الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الكتابة لطرد البشاعة

حازم نهار

لماذا نكتب؟ ولمن نكتب؟ وماذا يمكن أن تضيف الكتابة، بشكل عام، إلى الواقع والبشر؟ سؤال الكتابة، وجدواها وتأثيرها، سؤال قديم جديد، ملازم للوعي الإنساني، ويعود هذا السؤال -دائمًا- إلى الواجهة في الأزمات، وبعد الهزات العنيفة التي تتعرض لها عقول وأرواح البشر، وبشكلٍ أوضح، عندما يصبح الواقع آسنًا، وأكثر تعقيدًا ومرارة؛ ما يعني أن السؤال يحتوي، ضمنيًا أو ظاهريًا، شيئًا من الشكّ في جدوى الكتابة وقدرتها على تغيير الواقع وحياة البشر.

على الرغم من أن الكتابة تعتمد -أساسًا- على الفرد/ الكاتب، الذي ينطلق من ضروراته ومشاعره وفكره، إلا أن الحاجة إلى الكتابة تبقى حاجة جماعية، لا يمكن للبشر والمجتمعات والدول أن تعيش، أو تتطور، من دونها، وهذا ما يزيد من المسؤولية التي تقع على عاتق المثقفين وأصحاب الرأي والفكر.

بعض الكتاب تلتهمهم طاحونة الشيء المعتاد، فيكتب لأنه اعتاد الكتابة، لا أكثر؛ يكتب لأنه منذ سنوات طويلة، وهو في حلبة الكتابة، ولا يعرف هوية أخرى تحدِّده غير الكتابة؛ وربما لذلك، نجده يكتب مكرِّرًا نفسه في النصوص التي ينشرها، أو يكتب بعقلية الموظف الذي ينتظر “راتبه” الشهري؛ ما يُفقد الكتابة -كلها- وظيفتها وجدواها.

الكتابة الحقة مرتبطة -بشكلٍ وثيقٍ- بالضمير والمعرفة والواقع؛ فالكاتب الحصيف يقف وسطَ مثلث متساوي الأضلاع، وينظر إلى رؤوسه الثلاثة: الرأس الأول هو الضمير/ الأخلاق، فعلى الكاتب ألّا يكون مُنحازًا إلا لغاية واحدة، يجعل منها هاجسه الأوحد، وهي “الحقيقة”؛ والرأس الثاني المعرفة، فالكتابة مرتبطة بوعي الكاتب وعمق ثقافته، وكلما زاد وعيه، زاد إحساسه بمسؤولية الكلمة، من جهة، وزاد اقترابه من الحقيقة والموضوعية، من جهة ثانية؛ والثالث هو الواقع، فمن لا يتابع الواقع وتفاصيله، وأحيازه وتغيراته، لن تصبّ كتابته إلا في إطار الترويج للوهم.

في ميدان الفكر، الكتابة الحقة هي الكتابة النقدية، وغيرها حبر لا قيمة له؛ فعلى الكتابة -في الحدّ الأدنى- أن تقول ما يجرح، مع أمل أن تداوي أيضًا. لكن بالمقابل، للكتابة النقدية معايير وشروط، ومن دونها يتحول النص المكتوب إلى “ترهات” وكلام فارغ، لا يضيف شيئًا، ولا يستفيد منه أحد.

الكاتب الحاذق، خصوصًا في حقلي الفكر والسياسة، لا يعدّ نفسه مركزًا للعالم، لأن كتابته -آنذئذ- لن تكون أكثر من نصٍّ، يسرد فيه عُقَده النفسية؛ ومعنى ذلك أن الكاتب الجيد يتحلى -بالضرورة- بصفة التواضع، فلا يكتب بيقين مطلق، على الرغم من إيمانه العميق بما يكتب، فغالبًا ما يؤرقه الشك، ويفكر كثيرًا في كلماته، يسأل نفسه عن النص الذي يكتبه: هل سأندم عليه بعد عقدٍ من الزمن مثلًا؟؛ ما يدفعه لأن يكون حذرًا ودقيقًا، يحاسب نفسه قبل أن يحاسبه الآخرون أو التاريخ. هذا لا يعني قطعه الطريق على إمكان تغيير رأيه مستقبلًا؛ فباب التغيير يطال الجميع، لكن طرح السؤال على النفس يخفِّف من تأثير المشاعر، والانفعالات الموقّتة، في الكتابة.

حدّان كريهان في الكتابة، هما الشعبوية والتحقيرية؛ فكثير من الذين يكتبون في نقد المثقفين والسياسيين الشعبويين، ينطلقون من أرضية نخبوية مريضة، تحتقر البشر؛ وكثير -أيضًا- من الذين ينتقدون نخبًا مثقفة وسياسية يتحولون إلى باعة جوالين، ينشدون رضا وتصفيق البشر. إن الكاتب الحاذق غير مسكون بعقدة “الجكارة” التي تحوِّل صاحبها إلى مريض نفسي، هاجسه الوحيد تمييز نفسه من الآخرين، وإظهار أنهم لا يفهمون ويدركون مثله؛ ومن جانب آخر، لا تغرّه نشوة ازدياد “المريدين”؛ فيتحول أسيرًا لهم، يكتب ما يتوافق معهم، وما يرغبون فيه.

بالمعاني السابقة، تصبح الكتابة فعلًا مقاومًا، فعلًا يساهم في مقاومة الشر والأشرار، فعلًا يدفع الموت عن أنفسنا، وعن الآخرين، فعلًا غايته الدفاع عن الإنسان، والانتصار لقيم الحب والخير والتنوير، ولمبادئ الحرية والكرامة والعدالة.

نكتب؛ لأننا نؤمن بأن كل شيء يبدأ بالكلمة، وبهدف طرد البشاعة وإحلال الجمال.

المصدر: جيرون

 

 27 يوليو 2016

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.