إذْ يرى نتنياهو السفّاح في جيشه القاتل غير المقاتل أنّه “الأكثر أخلاقيّة” فلا بدّ من أن يكون مُصاباً بالعمى الأخلاقيّ الكامل. ومحظوظةٌ غزّة بأنّ مَنْ أباد عشرات الألوف من مدنييها أطفالاً ونساءً وشيوخاً من الأبرياء غير المقاتلين، ودمّرها بوحشيّة وجبن لا مثيل لهما، وحوّلها مكاناً غير صالح للعيش، جيشٌ قمّةٌ في الأخلاق ومثال (!) وإلّا كان مصيرها أسوأ بكثير، وهل ثمة أسوأ من هذا؟! فالحمد لله أنّ نتنياهو وعصابته وجيشه المنحرف وطيّاريه الوحوش الجبناء طبّقوا أخلاقياتهم النموذجية، التي بانت نتائجها في الأرض وشهد لها العالم كلّه، بل احتفت العواصم والمدن في جهات العالم الأربع بأخلاقيّات الجيش الصهيوني (بينه ألوف المرتزقة المأجورين على ما يبدو) وإنسانيّته الفائقة، التي أدهشت ملايين المتظاهرين فهتفوا له بالنصر المأزور.
مثلما يَحْسَبُ إنسانٌ مسكينٌ فاقدٌ عقله في مصحّ للمجانين أنّه نابليون، هكذا تماماً يخال السفّاح نتنياهو نفسه قدوةً في الأخلاق، السياسيّة والعسكرية معاً. فما العمل مع فاقد العقل والوعي والصواب إنّ ظنّ نفسه ما ظنّ؟ إنّه الجنون المُطبق بعينه، لا يستقيم معه منطق أو كلام. وهي إحدى سمات القاتل السايكوباتي، الذي لا يعي فداحة جرائمه، ولا يسعه شرح دوافعه إلى ارتكابها، بل يظلّ محتفظاً ببرودة أعصابه وجمود ملامحه أمام المحقّقين والقضاة والأطبّاء النفسيين، وليس بالأمر الصعب، لدى التمعّن في وجه نتنياهو بعد كلّ مذبحة ورؤيته خالياً من المشاعر والانفعالات، استنتاج أنّه وجه قاتل سايكوباتي، مضطرب، مريض، يقتل بجنون، هو في منزلة وسطيّة بين الوعي واللاوعي، من غير شبع وارتواء قتلاً ودماءً. فلا عجب، بالتالي، أن يصف نفسه بـ”الأخلاقي”. مجنون يحكي وعاقل يفهم؛ نتنياهو يصرّح والرأي العام العالمي يفهم.
في العمى الأخلاقيّ، يفقد الكائن قدرته، حتّى لو كان سويّاً، في إدراك ما يمكن أن يكون خطأً. وثمّة في حالة نتنياهو وعصابته المجرمة رضاً أخلاقيٌّ مُتغطرس واثقٌ من صلاحه، لأنّه يستند إلى معتقداتٍ دينيةٍ خرافية تغطّي أفعاله بناءً على تفويض إلهيّ مزعوم، فلا يبقى قادراً على رؤية التناقضات والتضاربات في القيم والأفعال. يسمّى هذا بالتنافر المعرفيّ الأخلاقيّ. أضف إلى ذلك التعامي الأخلاقيّ القائم على تجاهل الفعل الإجراميّ كأنّه لا يحدث، والضعف والتشوّه الأخلاقيَين، إلى ما هنالك من تحديدات علمية ونفسية وفلسفية. هذا العمى الأخلاقيّ، بل العمى الإنسانيّ، الذي يدفع رجل القتل الآلي، الخالي من ملامح إنسانية، إلى وصف جيشه القاتل غير المقاتل بـ”الأكثر أخلاقية”، يستوقف حتّى مراقبين وباحثين وأكاديميين من داخل الكيان الصهيوني أمثال الفيلسوف الإسرائيلي أفيشاي مرغليت، صاحب كتاب “المجتمع العادل” (جامعة هارفرد، 1996)، إذ يكتب “السبب في أننا لا نتعامل مع قسم من الناس بوصفهم بشراً أننا لا نراهم بكامل كينونتهم بشراً”، مُقدّماً، مثالاً، التعامل مع المواطنين العرب في “إسرائيل”، إذ يُنظر إليهم تهديداً وعدوّاً وأناساً دونيين ومتخلّفين. أمّا المحلّل السياسي آري شافيط، فيكتب في كتابه “أرضي الموعودة”: “عانت الصهيونية مما يمكن وصفه بالعمى الانتقائي، حين لم تستطع، أو لم ترغب، في رؤية ما ينتصب أمام ناظريها؛ وجود شعب آخر في أرض إسرائيل. كان القرويون العرب موجودين في كل مكان، لكنهم ببساطة لم يُروا. جدّي الأكبر لا يرى لأنّ ما يحرّكه كان ضرورة عدم الرؤية. لم يرَ، إذ لو رأى لكان عليه أن يعود من حيث أتى”. اضطرّ الصهاينة المستوطنون الإحلاليون إلى تدريب أعينهم على عدم الرؤية، وعلى تجاهل ألم الناس الآخرين ومطالبهم. هذا بالضبط ما يفعله السفّاح نتنياهو، اليوم، يدرّب عينيه على عدم الرؤية، ويتجاهل آلام الآخرين، فعشرات الألوف من شهداء غزّة ليسوا بشراً في عيني هذا الأعمى أخلاقياً وإنسانياً.
نتنياهو وعصابة مجلس حربه وجيشه “الأكثر أخلاقية” قدّموا أمثلة لا تُحصى عن “أخلاقية” الكيان الصهيوني المجرم؛ أوامر للطيران الحربي، حتّى الساعة، بقصف المدنيين وتدمير الأبنية وخيم اللجوء فوق رؤوسهم، منع دخول الغذاء والماء والدواء والوقود إلى قطاع غزّة، تدمير المستشفيات كافّة، قصف سيارات الإسعاف وقتل المصابين والمسعفين، اغتيال الصحافيين، دفع مليوني إنسان إلى النزوح من شمال القطاع إلى وسطه ثم إلى جنوبه، وبالعكس، كمن يلهو بتحريك الماء في زجاجة مقفلة، مع ما في ذلك من ساديّة وتلذّذ وحشيّ بقهر البشر وتعذيبهم… إبادة كاملة الأدلّة والمواصفات، وفق كلّ المعايير القانونية والدولية والإنسانية والأخلاقية، ومع ذلك، ما انفكّ القاتل المسعور مع شركائه وجزء واسع من المجتمع الصهيوني المحتلّ في دوامة القتل الهمجيّ والمجازر اليومية. أما لهذا الليل الجنونيّ المريع من آخر؟!
المصدر: العربي الجديد