موسى إبراهيم أبو رياش *
«أولاد عشائر» لمحمد حسن العمري، رواية جريئة، اقتحمت ميداناً مُلغماً، برؤية واضحة من عُلٍّ، وهي رواية موقف، وجهت سهام نقدها تجاه الحكومة والعشيرة؛ وبينما صرّحت بالحكومة المعنية، عوّمت أسماء العشائر؛ فنقد الحكومات مُتاح ولا يترتب عليه أي إشكالات، بينما نقد عشيرة بعينها يدخلك في نفق، ولن تسلم، كما أنَّ النقد لا يخصُّ عشيرة بعينها، ومعظم العشائر كذلك؛ تقدم مصالح أبنائها على المصلحة العامة، وتدافع عنهم ظالمين ومظلومين.
الفضاء الزمني للرواية امتد من 1983 إلى 2019؛ ابتداءً بتعيين صقر الريحان وانتهاءً بتوزيره بعد مقتل صقر الصغير وشروق، وقبلهما عطا وحجاب. ومكانياً تراوحت بين شمال عمان وجنوبها مروراً بالعبدلي ووسط البلد وجبل التاج، بالإضافة إلى الزرقاء.
صدرت الرواية عام 2023 في عمّان عن الآن ناشرون، وهي الرابعة للعمري بعد «وهن العظم مني» و «من زاوية أنثى» و«إحدى عشرة دجاجة». وتتناول موضوعات كثيرة مثل: الاختلاف بين البدوي والقروي والمدني، تطور المدينة وخاصة شمال عمان، الحرب العراقية الإيرانية، البطالة، التفكك الأسري، سلطة الصحافة، العنجهية العشائرية، الوساطة، سياسة التوزير العبثي، القوى العميقة، سياسة الطخ على الحكومات، أكل ميراث المرأة، وسط البلد، وغيرها. ولكن موضوع الرواية الأبرز هو نقد الحكومة والعشيرة، وسأورد مثالاً واحداً لكل منهما:
«فلتذهب كذبة حكومة النهضة الواهمة الموهومة إلى الجحيم، حكومة الهراء واللسان الطويل والغطرسة ومسخرة الدفاع عن العدالة الاجتماعية والمرأة والتوزير بالصداقات والتفاهات، الحكومة التي اغتالت الثورة، سلبتها وامتصت الشارع حتى هدأ الغاضبون، حكومة كنت أنا أحد المديرين العامين فيها، حقيقةٌ بأن تلمَّ أوراقها وترحل، فلتذهب إلى الشيطان الرجيم، فلتذهب إلى جهنم، بلا أدنى أسف عليها».
«العشيرة تطالب بياناتها بالإصلاح السياسي والاجتماعي، بينما يتقاسم أبناؤها الوظائف المتبقية في مؤسسات الدولة كميراث شرعي لهم».
لفت نظري في الرواية حالة التمرد التي تميز بها الشاب «عطا» وتحوله إلى صعلوك تبرأ من الأهل والعشيرة بل والناس جميعاً، وهذا ما تتناوله هذه المقالة.
التمرد والصعلكة:
عطا ابن شيخ عشيرة كبيرة في شمال العاصمة عمّان، يحمل شهادة الدبلوم، سعى أبوه لتوظيفه في الحكومة، وقام برشوة الوزير المختص ونائب المنطقة، وحصل على الوظيفة على حساب شاب آخر أحق بها منه. ولكنه اتُهم بسرقة محفظة المدير واقتيد بالأصفاد أمام والده وأهله وأبناء عشيرته، ولما تبينت براءته أُطلق سراحه، ثم ما لبث أن هجر بيته واختار حياة التشرد والسرقة في وسط البلد، ورفض العودة إلى بيت أهله، وبقي إلى أن مات بالرصاص عن عمر ستين سنة. عطا البسيط المسالم تعرض للإهانة والتحقير أمام أبيه الشيخ وأهله وعشيرته، واقتيد كمجرم، بتهمة السرقة، وزاد الطين بلة موقف نساء عشيرته اللواتي أمطرنه بالشتم والسباب، ولذا اتخذ عطا بعد براءته وعودته قرار التمرد على العشيرة؛ لأنها السبب في كل ما جرى له؛ فأبوه لأنه شيخ توسط له ورشى المسؤولين ليحصل على وظيفة ليست من حقه، واتُهم بسرقة لم يقترفها، وأهين بطريقة مزرية أمام عشيرته، وتلقى السباب، ليس لأنه سارق، ولكن لأنه لوّث اسم العشيرة وسمعتها، وتسبب في التقليل من هيبة الشيخ ومقامه، ولما ثبتت براءته لم يسارع أحد بالاعتذار أو دعمه أو الشد من أزره، فدخل غرفته «وذهب في عزلة موحشة، ظلّ يلوذ بنفسه عن المواجهة. طحنت رأسه كوابيس الليل والنهار، تلبسته على نحو فظيع، كان يخبط رأسه في الحيط حد الإدماء طوال الليل، ويُسمع ذلك من الجدران المقابلة لغرفته، هوة واسعة تكونت لأيام بينه وبين أهله، لم يحاول أحدهم ردمها، وحشة وغربة هبطت عليه مرة واحدة، لم يتفوه بعدها بكلمة واحدة، بدت عيناه حمراوين، يبكي معظم الوقت، روحه التي تهتكت بدت لها نُذر انفجار مكبوت، ربما كان يخطط للموت، بين مقصلة العار ومقصلة فقدان الثقة بالذات ظل متأرجحا ليومين» وكان قراره – بعد تفكير ومراجعة حسابات- أن يتحول إلى النقيض تماماً.
قرر عطا أن يتمرد على كل شيء، خاصة عشيرته، فهجر بيت أبيه، واتخذ أسواق وسط البلد مقاماً له، يعمل ويسرق وينام. اتهم بالسرقة زوراً فاتخذها مهنة وسبيلاً للعيش، سبوه وشتموه لأنه أهان العشيرة، فتصعلك وتشرد ورفض كل الوساطات ليضع اسم العشيرة في الوحل، فها هو ابن شيخها لص ومتشرد «كان يسرق بدافع داخلي لمعاقبة أحد ما؛ ربما نفسه وربما يعاقب أباه». يصفه «صقر الريحان» الذي سرق محفظة المدير، وصاحب الحق في الوظيفة، عندما التقاه بعد سنوات، يقول: «ظهره محني ربما من كَده في الحمل، يضع في فمه عود سواك، عادة يساعده على التوازن عندما يحمل أشياء ثقيلة، وجهه عظمي ضخم مستدير كوجه فهد متأهب، لا يبدو منفرا مطلقا، رموشه كثيفة تحسبها استعارت شعر رأسه الذي ذهب الكثير منه، ميال دائما للحركة وعدم الكلام، لكنه إذا ما سئل عن مكان معين من أحد المارة يصفه له بالتمام والكمال بكامل وعيه واهتمامه. رسمت له في مخيلتي شكلا يمكن التنبؤ به من مهنته، كنت أتخيله تنينا صغيرا، لم يفاجئني فيه سوى الصلع والرموش وصرامته».
الرفض والإصرار:
رفض عطا رجاء أمه «التي تفاقمت حالتها وهي تتداعى وتئن وتتضرع بلا جدوى» ولم يستجب لرجاء أخته بالعودة «عندما اكتفت من البكاء حاولت أن تسحبه بكل قوتها عبثا» وأسمع والده رداً قاسياً، «أوغل في أبيه كلاما متداخلا، حتى فرّ الأب وقد انسلخ وجه الشيخ حياء أمام المتجمهرين، ولكنه لم يتوقف عن محاولات أخرى فاشلة لاستعادته، بعضها بالقوة واستخدام الأمن، كل مرة كان يتعرض للإهانة أمام الناس بلا جدوى، ويعود مخذولا في غياهب الألم» حتى أصابه اليأس من رجوعه، وأسقط في يده، فقد خسر ابنه إلى الأبد، فتهدم، ولحق بابنه بعد سنة من مقتله؛ حزناً وكمداً وحسرة.
عاش عطا في أسواق وسط البلد حياة الصعلكة، يعمل ويسرق، ولكنه كان يسرق ليعيش فقط؛ إذ كان يأكل اللحم بشراهة، ويدفع الثمن وزيادة، ومع أنه كان معروفاً بالسرقة، لكنه كان خفيف اليد، سريع الاختفاء، فلم يثبت عليه شيء، ويبدو أن التجار كانوا يستريحون له، فلم يكن مؤذياً أو شريراً «بالخبرة صار يعرف كيف يسرق ويندس في الزحام، يضع ما يسرقه تحت إبطه ويدسُّ كفيه في جيب معطفه، سرقته من المحلات كانت تحصل أحيانا على مرأى من أصحاب المتاجر ولا يحركون ساكنا بدوافع كثيرة، يلتمس مسلكا مزدحما، إذ يسرق فيضيع عمن سرقه، أحيانا كان يسرق أشياء لا تلزمه ثم يعيدها». ومع أنه كان قوياً، إلا أنه لم يحاول أن يفرض نفسه فتوة على الأسواق، فقد رفض العشيرة ومشيختها من قبل، ولن يكون شيخاً على الأسواق، فلا يؤمن بالمشيخة ولا الشيوخ، فلم ينله ما ناله إلا لأنه ابن شيخ!!
إن رواية «أولاد عشائر» لمحمد العمري، تسلط الضوء على ثنائية الدولة والعشيرة، وما تمثله العشيرة من ثقل، وخروجها أحياناً عن وظيفتها لتنازع الدولة وظيفتها وسلطتها في التعيين والوظائف وغيرها، على حساب الأولوية والكفاءة، وهذا يؤدي بالضرورة إلى زعزعة الثقة بالدولة وعدالتها الاجتماعية، وقدرتها على منع الظلم وردعه، كما أنه يحدث شروخاً بين أبناء العشائر، وشعوراً بالغبن لدى العشائر قليلة العدد والحظ التي تُحرم من حقوقها لأن يدها ليست طائلة كغيرها.
تحذر الرواية من تداعيات ازدياد سلطة العشيرة على حساب سلطة الدولة، وأن الخطأ والظلم يقود إلى أخطاء ومظالم لا حصر لها، يذهب ضحيتها الأبرياء، وتزداد الفجوات على أكثر من صعيد، ويتغوّل البعض، خاصة عندما تتدخل بعض الجهات المتنفذة لحماية الظلمة، وطمس الحقائق وتزويرها، وشراء الذمم، وإخراس الألسنة. وتبشر الرواية بأن أبناء العشائر الذين يتشوقون إلى دولة مدنية متطورة تنعم بالعدالة والمساواة والرفاه، هؤلاء يرفضون أن يكونوا أسرى اسم القبيلة ونفوذها، ويتمردون على تابوهاتها، لأنهم على يقين أن العلاقة بين سلطة الدولة المدنية وسلطة العشيرة علاقة عكسية، وأن العشيرة يجب أن تكون في خدمة الدولة وتطلعاتها، وأن لا تنازعها في أي شيء.
* كاتب فلسطيني/ أردني
المصدر: القدس العربي