة القوى الموالية. لذلك فإن إمكان فوز الإصلاحيين وعودتهم للسلطة التنفيذية، لن يكون حائلاً أمام المرشد للتعامل مع المرحلة المقبلة والانتقال إلى مسار جديد يقوم على الانفتاح والعودة إلى سياسة الاستيعاب والتعاون من بوابة التعامل مع الرئيس الجديد الذي يمثل الموقع الثاني ضمن هرمية السلطة في النظام بعد المرشد الأعلى، كونه المسؤول والمدير للسلطة التنفيذية والقوة المحركة للدولة.
ويبدو أن هذه الحقائق باتت أكثر حضوراً في المشهد نتيجة التشتت المسيطر داخل المعسكر المحافظ وتعدد المرشحين، مما دفع كثيرين من أقطابه لدعوة هؤلاء المرشحين إلى الانسحاب من السباق والتوحد حول مرشح واحد يمثل هذا المعسكر، وأيضاً بعدما استخدم مرشح الإصلاحيين ورقته الحاسمة والرابحة بالاستعانة بوزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف لتشريح سياسته الخارجية، مع الالتزام التام بالسقوف التي يرسمها المرشد الأعلى الذي يملك حصراً صلاحية هذه السلطة، وإعلانه الواضح للذهاب نحو سياسة الانفتاح على العالم وفتح باب الحوار على كل الأطراف بما فيها الولايات المتحدة على أسس تضمن المصالح الإيرانية الداخلية والاستراتيجية من دون أي تنازل.
وهذه الرؤية وتولي ظريف توضيحها والدفاع عنها، يمكن أن تشكل تعبيراً واضحاً عما يشغل القيادة والنظام من هواجس في المرحلة المقبلة، وتكشف عن استعداد جدي لديها لتطبيع علاقاتها مع المجتمع الدولي وكل الجوار وتعزيز الشراكات الاستراتيجية على المستويات الأمنية والاقتصادية بما يضمن مصالح إيران ومصالح هذا الجوار.
المصدر: اندبندنت عربية