يتحدث الفيلسوف أبو يعرب المرزوقي، في مقال يشكل طرحا جوهريا لقراءة الثقافة في العالم العربي بعنوان “البحث عن اليابسة”، ناقش فيه وجود المثقف الرمزي لاعتباره يمتاز بسلطة لا بد وأن تنتج معرفة موضوعية، وثقافة مستقلة عبر نهج أو طرح، أو فعالية تقارب تعريف غرامشي للمثقف وفقا لما يفهمه القارئ. يظهر هنا اكتساب الرمزية مرهونا بدوره، وموقفه من السلطة، واضطلاعه بدور يستجيب لحساسية ثقافية؛ من شأنها تلمس مواطن الوجع لدى المجتمع ككل، وهذه الرمزية التي تميزه لا يحوزها عبر منابر المحسوبيات الثقافية، ولا من ممالأة سلطة. ينطلق طرح المرزوقي من ضرورة التمييز بين السلطة السياسية، وسلطة المثقف باعتبار أن كلا منهما له ميدانه الخاص به، آلياته، أدواته، أهدافه، ومفاعيله على مبدأ فصل السلطات الثقافية عن السياسية، مثلما يتوجب فصل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية في الدولة الحديثة.
أمام الفرق الشاسع في النسق السياسي العربي الذي انعكس على الثقافة العربية بوصمها بالتبعية والارتهان تبدو اليابسة بعيدة كل البعد؛ رغم وضوح حدودها مع ثقل عوامل العطالة اللصيقة بها، وتشتت صورها وتنابذ نخبها، وتذرر المجتمع عموما حتى صار الباحث عن يابسة غارقا في ثقل اغترابه من جهة؛ ومن جهة أخرى حائرا فيمن يصدق ويتبع؛ ولكأنه في مزاد يصيح فيه الكل ويدلل على بضاعته، لا غرابة إذن في أن يصدق البعض وأن ينحرف المثقفون؛ ليتحول قسم منهم إلى مسوقين فاشلين لبضاعة قد تجدي لهم نفعا، ويذهب نفر آخر لتوليد الضجيج، الضجيج فقط للتشويش على من يفكر أن يبحث بهدوء عن مخرج، ويكونوا عامل تشتيت للثقافة بقصد وغير قصد، هنا تبدو ثقافتنا العربية مسكونة بعوامل عطالة ناجمة عن تاريخها المتوقف، كما أنها خاضعة لحرب تشتيت عبر نزعات موتورة تحاول إرباك حراكها المتلعثم.
إذا كان مارتن لوثر قد خرج من رحم الكنيسة ردا على صكوك الغفران، وكانت خطوته الأولى التي حركت المجتمع الألماني هي طباعة الكتاب المقدس باللغة الألمانية، والمحاججة به ضد بابوية الكنيسة الكاثوليكية ودعوته للعودة للأصل – الكتاب المقدس-؛ فهل يفكر أدعياء التنوير العربي بالاحتذاء به لينجزوا أصولية إسلامية جديدة، ويوثقوا صلة المسلمين بالقرآن وشروحه، وتفاسيره، والفقه الإسلامي عموما، ومنظومته الحديثية والفقهية؟ وبعيدا عن الموقف من التنوير الغربي اتفاقا أو اختلافا، بما أن الاحتذاء بالغرب في أطر التنوير ورغم اختلاف السياقات التاريخية، والعوامل الاجتماعية التي تحكم كلا من بنيتي الثقافة والمجتمع بين الغرب والشرق؛ وبما أنهم يريدون الاقتداء بتلك الخطى حذو القذة بالقذة؛ فعليهم أن يتقنوا الصلاة أو قراءة القرآن، وأن يكونوا من رجاله ثقافة وفكرا ونقدا ينتمي لأدوات المجال المعرفي الذي يستهدفونه، أو على الأقل أن يكونوا قد قرؤوا كتب السيرة لتأتي د. ألفة وتقول أن “هالة وهند” بنات خديجة رضي الله عنها، في حين أنهما فتيان لتنكشف ثقافة الاحتطاب السريعة كوجبات الهمبرغر.
يقع كثير من مثقفينا باعتقاد تحقيق قفزة لم يتقنها الغرب نفسه إبان عهد التنوير؛ رغم أن ذاك التنوير أنجز الثورة الفرنسية فيما بعد؛ وغير غائب عن أحد؛ أن أحد شعاراتها “اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر كاهن” لاعتبارين أحدهما اقتتال السلطة الزمنية -الملك- مع الكنيسة التي احتكرت العلم والمعرفة في حين أن بلداننا تغط في جهالة الحكام وكهنتهم وحرسهم وأبواق مثقفيهم، وهم في جانب والدين في جانب آخر، وإن كان ولا بد من تجديد في الدين الإسلامي فهو ينجم عن دارسيه ومختصيه سواء على مستوى المنظومة الحديثية أو الفقهية ولا يمكن لأفراد يجهلون اللغة العربية نفسها أن ينجزوا نقدا من خارجه، لا إصلاحا من داخله، وعليهم التنطع لقضية الاستبداد السياسي التي نهشت في كيان الدول وفتتت الشعوب ومزقتها، كما لا يمكن لأحد تبرئة جماعة أو تيار تحاول التجديد عبر خطاب حريات وحقوق تحت شعار تفكيك الاستبداد الديني وتنطلق بإمرة ورعاية وتمويل دول تشكل رمزا للاستبداد السياسي وداعمة له واشتغلت في تخريب ثورات ليبيا ومصر وتمزيق السودان وسائر ثورات الربيع العربي، حيث كيف لبنية أن تنتج توجها تحرريا وهي تعيش في ظل الاستبداد الداخلي وتصدره وتكرسه في بلدان أخرى.
وإذا كانت المنابر الإعلامية ووسائل التواصل العربية قد حفلت بالحديث عن الاستثمار في الدين والمال الجهادي والسياسي، فإن غياب الحديث عن المال السياسي واستثماراته لدى التوجهات العلمانوية والحداثوية نفسها يثير الشك، أم أن التمويل مباح لنفر “المتحضرين من ذوي المنابر المؤسسة” ومشبوه إن توجه لمن يرفضهم، يلحظ هنا ببساطة أن تلك الدول التي كانت تدعم التوجه الجهادي واشتغل أولئك المثقفون في جلدها بقيت تحت ظل البنى السياسية الدكتاتورية نفسها، وتحاول الآن دعم التغريب والتحديث، وتمنع مظاهرات نصرة فلسطين بحجة تحريم الاختلاط، في حين تحيي حفلات الرقص المختلطة وغزة تحت القصف.
كيف يمكن الوثوق بباحث كفراس السواح الذي صرح بأن الحجاب رمز التخلف، ويوسف زيدان الذي طعن في صلاح الدين الأيوبي، ولكي يرقع خطأ الباحثة التي أخطأت في جنس بنات السيدة خديجة رضي الله عنها، يقول يوسف زيدان أخطأ الرواة بعنت لا يمت للثقافة ولا للعلم بصلة، إن من علماء الحديث قد فصلوا علومه من علوم السند، إلى علوم الرجال -الرواة-، إلى علم الجرح والتعديل؛ وكانوا إذا خطّؤوا من وثِقوا بسيرتهم من الرواة، ولم يأخذوا منهم ما لم يكن مسندا برواية متماسكة؛ قد وصفوا من التابعين وأهل الصدق والأمانة ممن لا يقدم سندا متصلا بـ “المدلس في الحديث” دون طعن في أخلاقه بل جعلوها مرتبة علمية لما يرد عنه في منظومة الحديث وعلوم الرجال، فهل يصل هؤلاء التنويريون إلى مستوى المدلسين؟
وفي وقت تحتاج فيه الأمة إلى حداثة تنتجها وفقا لثقافتها وقيمها، ودول مدنية تعددية تحقق حرية الفرد؛ وتحترم خصوصيات المجتمع وثوابت الأمة، وبعد فشل قرن من طروح علمانية ابتليت بمسوقيها الفاشلين، وفي مرحلة مخاض ما يمكن أن تنتجه ثورات الربيع العربي في تحرير الفرد والمجتمع والانعتاق من ثقافة التدجين والتلقين التي كرستها منظومة السلطات تبدو الحاجة إلى المثقف الذي يكتسب سلطته الرمزية وفاعليته من انتمائه لقضايا شعبه بعيدا عن النزعة المتعالية وادعاءات النخبة وأوهامها، ليمثل تيار السلطة المستقل عن سلطة السياسة واستثماراتها سواء كانت تلك السياسة محلية أم قوى دولية، تحتاج من فضلكم اتركوا لنا معنى نبجله، وكم نحتاج لثورة تنوير تنقي العلمانية نفسها مما لحق بها من أدعياء العلم والثقافة والتنوير.
ومثلما قال محمد عابد الجابري إن فلاسفة التنوير في أوروبا قد وقعوا في تناقض صارخ حين رفعوا شعار التسامح لتجاوز الخلافات الدينية، وانحرفوا عنه صراحة عندما تعلق الأمر بحقوق الشعوب التي استعمرت حين اعتبروه ضرورة تمدين الشعوب المتخلفة، وآمن بعضهم بتفاوت الأعراق في القيمة، فهل حذا بعض مثقفي التنوير العربي وتكوين بأولئك ليقبلوا بالتحرير الديني مع الإبقاء على ذهنية استعمار السلطة من قبل دكتاتوريات جمهوريات الرز.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا