عرضت قناة دويتشه فيله الألمانية قبل أيام فيلماً وثائقيّاً عن حالة عائلة من شعب الروما من كوسوفو تأمل في الحصول على حقّ اللجوء في السويد، لديها ثلاثة أولاد. يريد الابن الصغير الهروب من حياته اليومية الصعبة، ويحلم بالسفر في سفينة فضائية إلى سطح المرّيخ. بينما دخلت شقيقتاه في غيبوبة غامضة ناجمة عن الإجهاد. وليست هذه الحالة التي يحكي عنها التقرير الأولى، فقد حدثت أعراضٌ مشابهةٌ لأطفالٍ لاجئين سوريين في السويد منذ سنوات، وأيزيديين في هولندا أيضاً.
تبدو الفتاتان نائمتين، إنما لا ترتكسان إلى المنبّهات الخارجية، أما تخطيط الدماغ فيظهر وظائف طبيعية، ليست هناك إصابة دماغية، ولا أمراض جسدية، لكن حالة النوم أو الغيبوبة هذه استمرّت أكثر من ثلاث سنوات. أطلق على هذه الحالة اسم “متلازمة الاستسلام”، ولوحظت جليةً عند أبناء طالبي اللجوء من الأسر الهاربة من أوضاع مأسوية في بلدانهم الأصلية، فيصطدمون بواقع جديد صعب، بعد أن يكونوا قد ذاقوا الويلات في درب الهروب، من إجراءات اللجوء المعقّدة والانتظار والقلق من عدم قبول الطلبات والخوف من الترحيل وقلق بشأن تدبير المعيشة، إلى ما هنالك من تفاصيل حياة قاسية وبائسة وظالمة بحقّ هذه الجماعات.
أما الابن الصغير للعائلة، فهو يحاول تركيب سفينة فضائية من الخردة التي يستطيع الحصول عليها، ويحلم بالسفر إلى المرّيخ. قد يبدو حلماً مجنوناً بالنسبة إلى عاقل أو بالغ، لكن البالغ يمكنه أن يسعى، في طريق حلمه، أما طفلٌ بهذا العمر فيلتبس الواقع بالخيال لديه، بل يجنح نحو الخيال بشكل أكبر، وما حلمُه هذا وجموح خياله سوى طريقةٍ أخرى في الهروب من واقعه، وفي النتيجة، هو وشقيقتاه، كلٌّ منهم يهرب بطريقته.
تشبه متلازمة الاستسلام هذه، في جانب منها، ما يسمّى في الطب “الأعراض التحويلية” التي تظهر فيها بعض الأعراض المرضية البدنية، من دون وجود خللٍ عضوي مادي في الجسم، بل هي أعراض مقلّدة، كأعراض القُرحة المعدية على سبيل المثال، أو الشعور بأعراض خناق صدري، أو الغثيان، أو شلل أحد الأطراف، وغيرها من أعراض يشتكي منها الشخص، بينما منشأها نفسيٌّ بحت، يحاول الهروب بواسطتها من واقعه الذي يسبّب له القلق أو عدم التأقلم أو الخوف، وغيرها.
للحروب آثار عميقة ودائمة في الناس، وكلما طال أمد الحرب ازدادت الإصابات والمعاناة وتنوّعت، من الإصابات الجسدية والصدمات إلى الاضطرابات النفسية والعاطفية. يعاني من هذه الآثار الناجمة عن الحروب المدنيون والمقاتلون، فكيف إذا كانت حرباً كالحرب الإسرائيلية على غزّة، المستمرّة منذ ثمانية شهور، حيث الكثافة السكانية الأعلى في العالم، وهي في الأساس تعيش تحت الحصار بين حربين بشكل دائم، وحرب اليوم أكثرها همجية؟
في هذه الظروف فائقة الوحشية التي تحشر إسرائيل الفلسطينيين فيها، يبقى سؤال اليوم التالي، ليس بمعناه السياسي والإجرائي كما يطرح دائماً، ولا أحد يملك تصوّراً عنه، سؤال مهمّ يولّد متوالية من الأسئلة، تفتح على مستقبل مقلق ومخيف، كم عدد الأطفال الأيتام؟ كم عدد الأطفال مبتوري الأطراف؟ كم عدد المصابين بأمراض ناجمة عن الجوع المديد والهُزال وفقر الدم؟ كم عدد الأطفال المصابين بالخوف والهلع والاضطراب النفسي والعقلي من هوْل ما شهدوا وعاشوا؟ كم من الأطفال سوف تستبيح مشاهد الدمار والقتل والدم ذاكرتهم وتسطو على ساحة وعيهم، فلا يبقى للخيال مكان لديهم، ويفقدون قدرتهم على الابتكار؟
حتى هذه الحالات من “الأعراض التحويلية” أو “تناذر الاستسلام” التي تعدّ شكلاً من أشكال الدفاع عن الكينونة، أو الحماية التي تمارسها الأجهزة الحيوية بطرائقها الخاصة غير متاحة بالنسبة إلى أطفال غزّة، فصخب الحرب والأسلحة وأدوات القتل وحدها تضجّ في رؤوسهم الصغيرة وتحرمهم السكينة والأحلام، بل وتسلب منهم نعمة الإغفاءة ولو دقائق.
رأينا هذه الحالة المأسوية في سورية، في اليمن، على مدى السنوات الماضية، وهي من المظاهر الخطيرة بالنسبة إلى الغد، فإذا كانت هذه البلدان وتلك المجتمعات تعرّضت للدمار حتى صار البناء في المستقبل يحتاج إلى كثير من الأموال والسنوات، فإن الجيل المخول بالبناء يحتاج إلى علاج وتأهيل كي يكون قادراً على النهوض ببلاده، وهذا أخطر ما سبّبته الحروب في المنطقة، وكأن تلك القوى المتصارعة فوق أراضي هذه البلاد تضع نُصْب عينيها هذا الهدف المستقبلي، على الرغم من خطاباتها المعلنة حول القيم الإنسانية وحقوق الإنسان.
فإذا كانت سيكولوجية الحروب تسعى إلى دراسة الآثار العاطفية والمعرفية والسلوكية للنزاعات المسلحة في الأفراد والمجتمعات، فإن هذه الدراسة التي يلزمها كثير من الوقت والإمكانات والتخصّصات، ستكون معقّدة للغاية في غزّة، لأن اليوم التالي الذي يبدأ من لحظة صمت المدافع والطيران والمسيّرات، سيجعل الحقيقة صادمة أكثر من كل فترة الحرب التي لا يظهر توقيت لنهايتها، إذ لكل ما يمكن أن يكون قد ارتكب من فظائع، وكل ما خلفت الحرب وراءها، خصوصيّة فائقة، فغزّة التي لا تزيد مساحتها عن مساحة مدينة صغيرة في الدول الكبرى، ويعيش فيها أكثر من مليونين وأربعمئة ألف نسمة، محاصرة من كل الجهات بالحديد والنار، لم تتوقّف فيها المجازر ساعة، ستكون آثار الحرب فيها، بالقياس، أكبر بكثير من أي حرب في التاريخ الحديث.
لحظتها سيستفيق الرعب مجدّدا في نفوس الأطفال الباقين على قيد الحياة، الرعب والهلع من اكتشاف الحقائق واستفاقة الأسئلة المستحيلة. ليست هذه الصورة المتوقعة من باب التشاؤم والسوداوية واليأس، بل من باب المنطق والاستقراءات المبنيّة على حقائق، ما يدفع إلى القول إن الخطط الطويلة التي تضعها وتمارسها إسرائيل، مدعومة من الغرب، في حروبها الدائمة منذ قيامها إلى هذه الحرب، والاستراتيجيات الأخرى من خلف الحروب التي اندلعت في المنطقة كلها، تستهدف المستقبل وليس الحاضر، إنها استثمار الحاضر لأجل المستقبل، فلا يبقى لمجتمعٍ في المنطقة أن ينهض من تحت ركامه، وإسرائيل لا تخفي مشروعها، وتمارس وحشيّتها بكل غطرسة وفجور وإسفاف وتسفيه للمنظمات والهيئات الدولية، من خلفها أميركا بشكل أساسي وحلفاؤها من الدول الغربية.
إطالة أمد الحرب، واللعب على الوقت في موضوع المفاوضات، سلوكٌ تمارسه إسرائيل بتصميم، فهي لا ترمي إلى الهدف الأولي المعلن من الحرب، وهو استعادة الرهائن، بشكل أساسي، بل ترمي إلى تدمير غزّة كاملة، أرضاً وبناءً، وبشراً، وهي ماضية في ارتكاب المجازر بحقّ المدنيين بالزخم نفسه منذ اليوم الأول، جديدها أخيرا مجزرة تحرير أربعة رهائن مقابل أكثر من 250 ضحية فلسطينية، و400 جريح، بالنسبة إليها ليسوا أكثر من أرقام، بينما كل ضحية هي قصة حياة كاملة، لا تنتهي بموتها، بل تخلف وراءها تراجيديا تُضاف إلى التراجيديا الكبرى، إلى المأساة الكبرى، إلى سجل الجرائم الإنسانية الذي تراكمه إسرائيل أمام أعين العالم.
ليت “متلازمة الاستسلام” هذه التي تتحدّث عنها التقارير الطبّية، تكون متاحة لأطفال غزّة، فترحمهم من مراكمة مزيدٍ من مشاهد الحرب والفقدان، وتنتظرهم بعدها استفاقة على واقعٍ أكثر رأفةً بطفولتهم، يمدّهم بالقدرة على بناء مستقبلهم.
المصدر: العربي الجديد