الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

هل للعرب مستقبل؟

 د- عبد الناصر سكرية

في كل حديث عن الأمة العربية الواحدة أو أهمية وحدتها أو ضرورات تضامن أبنائها الملح، تثور انتقادات كثيرة من منطلقات مختلفة.. بعضها معاد للأمة ووحدتها. بعضها مشكك بإمكانيتها وكثير منها يائس من قيامتها فاقد ألأمل بما في الواقع العربي الراهن من مثبطات ومحبطات وراجمات لكل توجه توحيدي أو تطلع مستقبلي مشترك..٠

1 – مما لا شك فيه أن المصير العربي الواحد يتعرض دائما لاهتزازات مدمرة وارتجاجات مخربة تجعل أمل الوصول إليه ضعيفا أو متلاشيا بالتدريج..أما العمل التوحيدي العربي فهو غائب تماما منذ عدة عقود..فيما الفكر الوحدوي الحر لا يزال يكافح لإثبات وجوده وذاته من خلال كتابات وعطاءات فكرية وثقافية وفنية متنوعة على امتداد الوجود العربي..أما القوى الوحدوية فهي الحلقة الأضعف وهي المحاصرة والمستهدفة وجودا ورموزا وتجارب وأفكارا وحركات سياسية أو شخصيات فكرية أو نخبوية..

ويبقى العدو الأكبر والأخطر والأقوى لكل دعوة فكرية أو تجربة سياسية أو عمل تنظيمي أو حتى نخبة ذات مواصفات وحدوية حرة؛ هو المشروع الاستعماري وأدواته المحلية وأخطرها قاعدته العسكرية في فلسطين أي دولة الصهيونية والصهاينة..

يكفي أن نستعرض بالأرقام والوقائع ماذا يتحقق للعرب إذا ما انتظموا أمورهم في مسيرة عمل توحيدية جامعة؛ لندرك مدى ما تشكله هذه الدولة الافتراضية من بأس وقوة عربية تهدد مصالح القوى الاستعمارية الطامعة في بلادنا..ولندرك بالتالي ذلك التكالب المرعب الذي تندفع فيه كل قوى النفوذ الأجنبي في حروب شاملة متكاملة على الأمة بكل مقوماتها وما تملك من موارد بشرية وطبيعية وما يشكل شخصيتها من قيم ومضامين أخلاقية تضامنية اجتماعية وإنسانية..

2 – يستند كل حديث عن مستقبل العرب إلى مقولات أساسية ثابتة تشكل حقائق لا يستطيع أحد إنكارها ولا حتى أعداؤها..وعلى هذه الحقائق تبنى جملة اعتبارات مطلبية يتمسك بها ” الوحدويون ”  وعليها يتوقف مصير العرب كجماعة واحدة أو حتى كأجزاء مبعثرة..

فالعرب يملكون وحدة اللغة والثقافة والتاريخ والجغرافيا والمقومات الاجتماعية والقيم الأخلاقية الإنسانية. مجمل هذه العناصر توفرت لأبناء المنطقة العربية خلال مسيرة تفاعل تاريخي ثقافي وسياسي واجتماعي منذ ما قبل الإسلام بقرون..فكان التبادل الشامل والانتقال السكاني والهجرات البشرية  متاحا بين كل المناطق والبيئات المتنوعة بما حقق للجميع من عناصر القوة ما أضيف إلى أية قوة تملكها أية قوة منفردة..

وما بينته الدراسات التاريخية واللغوية الحديثة المعمقة من ترابط أصول كل الجماعات البشرية التي كانت تسكن أرض العرب الحالية ؛ ومن صلات عميقة بين جذورها اللغوية وتكاملها مع اللغة العربية التي اعتبرت بمثابة الصياغة الأمثل والأكثر انسيابا ووضوحا ومتانة وجزالة لكل اللغات السابقة عليها..وكل الجماعات البشرية التي تواجدت قبل الإسلام فيما بين المحيط الأطلسي والخليج العربي كانت ذات أصول مترابطة ولغات متشابكة متكاملة فكان التفاعل بينها ذا طبيعة إيجابية ونتائج نافعة..فكان لها تاريخ متشابه ربطته مصالح اقتصادية وسياسية كثيرة متنوعة..

وكان ما تعرضت له كثير من تلك الجماعات من غزو أجنبي أدى إلى احتلال أرضها لمدد طويلة متفاوتة ؛ سببا أساسيا في تعطيل مسيرتها التفاعلية وحركة سيرها نحو مزيد من التفاعل والتشابك السياسي والاقتصادي والثقافي..

وجاء الإسلام ليحرر جميع الأراضي المحتلة ويوحد الجماعات البشرية كلها في دولة واحدة انطلق عبرها تفاعل شامل أدى خلال بضعة عقود إلى انصهارها في مجتمع عربي واحد له مفاهيمه وقيمه القومية الخاصة المستمدة بمجملها من الإسلام..

ثم انطلق هذا المجتمع الواحد عبر الفتوحات فتوسعت الدولة وكانت حضارة عربية – إسلامية شاملة إمتدت ثمانية قرون هي عمر النظام العالمي العربي المؤمن..

3 –  جميع هذه الأمور لا تحتاج إثباتا وليست وجهات نظر بل حقائق تاريخية ثابتة ومنها يتأسس وعي عربي واحد وثقافة واحدة ومصير نفسي وعقلي واحد..وحيثما تكون ثمة أخطار واحدة تهدد منطقة محددة بكل من فيها وما فيها ؛ فذلك بيان لها كوحدة جغرافية وبشرية واحدة ولها وحدة مصيرها  ومستقبلها وقدر عال من  المصالح التي تربطها ببعضها..

هذا ما يجعل الدعوة إلى مصير عربي واحد دعوة ذات مصداقية علمية موضوعية وليست مجرد أفكار طوباوية أو أحلام شخصانية بعيدة عن الواقع كما يدعي أعداؤها دائما كنوع من الحرب عليها بغية إفقاد أهلها أية ثقة بمستقبلهم..فحينما يفتقدون معرفتهم بحقائق تاريخهم وما يربطهم من قواسم مشتركة مصيرية أساسية ، يسهل إقناعهم بعدم صوابية اية دعوة توحيدية وعدم جدوى مجرد التفكير بها الذي سيكون مضيعة للوقت وهدرا للإمكانيات..

4 – يثور في أذهان البعض لمجرد الحديث عن الوحدة ، تصور وحيد الجانب للشكل الدستوري للوحدة..ويقصدون الوحدة الإندماجية الفورية .ويتخذونها ذريعة لرفض العمل الوحدوي بحجة أنها تتسبب في تسلط البعض على الآخرين أو تمنع التفاعل الحقيقي أو تسقط التحضير الموضوعي العلمي المدروس التحضيري لها..وجميع هذه الإدعاءات غير صحيحة..فالوحدة عمل تكاملي يحترم الاختلافات من أي نوع والتعدد والخصوصيات المناطقية والاجتماعية ويساير المستويات المتفاوتة من الأنماط المجتمعية السائدة..وهي تتطلب تحضيرات علمية موضوعية مدروسة وإيجابية تعالج أية عوائق من أي نوع..

ويبقى أحد أهم أهداف اية صيغة وحدوية عربية هو العمل على محاصرة السلبيات المعيقة في مسيرة التقدم العربي ؛ وتقريب الأفهام والمستويات والأنماط الاجتماعية والسياسية والإقتصادية بما يعزز التفاعل البيني الحر والخلاق بين الجميع ويزيد التلاحم والترابط ويعمق الوعي المصلحي بالمصير الواحد بما يحققه من مشاريع تنموية متنوعة ومشتركة..إضافة إلى خلق المؤسسات التعليمية والأكاديمية الموحدة التي تخرج أجيالا ذات نهج فكري ثقافي تربوي متجانس..أما توفير الأمن للمجتمعات العربية بمجملها أو بأفرادها أو جماعاتها فتبقى مهمة مركزية يستفيد منها الجميع..وتبقى الصيغة الدستورية المناسبة محل إختبار ودراسة وتوافق الوحدويين وفقا للظروف المتاحة وما يرونه مناسبا بما يضمن حماية التفاعل الحر وثبات التجربة ونجاحها رغما عن كل معاداة متوقعة أو حروب حتمية قائمة من طرف أعداء الأمة ومصيرها الواحد..

5 – ولو أخذنا بالمعيار الانتخابي الديمقراطي الشائع والمعمول به في دول العالم المتقدمة؛ فأجرينا إستفتاء شعبيا عربيا حرا حول وحدة العرب ؛ فمما لا شك فيه وحسب استطلاعات كثيرة لم يهتم بها أحد ونشرت نتائجها في كتب ودراسات موضوعية كثيرة ؛ أن نسبة لا تقل أبدا عن 75 بالمئة من أبناء الشعب العربي يؤيدون الوحدة أو اتحاد العرب في قوة سياسية واقتصادية وإدارية واحدة ..وهي نسبة عظيمة جدا تفوق أية نسبة لإقتراع شعبي تم في أية دولة غربية ديمقراطية..

فلماذا يحاربون مثل هكذا استفتاء ويمنعون حصوله ؟ لأنهم يعرفون مسبقا  نتيجته التي لا يريدونها أبدا..

6 –  وفي الوقت ذاته تبين الوقائع أن الإجماع الشعبي على الوحدة لا يمكن أن يتحقق نظرا لإرتباط مصالح بعض العرب بمصالح أعداء الوحدة..فمنذ تأسيس النظام الإقليمي العربي على قوائم كامبل بانرمان وتجزيء سايكس – بيكو ؛ نشأت برعاية غربية إستعمارية فئة ضئيلة من أبناء العرب ممن بات وجودهم ونفوذهم ومصالحهم رهنا ببقاء تلك الرعاية الإستعمارية ومحاربة أية دعوة توحيدية..وهؤلاء أعادوا إنتاج فئة أخرى من صنعهم هم وبرعايتهم هم فباتوا مثلهم معادين للوحدة محاربين ضدها بشراسة..

7 – إن بناء إقتصاد وطني صناعي متين ودولة لها مؤسساتها الإدارية والتنموية المتنوعة إضافة إلى التعليم الرسمي المتقدم والذي يعد الكفاءات العلمية الشاملة ويوفر لها سبل البحث العلمي والتصنيع التكنولوجي الحديث لمستلزمات الحياة للناس ؛ يحمي هذا جيش وطني متماسك مؤمن بقضيته ؛ كلها خطوات أساسية تقرب أية تجربة وطنية في أي بلد عربي من المصير العربي المشترك ومن العمل التوحيدي الجامع..وفي ذات الوقت فإنه سيكون سببا لتعرضه  لحروب متعددة من كل الجهات والقوى المعادية للمستقبل العربي الواحد..وهذا بالفعل ما حصل مع تجربة مصر ثورة 23 تموز في خمسينات وستينات القرن العشرين والتي لا تزال تتعرض لكل أنواع التشويه والتسفيه ..ثم في تجربة العراق التي كانت سببا في غزوه وإحتلاله وتخريبه من مثلث أصحاب  المشاريع  الاستعمارية المعادية : ( الأمريكي – الصهيوني – الفارسي..)

8 – وحينما قامت معاهدات عربية مشتركة اقتصادية ودفاعية وثقافية تحت ضغط الزخم الشعبي الوحدوي الهادر في خمسينات وستينات القرن العشرين؛ لم تلتزم بها أنظمة الإقليمية بل تخلت عنها تماما مع اندفاع الزخم الاستعماري المضاد وتراجع المد الوحدوي منذ بداية سبعينات القرن ذاته..

في سياق هذا كله لا بديل للحفاظ على وجود وتماسك كل بلد عربي بذاته منفردا أو في إطار الجماعة ؛ إلا بالعمل العربي الاتحادي الحقيقي..وهذا يحتاج إلى دفعات من الشحن والتوعية والتحريض والبناء  لن يتولى مسؤولياتها إلا كل عربي حر شريف ..وكل عربي حر شريف لن يكون إلا توحيديا..وكل توحيدي عربي ليس إلا حرا شريفا..

وما معارك فلسطين اليوم إلا ساحة لنضال عربي حر شريف..

 

المصدر: كل العرب

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.