جمال فهمي
مَرت الأسبوع الماضي الذكرى 57 لهزيمة الخامس من يونيو/حزيران 1967، ورغم أنّ هذه الذكرى الأليمة حلّت هذا العام تحت الظلال الثقيلة لحرب الإبادة الوحشية التي يشنها جيش الكيان الصهيوني على الشعب الفلسطيني منذ أكثر من ثمانية شهور بدعم أمريكي كامل ومفضوح، إلا أنّ بعضًا من العرب سار على عادته في الممارسة العلنية لأسوأ تجليات مرض احتقار الذات، إذ يكاد في نوُاحه السنوي أن يعفي العدو تمامًا من كل ذنب أو مسؤولية عن عدوانه.
هذا البعض البائس لم يكتفِ هذا العام بتكرار سرديته الجاهلة، لكنّ نفرًا منه أمعن في الجهالة – لكي لا أقول العمالة – لدرجة تحدي حقيقة باتت ثابتة وواضحة وضوح الشمس في كبد النهار، عندما حاول إقناع سامعيه أنّ أمريكا هي الأخرى بريئة من التواطؤ ومشاركة العدو في عدوان يونيو/حزيران!.
الكيان الصهيوني تم تخليقه واختراعه كي يؤدي دورًا وظيفيًا لصالح النظام الإمبريالي الغربي بزعامة الولايات المتحدة
نعرف بالطبع أن هذه الحفنة، تروّج لهذه الأكاذيب نكايةً في الزعيم جمال عبد الناصر ضمن حملة تشويه ممنهجة تستحل الكذب والجرأة على معاكسة حقائق دامغة تراكمت وثائق إثباتها بطول الزمن.
غير أنّ هذه الأكاذيب لها عند مطلقيها هدف آخر، ألا وهو إشاعة حال من اليأس التام، ومن ثم ترويج وتسويغ ثقافة الاستسلام لكيان متوحّش، لم يعد أحد في عالمنا الراهن لا يعرف حقيقته العدوانية ولا يدرك أنه كيان عنصري مقيت قام على الإبادة والتطهير العرقي.
السطور المقبلة ليست دفاعًا عن جمال عبد الناصر، فهو لا يحتاج، ولا هي محاولة لإعفائه من مسؤولية اعترف هو نفسه بها صراحة وتحمّل نتائجها كاملة وقرر الرحيل فورًا على نحو لم يفعله أي حاكم عربي وقتها ولا في أي وقت آخر.. لكن هذه السطور مجرد تذكير مقتضب جدًا بحقائق صارخة أصبحت حاليًا خارج دائرة أي نقاش أو جدل، حول المشاركة الأمريكية المباشرة والقوية في عدوان حزيران 1967، إعدادًا وتخطيطًا وتنفيذًا.
وأبدأ بذكر بديهية يعرفها القاصي والداني، خلاصتها أنّ الكيان الصهيوني تم تخليقه واختراعه أصلًا كي يؤدي دورًا وظيفيًا – مع هامش حركة – لصالح النظام الإمبريالي الغربي بزعامة الولايات المتحدة.
تماشيًا مع هذا الدور، فإنه عندما شعرت المؤسسة الأمريكية بتعاظم خطر عبد الناصر كزعيم كبير لحركة تحررية عربية وعالمية بدت مؤثرة جدًا آنذاك – خمسينات وستينات القرن الماضي – فإنّ الخلاص من خطره تعدى حدود المحاولات الفاشلة لاحتوائه أو تصفيته بدنيًا، ومع سنوات النصف الأول من حقبة الستينيات خصوصًا بعد اغتيال الرئيس الأمريكي كندي، عكفت المؤسسة الأمريكية على وضع خطة مُحكمة للخلاص من نظام عبد الناصر وتقويض مشروعه.
الخطة المذكورة وضعوا لها اسما كوديًا “خطة اصطياد الديك الرومي”، وجرى وضع ترتيباتها وتفصيلاتها بمشاركة أعلى المستويات في الإدارة الأمريكية، وتحدد لإسرائيل دور أساسي ومحوري في تنفيذها.
ومع زيادة وتفاقم الغوص الأمريكي في مستنقع فيتنام، ومن ثم استحالة استمرار تمدد القوة العسكرية الأمريكية في مناطق مختلفة من العالم، اعتمد صنّاع القرار في واشنطن، سياسة جديدة أعلنها وزير الدفاع روبرت مكنمارا عام 1966، تقوم على تقوية حلفاء واشنطن في مناطق مختلفة من العالم وعلى رأس هؤلاء الكيان الصهيوني.
خطة حرب 1967 بكل تفاصيلها دخلت البيت الأبيض وتم بحثها ووضع لمساتها الأخيرة قبل التنفيذ بأسبوعين
طبقًا لهذه السياسة الجديدة، يتكفل الحلفاء الصغار بمهمة حفظ المصالح الإمبريالية الأمريكية حيثما يتواجدون، وعلى الفور أعلنت حكومة إسرائيل ترحيبها بهذه
السياسة، وقال المتحدث الرسمي باسمها أنها “تناسب إسرائيل تمامًا”، وقال أيضًا وزير الدفاع إسحق رابين: “الآن لم تعد هناك عقبات سياسية أمام تزويدنا بالسلاح الأمريكي المتطور”، ولم يتأخر التنفيذ العملي لهذه السياسة، إذ سرعان ما وصلت بعد شهور قليلة صفقة طائرات الـ”سكاي هوك” المتقدّمة إلى فلسطين المحتلة.
أما على صعيد التحضير لتنفيذ خطة “اصطياد الديك الرومي”، فقد نشرت مجلة نيوزويك الأمريكية في عددها الصادر بتاريخ 12 يونيو/حزيران 1967 – بعد أيام قليلة من العدوان – أن خطة الحرب بكل تفاصيلها دخلت البيت الأبيض وتم بحثها ووضع لمساتها الأخيرة قبل التنفيذ بأسبوعين، واشترك في الاجتماع إضافة للرئيس
الأمريكي ليندون جونسون، كل من وزير الدفاع مكنمارا، ورئيس أركان الجيش، ومدير الـ”سي آي أيه”، وتم المصادقة على كل تفاصيل الحرب بما فيها أن “تبدأ إسرائيل العمليات العسكرية الجوية وأن توضع القوة الجوية الأمريكية في خدمتها”، وتحديدًا تأمين وحماية أراضي فلسطين المحتلة أثناء تنفيذ طيران العدو هجماته على مصر صباح يوم 5 يونيو/حزيران، بإسناد 200 طائرة أمريكية تقدّم الدعم لجيش العدو مع السماح لـ1000 طيار ممن يعملون في سلاح الجو الأمريكي بالخدمة في الجيش الإسرائيلي.
كان ضمن تفاصيل مشاركة الولايات المتحدة في الحرب قيام طائرات التجسس الأمريكية من نوع “يو2” مع عدد من قطع البحرية الأمريكية بأعمال الاستطلاع والتشويش على الاتصالات ومراقبة الأوضاع على الجبهات العربية خصوصًا الجبهة المصرية وإمداد تل ابيب فورًا بكل ما تتحصل عليه من معلومات.
وفي مساء اليوم الأول للحرب أرسل والت رستو مستشار الأمن القومي الأمريكي إلى الرئيس جونسون تقريرًا عن سير المعارك استهله بالقول: “سيدي الرئيس.. مرفق طيه وصف مع خريطة لمجريات حفلة صيد الديك اليوم “!.
المصدر: موقع عروبة 22