الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

«ندابات يونيو».. استهداف عبد الناصر مجدداً!

عبد الله السناوي *

إنه الثأر مجدداً، الاستهداف نفسه. الثأر من مشروعه قبل شخصه.

تعاقبت العقود على رحيله دون أن ينقضي إلهامه، الذي تجدد بالحنين إلى مواقفه وسياساته في حرب الإبادة على غزة.

مراجعة أسباب الهزيمة العسكرية في حرب (5) حزيران/ يونيو (1967) من ضرورات استيعاب دروس التاريخ حتى لا تتكرر الأخطاء نفسها مستقبلاً. هذه مسألة تختلف جذرياً عن تكريس ثقافة الهزيمة في الوجدان العام.

الادعاء بأن إسرائيل حاربت دون سند أمريكي، أو تخطيط مُسبق مع إدارة الرئيس الأمريكي «ليندون جونسون»، وأن إسرائيل كانت وحدها، محض كذب مُتعمد ومدفوع.

كان عام (1966) مُنذراً بأن هناك شيئاً قد يحدث استهدافاً لإجهاض التجربة الناصرية، فقد توالت الانقلابات ضد رموز حركة التحرر الوطنى واحداً إثر الآخر.

في تلك الأجواء جاء رئيس الوزراء الباكستاني «ذو الفقار علي بوتو» للقاهرة بما توافر لديه من معلومات وتسريبات ليُحذر «جمال عبدالناصر»: «إنهم خارجون لاصطيادك يا سيدي الرئيس».

لم تكن مصادفة أن يُطلق الأمريكيون على حرب حزيران/ يونيو: «عملية اصطياد الديك الرومي»، الذي يتيه بقيادته للحركات التحررية بالعالم الثالث كله.

في ذلك العام المُنذر حذرت أعمال مسرحية وروائية من أن هناك شيئاً قد يُداهم «عبدالناصر» وينال من تجربته.

هو نفسه أكد ذلك المعنى في خطاب ألقاه بـ(2) أيار/ مايو (1967): «إن الاستعمار والرجعية العربية لن يغفروا لنا ما فعلناه».

مع ذلك لم يكن هناك تنبُه كافٍ للخلل الفادح في بنية قيادة القوات المسلحة. كان معزولاً تماماً عما يحدث فيها.

هذه حقيقة حجبتْ عنه المعلومات الكاملة في وقته وحينه.

إنها مسؤوليته السياسية التي يتحملها وحده فقد كان ينبغي له بقدر الثقة الهائلة فيه أن يحسم قبل أن تقع الواقعة.

إثر الهزيمة حاكمَ نظامه، كما لم يحدث من قبل أو بعد، والوثائق والمحاضر منشورة لمن يريد أن يقرأ، وأعاد بناء الجيش من تحت الصفر على أسس احترافية وحديثة مكنته من خوض حرب استنزاف لمدة ثلاث سنوات كانت البروفة النهائية لعبور الجسور في تشرين الأول/ أكتوبر (1973).

«لن يتركوني أبداً حتى ينالوا مني قتيلاً، أو سجيناً، أو مدفوناً في مقبرة مجهولة».

أطلقَ «عبدالناصر» هذه الكلمات، بكل حمولاتها السياسية والإنسانية، أمام نجله الأكبر الصديق الراحل «خالد» في كانون الأول/ ديسمبر (1969) في ذات اليوم الذي استمع فيه إلى تسجيلات التقطتها ميكروفونات حديثة في مدخل السفارة الأمريكية وصالونها وغرفة الطعام والبهو الأعلى بمبناها، في عملية أطلق عليها «الدكتور عصفور»، التي كشف عنها الأستاذ «محمد حسنين هيكل».

كان الكلام المُسجل، الذي استمع إليه وكتب نصه على ورق أمامه، بتاريخ اليوم السادس من هذا الشهر، بالغ الخطورة إلى حد دعا رئيس المخابرات المصرية «أمين هويدي» أن يحمله بنفسه دون إبطاء إلى الرئيس.

وفق ما هو مسجل فإن قيادات الدولة العبرية توصلت إلى استنتاج أن «بقاء إسرائيل رهن بالقضاء على ناصر.. وأنه يجب الوصول إليه بالسُم، أو بالمرض خشية أن يُفضي أي إنجاز عسكري للقوات المصرية إلى مد جديد لحركة التحرر الوطنى في العالم العربي لا تقّدِر على صده».

هنا بالضبط معزى استهدافه حياً وميتاً، ألا يُلهم مشروعه مداً تحررياً جديداً، وألا تقود مصر مجدداً عالمها العربي سعياً لتوحده في دولة منيعة.

لم يكن ما قاله السيناتور الأمريكي «جون ماكين» في ميدان التحرير أثناء ثورة كانون الثاني/ يناير (2011): «لا نريد عبدالناصر جديداً» تجديفاً في الفراغ السياسي بقدر ما كان تلخيصاً لنوع النظرة إلى مصر التي لا يريدونها.

لم تكن مصادفة أخرى أن الذين يهاجمون «عبدالناصر» بالتفلت الأخلاقي واللفظي، هم أنفسهم الذين يتبنون السردية الإسرائيلية وينحازون إليها في حرب الإبادة على غزة.

إنهم يكرهون «عبدالناصر» والمقاومة الفلسطينية معاً.

هم أنفسهم الذين يتعمدون إهانة «صلاح الدين الأيوبي» بدوره في تحرير القدس، ونزع القداسة عن المسجد الأقصى، تسويغاً موارباً، لبناء الهيكل المزعوم محله.

هذا وحده كافٍ لإزاحة كل الأقنعة عن كل الوجوه.

القضية ليست «عبدالناصر»، بل ما يرمز إليه.

مع بدء الانقلاب على توجهات ثورة تموز/ يوليو نشأت ظاهرة «ندابات يونيو»- حسب التعبير الشهير، الذي أطلقه الكاتب الصحفي الأستاذ «محمد عودة» سبعينيات القرن الماضي لتكريس الهزيمة قدراً لا فكاك منه في الوجدان العام.

في تشرين الأول/ أكتوبر (١٩٧٣) عَبرَت مصر قناة السويس، وكان يُفترض أن تعبر أي مشاعر لحقت الهزيمة، لكنها تكرست.

النتائج ناقضت التضحيات والسياسة خذلت السلاح.

كان الوجه الآخر لتبديد ثمار النصر في تشرين الأول/ أكتوبر هو تكريس الهزيمة في حزيران/ يونيو.

مصر التي انتصرت- بغض النظر عن أية مساجلات في حجم النصر- كان يتعين عليها أن تطوي صفحة الهزيمة، غير أن ذلك لم يحدث عن سبق إصرار، كأننا لم نحارب ولم ننتصر، وكأن إسرائيل قوة لا تُقهر والهزيمة قدر.

بين تحولات السياسة والانقلابات الاستراتيجية نشأت صناعة الهزيمة في الوجدان العام، فـ«أكتوبر آخر الحروب»، و«لن نحارب بالنيابة عن الفلسطينيين والعرب لآخر جندي مصري»، كما تردد على نطاق واسع في الخطابين الإعلامي والسياسي.

جرى تسطيح قضية الصراع العربي الإسرائيلي، وقضية الأمن القومي المصري الذي دافعت عنه قواتنا قبل أي شيء آخر.

كانت تلك هي الهزيمة الحقيقية.

وقد لامس الشاعر الكبير «أحمد فؤاد نجم» أعمق ما بالقصة كلها، في قصيدة دوَتْ منتصف ثمانينيات القرن الماضي عن «عبدالناصر»، الذي هجاه في حياته، حين أنْشدَ على غير توقع وانتظار، وبلا مقدمات معلنة:

«عمل حاجات معجزة وحاجات كتير خابت

وعاش ومات وسطنا

على طبعنا ثابت

وإن كان جرَحْ قلبنا كل الجراح طابت

ولا يطولوه العدا

مهما الأمور

جابت».

هكذا لخص رمزية الصراع على المنطقة، رافضاً أن يتمكن الأعداء من «عبدالناصر» مشروعاً وإرثاً وطنياً «مهما الأمور جابت».

* كاتب صحفي مصري

المصدر: الشروق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.