(الحرية أولاً) ينشر حصرياً الكتاب المفقود «في الفكر السياسي» بجزئيه، للمفكرين “الأربعة الكبار”، وهذه الحلقة الثامنة من الجزء الثاني– بعنوان: (النتيجـــة وملاحظة ختامية).. بقلم الأستاذ “ياسين الحافظ”
(7)
النتيجــة
نعيد الآن السؤالين التاليين:
1- ما هي حقيقة الدور الذي يلعبه نظام عبد الناصر ونتائجه الفعلية في الميزان العام للنضال ضد الاستعمار والرجعية العربية?
2- ما هو الموقف السياسي الذي يجب أن تتخذه القوى الثورية العربية من نظام عبد الناصر?
ثمة حقائق ونتائج عديدة يمكن استجرارها مما تقدم ومن المناخ العام للنضال العربي:
أولاً- إن نظام عبد الناصر يلعب دوراً أساسياً في الكفاح العربي العام ضد الاستعمار والرجعية العربية، وإن هذا الدور هو- من الناحية الموضوعية- دور تقدمي، فهو قد فتح أمام التطور العربي آفاقاً واسعة جديدة، وحول الحركة القومية العربية إلى قوه تاريخية، وفتح إمكانية عملية أكيدة لتحقيق الوحدة العربية، وحل التناقض الأساسي في المجتمع المصري (تناقض رأس المال والعمل) مما أعطى الحركة القومية العربية طابعاً اشتراكياً وحولها إلى حركة الجماهير الشعبية. إن الحركة القومية العربية بدون مصر عبد الناصر ستتقهقر بالشعب العربي- في المشرق بخاصة- إلى ما كانت عليه قبل تموز/ يوليو ١٩٥٢ حيث الظلام الاستعماري الرجعي يلف المشرق العربي بأكمله. إن أي حديث عن التحرر من الاستعمار (بشكليه القديم والجديد) وتصفية اسرائيل (لا درء خطرها فحسب) بدون مصر عبد الناصر أكذوبة وخدعة يروجها عملاء الاستعمار والمُلتقون معهم من المرتدين والحاقدين والشعوبيين. لقد كانت مصر عبد الناصر- ولا تزال- القاعدة الصلبة المُخلصة لدعم حركة النضال العربي في مشرق الوطن العربي ومغربه. قد فتحت صفحة جديدة ناصعة في التاريخ العربي المعاصر.
ثانياً- إن التجربة الثورية المصرية ليست تجربة رائدة.. إن نظام عبد الناصر ليس النظام الثوري النموذجي، بسبب فقره الأيديولوجي وافتقاد أهدافه الاشتراكية الدقة والوضوح والتحديد وبسبب إغراقه في البيروقراطية وانعدام النفحة الشعبية في أساليب نضاله وأدواتها.
كل هذا يجعل وضع نظام كهذا في سدة القيادة للحركات الثورية العربية أمراً غير سليم وغير مضمون النتيجة، لأن نظام عبد الناصر ليس في مستوى قيادي من وجهة أيديولوجية، لذا فإن إمساكه الزمام سيكلس انطلاق الحركات الثورية ويجعلها ذيلاً لنظامه ويُفقدها مبادرتها وحيويتها وطلاقتها ومرونتها، فهو إن لم يرجع بها خطوة إلى الوراء، فسيجعلها «طبعات» جديدة ومشوهة لما يجري في القطر المصري. أما الجانب الآخر من الموضوع ، فهو أن تسليم زمام عمل ثوري لنظام لم يُصبح بعد في منطقة الأمان (بسبب افتقاده الركائز الشعبية) سيجعل مجمل النضال الثوري ضرباً من المغامرة. إن الأهمية التاريخية للدور الذي لعبه- ويلعبه- نظام عبد الناصر لا تبرر أبداً تسليمه الزمام، ولا تبرر-بالتالي- تحويل النضال العربي الشعبي إلى «قفزة إلى المجهول». لقد أكدت تجربة الانفصال هذه الموضوعة.
ثالثاً- إن وجود تناقضات بين الحركات التقدمية العربية أمر واقعي وحتمي أيضاً. إن هذه التناقضات ناجمة عن السيماء الاجتماعية لكل حركة ومدى نضجها واختلاف مستوياتها الإيديولوجية، كما أنها نابعة عن مدى تغلغل الروح الثورية الشعبية فيها، وهي- من حيث الأساس- إحدى نتائج التجزئة.
إلا أننا يجب أن نفهم بدقة نوعية هذا التناقض لكي نستطيع أن نحدد الموقف العملي الذي يُمليه، لأن الانتهازية التي تنسُب نفسها لليسار في القطر السوري قد حاولت تشويهه وتحويله إلى عداء بين هذه الحركات، فانتهت إلى خنادق الرجعية.
إن التناقض الرئيسي- والعدائي بصورة واقعية- في عملية تطور الشعب العربي في مسيرته نحو الوحدة والاشتراكية (وهو التناقض الذي يقرر وجوده وتطوره وجود التناقضات الأخرى ويؤثر فيها) هو التناقض بين الشعب العربي من جهة وجميع القوى المعادية لوحدته واشتراكيته من جهة اخرى.
أما التناقض بين طبقات الجماهير الشعبية وفئاتها (وعملياً التناقض بين الحركات السياسية المعبرة عن الجماهير والملتزمة بها) فهي تناقضات جزئية وثانوية، وحسب تعبير ما وتسي تونغ أنها تناقضات غير متعارضة وودية، وهي ممكنة الوجود مع كون المصالح الأساسية والعامة والبعيدة لتلك الحركات واحدة من حيث الجوهر. هذا هو الطابع الجوهري للتناقضات الموجودة بين الحركات التقدمية العربية، لذا فإن مسألة العلاقات بين هذه الحركات هي «تعيين الحدود بالضبط بين الصواب والخطأ»، وهذا يعني وجوب حل التناقضات غير المتنافية من وجهة نظر التناقضات المتنافية والرئيسية وبوحيها وعلى أساسها. هذه هي النظرة العلمية والثورية التي ينبغي أن تملي المواقف السياسية للقوى الثورية العربية فيما بينها بشكل عام ومن نظام عبـد الناصر بشكل خاص.
وفي حدود هذه النظرة وبوحيها يتصرف ثوريو الجزائر تجاه نظام عبد الناصر.
رابعاً- إن انتصار ثورة الجزائر (وهي الثورة التي أغنت التجربة الثورية العربية من حيث عقلها العلمي ووعيها العميق وسعة أفقها وارتباطها العضوي) بالجماهير قد دفع بالنضال العربي إلى مرحلة انعطاف جديدة، وأصبح المناخ السياسي النضالي مهيأ لالتقاء جميع الحركات التقدمية العربية الملتزمة بالجماهير. إن جهة كهذه أصبحت من مقتضيات وضرورات النضال العربي الراهن، وإن الاتحاد الاشتراكي العربي في القطر المصري لا بد أن يكون أحد أطرافها الأساسيين.
وستحقق هذه الجهة ما يلى:
آ- تجسد وحدة النضال العربي تجسيداً عملياً وتقود نضال الجماهير على مستوى الوطن العربي، وتخلق بالنتيجة الأدوات الموضوعية لتحقيق الوحدة العربية.
ب- تتيح إمكانيات واسعة لخلق تنظيم جدي مخطط ومدروس لإنشاء أجهزة (كادرات) ثورية في جميع أنحاء الوطن العربي.
ج- تزيل التناقضات الجزئية وغير المتنافية بين أطراف الجبهة، وتصهر جميع الحركات الجماهيرية العربية في بوتقة إيديولوجية ثورية واحدة، عن طريق تبادل النقد والنقد الذاتي والرقابة المتبادلة وتبادل الخبرة والتجربة.
إن مثل هذه الجبهة ستكون- من حيث المبدأ- الوسيلة الصحيحة لممارسة نقد إيجابي بناء لجميع الظاهرات السلبية في التجربة المصرية، كما ستكون عوناً للعناصر الثورية المصرية في نضالها ضد جميع العناصر المعادية للثورة وللاشتراكية في مصر.
* * *
ملاحظة ختامية
لقد أُنجزت هذه الدراسة قبل انفجار ثورة (۸) شباط/ فبراير المجيدة في العراق، وبمزيد من الاحترام والثقة والاعتزاز استقبلت الجماهير العربية موقف قادة الثورة من عبد الناصر، لقد جاء هذا الموقف منسجماً مع مطامح الجماهير وتطلعاتها نحو لقاء عربي ثوري واسع. ففي رجولة ثورية التقوا بعبد الناصر، وبمنطق علمي صافِ تحدثوا إليه، وفي صراحة كاملة مطلقة بسَّطوا الطريق الوحيد للنضال العربي.. طريق الجماهير المنظمة.
لقد وضع ثوريو العراق البواسل تجربة عبد الناصر في مكانها الحقيقي من التيار الثوري العربي، وجابهوا- بروح إيجابية عادلة- عبد الناصر بالذات والجماهير الشعبية بعامة بهذه الحقيقة. ومن هذا المنطلق الثوري والموضوعي أصبح ممكناً تخطيط سياسة جديدة علمية للنضال العربي.. سياسة لا يمكن أن تفاجأ بـ «٢٨ أيلول/ سبتمبر» جديدة.
مع ثورة العراق الجديدة بدأ يلوح في الأفق شراع سفينة الوحدة العربية والاشتراكية. وفي مواجهة واعية مسؤولة للظروف النضالية الجديدة في الوطن العربي بشكل عام، ولتجربة عبد الناصر بشكل خاص، تطرح الجماهير العربية في الوطن العربي كله المهام التالية على ثوريي العراق بخاصة على الثوريين العرب بعامة:
1)- بناء نظام جديد في العراق ديمقراطي شعبي بقدر ما هو جذري وثوري.. نظام خالٍ من الجوانب السلبية في نظام عبد الناصر، مبرء من الشوائب المتخلفة والظواهر البيروقراطية والبورجوازية في ذلك النظام. وبكلمة: إن ثوريي العراق مطالبون بتجاوز تجربة عبد الناصر إلى تجربة أكثر جذرية وأوسع أفقاً وأوثق ارتباطاً بالجماهير. وإذا كانت تجربة عبد الناصر لا تزال تجتذب الجماهير العربية، فذلك بسبب جوانبها الإيجابية من جهة وبسبب فقدان نموذج عربي ثوري أعلى من تلك التجربة من جهة أخرى.
2)- إن المهمة المطروحة على الثوريين العرب ذات طابع مزدوج: فهي تقتضي التعاون الإيجابي المُخلص وإلى أقصى حد مع نظام عبد الناصر من جهة والسعي لتطويره من مجرد ظاهرة تقدمية إلى ظاهرة نموذجية من جهة أخرى؛ لأن التجربة الاشتراكية في القطر المصري ليست ملكاً للشعب العربي في مصر فحسب، بل هي ملك للشعب العربي بمجموعه من الخليج إلى المحيط. وإذا كان النضال لتطوير نظام عبد الناصر مهمة مطروحة على جميع الثوريين العرب، فغن هذه المهمة مطروحة بشكل خاص واستثنائي أمام السلطة الثورية في كل من العراق والجزائر. إن النجاحات الإيجابية التي يمكن (ويجب) أن تتحقق في القطرين المذكورين، هي الأداة الحقيقة الفعالة إلى أقصى حد لتطوير نظام الحكم في مصر.
3)- لقد بُني نظام عبد الناصر، لبنة فلبنة، خلال مدة تنوف على العشر سنوات، لذا فإن تحويله إلى نموذج أعلى يقتضي نفساً طويلاً في النضال الدؤوب الإيجابي الواعي. إن بناءً شُيد خلال هذه المدة الطويلة لا يمكن تطويره بطريقة عجائبية مدهشة وأسلوب سحري سريع. إن إرادة التغيير، التي لا تكل ولا تلين، المقرونة برغبة أكيدة في مع هذا النظام، بعجره وبجره، هي الطريق الوعر الطويل الذي لا بد أن تشقه القوى الثورية العربية خلال نضالها ضد الظاهرات السلبية والمتخلفة في هذا النظام.
هذا هو الموقف الثوري العلمي الوازن من نظام عبد الناصر، وإن الشعارات الحماسية البراقة، التي يُطلقها شباب لا نشك في نواياهم الطيبة، (ونحن قد اسقطنا من الحساب الجواسيس والعملاء والمرتدين والشعوبيين والرجعيين) حول النضال «ضد الحكم الدكتاتوري» ووضعه في مصاف الحكم الرجعي.. كل هذا لا يستطيع أن يُخفي حماقة هؤلاء وجهلهم «ومراهقتهم النضالية» و« غباءهم التقدمي».
الشعارات «الثورية!!» ليست ضرباً من الهيجان المراهق الذي لا يُلامس الواقع والمُفرغ من أي مضمون موضوعي، بل هي وليدة تحليل علمي للظروف الموضوعية الملموسة.
والظروف الموضوعية في القطر المصري، تجعل العمل لتقويض نظام عبد الناصر ضرباً من الجنون أو العمى السياسي (إن لم يكن العمالة المقنعة المباشرة للاستعمار والرجعية العربية). إن هدم نظام عبد الناصر لن يأتِنا بنظام أعلى، بل بالضبط، سيجلب الظلام والموت… سيأتي بنظام الباشوات من عملاء الاستعمار ومن الإقليميين المصريين.
……………………………..
يتبع.. الحلقة التاسعة بعنوان: (مستوى جديد للحركة القومية العربية).. بقلم الدكتور “جمال الأتاسي”