لن يكون ضرباً من العبث لو قلنا إنّ مصائر من تبقوا من الطغاة العرب حتمية، وبقدر ظلمهم تكون النهاية فرجوية ومأساوية، باعتبارها التحقّق السياسي الذي لا يبدو عارِضاً أو استثناء عابراً، لفكرة الأبد والتماهي معها، ما ينفي مُسَلَّمة أنّ المستبِدّ كالحبلِ مدلّى من جنّة النعيم، مَن تعلّق به نجا. ولعلّ أبرزهم بشّار الأسد الذي بدأ يتلقّف حراجة اللحظة الإقليمية بعدما تراكمت عليه إشارات كثيرة تجرّه الى نهايةٍ غير مُطمئِنة، ليقف اليوم أمام مفترق حقيقي، والاستحقاقات التي ظنّ نفسه قادراً على اللعب على حبالها فترة أخرى لم تعد قابلة للتأجيل.
ولتحويل دفّة المقال إلى الموضوعية من دون نسبتها إلى حقول صراعية أو انفعالات مريرة، يصحّ الجزم إنّ انقلاب معادلة الحكم في سورية وسيادة سلطات الأمر الواقع وازاه تغيّرٌ إقليمي كبير، ومردّ ذلك حالة التقاطع والتشابك المعقّد بين مدخلات الثورة ومخرجاتها، فسيناريو بقاء الأسد حتّى اللحظة، بوصفه “النظام الضرورة”، لا يتسم بالمنهجية نفسها التي تفترض بقاء عناصر القوة لديه، بل يفترض ما هو أسوأ من ذلك، من منطلق الواقعية السياسية، لأنّ الأسد يحاول التعامل مع الأزمة السورية كلاعب الأكروبات، ويعتقد أنه قادرٌ على السير بخفةٍ مثيرةٍ على الحبل الفاصل بين الأصدقاء والأعداء. يبحث عن حججٍ تحمل في ذاتها نقيضها لإقناع الحليفتين بضرورة بقائه، بينما يلخّص الأميركي، جيفري فيلتمان، وهو من أبرز الخبراء في الملف السوري، مصير الأسد بقوله “لا أظن أنّ حكم الأسد مضمون على المدى الطويل، وأعتبر أنّ إيران وحزب الله وروسيا الذين سارعوا سابقاً إلى إنقاذه عسكرياً لن ينقذوه اقتصادياً هذه المرّة”. يعزّز هذه الرؤية أنّ الحليف الروسي على درايةٍ تامة بتلاعب بشّار الأسد ونزقه الانفعالي، وثمّة صحفٌ روسيةٌ تحدثت عن مماطلة الأخير في تنفيذ وعودٍ تعهّدَ بها للروس الذين لديهم ما يقولونه وما يفعلونه، ولو بعد حين. وعليه يتشارك الروس مع الإيرانيين ازدراءهم رأس النظام السوري، الذي يتوهم أنه المنتصر حتّى في هزيمته، ولا قبر أبداً يتّسع لجثته السياسية المتعفنة.
وبفعل الأثر المتضافر للمعطيات آنفة الذكر، فإنّ بشار الأسد قارئٌ جيد للمخاطر المحدِقة به وبنظامه، ويدرك تماماً أنّ الحاجة إليه، إسرائيلياً وأميركياً، قد ضعُفت، وأنه أهدر كلّ الفرص التي قُدّمت له للتغيير والإصلاح الحقيقيين، ما صعّد نبرة التقريع العربية في الآونة الأخيرة، حيث أكدّ مجلس التعاون لدول الخليج العربي على دعم الحل السياسي في سورية بما ينسجم مع قرار مجلس الأمن 2254، وطالب النظام السوري في بيانٍ له، وخلال اجتماعه على المستوى الوزاري في الدوحة، بتنفيذ التزامات اجتماعَي عمّان والقاهرة، كذلك مقرّرات لجنة الاتصال العربية الخاصة بسورية. مع هذا، ما زال الأسد يقابل المطالب العربية باستجابة “صفرية”، مع تأكيده الشعاراتي المستفِزّ على فكرة الانتصار ومحاربة الإرهاب. هو العاجز أصلاً عن استرضاء الغرب بإبداء الاستعداد لإخراج الإيرانيين والروس، ولا يُصدِر من حنجرته إلّا كلمات مجلجلة تتعلّق بخروج الأتراك، بينما لا تخفى نياته العدوانية تجاه جيرانه العرب، من بينها سعيه الحثيث إلى زعزعة استقرار الأردن، وهو أساس مبادرة عودة سورية لإشغال مقعدها في جامعة الدول العربية. إلى هذا كله، المشهد السوري الحالي، وما سيحمله من تطورات استتباعاً بحرب غزّة وتداعيات خلط الحسابات الإقليمية والدولية على أرض المنطقة، يغذّي حالة ارتياب مزمنة يعانيها الأسد من ملابسات مصيره المقبل، خصوصاً بعد ابتعاد زوجته، “حليفته”، وبطريقةٍ مثيرة للشبهات، بينما عليه المساومة مع جنرالات منتفخي الأوداج، ومليشيات مافياوية تدسّ أنفها في الشاردة والواردة، في وقتٍ تحوّل فيه قاداته “الأوفياء” إلى “نجوم” عابثين، يشعلون الحرائق السياسية عمداً ويتظاهرون بالقدرة على إطفائها.
وفي نطاق ما يسمح به الواقع السوري من قراءاتٍ ممكنة، يبدو أنّ المغامرة المتفائلة في الحرب على أوكرانيا تحوّلت إلى مستنقعٍ تغوص فيه روسيا، ما انعكس سلباً على نفوذها في سورية، ليستفرد الإيراني في السيطرة الميدانية على مناطق النظام، بينما ظهرت تخبّطات عدّة، ومن زوايا مختلفة، أبرزها انشغال الأسد التهريجي في تغيير “الجواكر الأمنية” في محاولةٍ للهروب إلى الأمام، بالإيحاء للعالم عن ولوجه باب التغييرات، لكسب مزيدٍ من الوقت. هو المحاصر بإفلاسه السياسي وبقضية المخدّرات وبجوع مواليه وبملف اللاجئين وبعقوبات دولية. وأيضاً محاصر باللعنة الإيرانية التي تضيّق الخناق عليه، وتدلّل على ذلك زيارة وزير الخارجية الإيراني بالوكالة بعد أسبوعين من فقدان بلاده رأس هرم السلطة، والذي راح يصول ويجول على الأرض السورية من دون ضابط أو رادع. وبنظرة راجعة، يتضح أنّ النفوذ الإيراني بات منفلت العقال عن سيطرته، ولم تتورّع مليشيات مرتبطة به عن إطلاق صواريخ من محيط الجولان باتجاه إسرائيل في رسالةٍ واضحة إنّ هدوء الجبهة لم يعد من عوامل قوة الأسد، بل أصبح ورقة إيرانية خالصة. وثمّة عقبة أخرى تعزّز السياق الشائك، وهو الحديث عن عودة المباحثات الأمنية بين أنقرة ودمشق، وبوساطةٍ عراقية. ورغم أنّ شروط الأسد وملف قوات سوريا الديمقراطية (قسد) قد يعيقان التوصل إلى أيّ تسوية مُرضية، فإنّ تركيا غالباً ستفضّل عدم اتخاذ قرارات استراتيجية قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة، التي ربما، وبفوز ترامب، ستمثل فرصةً لإعطائها دفعة جديدة لدورها في المنطقة.
ولفهم المآل السوري الراهن، بالتساوق مع الذكرى الرابعة والعشرين لرحيله، لا بدّ من التعريج على فلسفة حافظ الأسد العميقة التي كانت تستند إلى استمرار حال اللاحرب واللاسلم في المنطقة، إذ كان يعرف مطالب إسرائيل ويتفهّم همومها، ليبتكر تعويذته السحرية عبر تسويق حنكته السياسية التي كرّست صورة نمطية له، ربما غير موجودة في الواقع، لكنّها مؤثرة وباقية. ولذا نجح في إقامة توازنٍ دقيق للغاية بين سلطته الداخلية وتوفير الدعم والتغطية الدوليين خارجياً، فصنع دوراً محورياً لسورية، لكنّه فشل في إيجاد مستقبلٍ لها. على التوازي، لا يبدو تعبيرٌ مؤسسيّ مُهَلهَل أن يُوصف بشّار الأسد بأنه حاملُ أختام ساذج أو وكيلٌ محلّف ضيّع جمهورية الرعب التي جَهِدَ الأب في تأسيسها. والروايات التي تدلّل على هذه الحال كثيرة، أهمها عجزُه عن فَهْـم المتغيّرات الدولية التي رافقت اندلاع انتفاضات الربيع العربي، فخسر أوراقه الاستراتيجية بالتزامن مع خسارته أهَـم ركائز هيمنته، وهي ثيمة الخوف، وقدرة أذرعه الأمنية على الإمساك بالسوريين.
تحتشِـد الوقائع السابقة كمطبّاتٍ خطرة تضع بشّار الأسد في مأزقٍ غير مسبوق، وأيّ من السيناريوهات المطروحة ستقذف سفينته إلى مضائق لا مخارج لها. يندرج ضمن هذا المنطق أنّ حفلة “المساخر” السياسية التي يعيشها الأسد ليست إلاً موقفاً صريحاً بأنّ ما يهمّه استمرار نظامه، ولا بأس في سبيل ذلك لو استمرّت المقتلة السورية إلى الأبد. لذا لا حاجة للدخول في محاججاتٍ كثيرة عن انعدام الجدوى من تأهيل الرجل الذي يقوم بنفسه بالمهمّة، فيردّ بأفعاله وأقواله على ادّعاءاته، ولا يحصد في المقابل إلّا الاستضعاف والاستلحاق. هو الذي يحكم بالحديد والنار بلداً لا يعرف عنه شيئاً، لذا يعيش في عالمٍ منفصمٍ، بينما يتفنّن بالرقص البهلواني على حبال السياسة، ويفوته أنها ليست قويةً بما يكفي كي لا تتقطّع، وتُدقّ رقبته يوماً ما.
المصدر: العربي الجديد