مضر رياض الدبس *
لا يتوفّر عقلٌ واحدٌ في هذه الدنيا مؤهلٌ للإجابة عن السؤال الوارد في العنوان، لأنّه سؤالٌ ينتمي إلى نوعِ الأسئلة التي لا يمكن الإجابة عنها إلا إذا اجتمعت العقول متعاونةً عليها، أي أنّ إجابته في المجتمع السياسي المفقود في حالتنا السورية، فالجديد يعني، في العمق، أن نسكن سورية سياسياً، ومن ثمّ، فإنّ الإجابة تصير ممكنةً بالتضامن والتعاون. وبطبيعة الحال، يعني كلُّ جديدٍ مقارنةً مع قديمٍ من نوعٍ معين، فصفة الجديد تتضمّن مقاربةً واضحة لنفسها، ولقديمها أيضاً. فإذا قال أحدهم إنّ لديّ منزلاً جديداً، ولم يكن مُشرَّداً قبله، فهذا يعني بالضرورة أنّ منزلاً قديماً كان له، أو لا يزال له، قابلاً للمقارنة مع المنزل الجديد بكلّ تفاصيله. والمقاربات السياسية مثل المنازل، منها الجديد ومنها القديم، منها المتين ومنها المُتهالك، منها ما يستند إلى أساسٍ قويّ ومنها ما يستند إلى أساسٍ واهن، ويمكن لساكنيها أن يجعلوها جميلة، أو فوضوية، ويمكن أن يرمّموها، أو أن يهجروها، أو يتغاضوا عن تشقّقاتها فاسحين إمكانية انهيارها الكارثي. ويبدو أنّ ثمّة في السياسة السورية أشياءٌ وفِكَرٌ لا بدّ أن نسكنها لتصير جميلةً ومريحةً، وأخرى لا بدّ من ترميمها. وفي الوقت نفسه، ثمّة أشياء وفِكَرٌ لا بدّ أن نهجرها تمهيداً لتدميرها، فإن لم ندّمرها بأنفسنا انهارت فوق رؤوسنا ورؤوس أطفالنا كما تنهار المنازل المتهالكة فوق رؤوس قاطنيها.
وإذا كان لا بدّ للسياسة السورية الراهنة من منزلٍ جديد تسكنه، فإنّ الأخلاقَ أساسُه. وكلُّ الذين لا يؤسّسون عملَهم على الأخلاق يتشبّهون بالعصابة الحاكمة، ويفتحون بيوتَ الجريمة، وهي بالضرورة غيرُ قابلةٍ للسكن، لأنّها ستنهار فوق رؤوس قاطنيها. وهذه فكرة أوليَّة ومركزيَّة، يا ليت قوى الأمر الواقع كلّها تلتفت إليها، ويا ليت أصحاب الأيديولوجيات الصمّاء يحترسون من انهيار هذه النوعية من المنازل الواهية، التي يسكنوها، على رؤوسهم، أيضاً. يعني ذلك، مبدئياً، أنّه لكي يكون في سورية جديدٌ، ينبغي أن يكون لدينا اجتماعٌ سياسي جديد، لأنّ القديم متهالك منهجيّاً وتأسيسيّاً. وكما في كلّ جديد، لا يعني الاجتماع السياسي الجديد مقاربةً لذاته الجديدة فحسب، بل يعني أيضاً مقاربةً جديدةً للقديم، الذي لا نزال نسكنه. وعليه، فإنّ سُكنى سورية سياسياً موهبةٌ تتعلق بـ”الفعل السياسي” الذي يتضمّن هدم المُتهالك، وترميم الصالح، وبناء الجديد، ثمّ السكن فيه لتجميله ووضع الروح فيه؛ روحنا السورية المشتركة، وروح الشعب التي يمكن تكثيفها في فكرة “الوحدة في الكثرة”، بوصفها فنّ سُكنى سورية ديمقراطياً وتعدّدياً (الشعب السوري واحد). فأن نسكن سورية سياسياً يعني أن نكون شعباً واحداً أولاً وأخيراً، وأن نمتلك منازلنا بما تعني هذه الملكية من حقّ السكن وبثّ الروح الخاصة فيه، وبطبيعة الحال، يعني ذلك ملكية السياسة في بلدنا وتأميمها لتعود إلينا (سورية لينا وما هي لبيت الأسد)، وبعد ذلك، إن شئنا خصخصنا الاقتصاد، لأنّ خصخصة الاقتصاد من دون تأميم السياسة لا تعني التقدّم، بل تعني الـ”رامي مخلوفية”، والـ”أسماء أسدية”، وما إلى ذلك. وعليه، فإنّ “تأميمَ الاقتصاد وخصخصة السياسة” وصفةٌ كارثية ومقلوبة، ووصفةُ سرقةٍ ونهب عصابات، ينبغي قلبها لتصير “تأميم السياسة وخصخصة الاقتصاد”، كما في مجتمعات العالم الحر.
السياسة والحرّية في سورية يُؤدّي كلٌ منهما إلى الآخر، وهذا هو الجديد الذي بناه السوريون بمعجزةٍ بشرية خلَّاقة في 2011، وصار لنا منازل حرّة بحقّ. صرنا نمتلكها، ولكنّنا لم نسكنها، بل سكنتها “المعارضة”، وصارت منازلَ جديدةً بروحٍ قديمةٍ، وسكنها ضيوف “أصدقاء” تصرّفوا فيها مثل مُلَّاك، ثم طبَّع بعضٌ منهم مع القديم كلّه، وكأنّ السوريين لم يبنوا شيئاً. وثمّة جزءٌ من الجديد السيئ الذي يزيد الأمر صعوبةً، وهو الفصائلية العسكرية والسياسية، التي كوفِئَت لـ”تدافع عنَّا” وتساعدنا في إسقاط النظام، مكافأةً معنوية منّا، وأحياناً كثيرة مادّيةً من قبل غيرنا. وصارت هذه المكافآت المادّية والمعنوية مُقابلاً لسُكنى الوطن سياسياً. وكأنّنا اشتركنا مع دولٍ داعمة في حينه في تقديم المكافأة على طريقة الحكومة البريطانية الكارثية في الهند عام 1800، عندما صنعت “أثر الكوبرا” في دلهي، حيث عرضت مكافأةً لكلِّ من يصطاد أفعى كوبرا ويأتي بها ميّتةً، لأنّ الأفاعي كانت تهديداً حقيقياً، والذي حصل أنّ السكان أقبلوا على العناية بهذه الأفاعي، ورعاية تكاثرها طمعاً بمكافآتٍ أكبر، ما أدّى إلى انتشارها بصورة كبيرة جداً بدلاً من التخلّص منها إلى الأبد. هكذا رُصدت المكافآت لنتخلص من الأفعى السامة الوحيدة في سورية آنذاك، وهي نظام الأسد، فرُبّيت، ورُبّيَ غيرها طمعاً في استمرار المكافأة.
امتد أثر الكوبرا هذا إلى تقديم الجديد كلّه، وصارت كلمة كارل كلاوتزفيتش الشهيرة بأنّ الحربَ امتدادُ السياسة، أو مواصلةُ السياسة، كلمةً معكوسةً في سورية، فصارت السياسة لا تفعل شيئاً إلا أن تواصل الحرب، وتم استدعاء وسائل الخداع، و”الحربقة”، والتخوين، والتزوير، والغيرة الصبيانية، إضافةً إلى وسائل العنف المعروفة. ولم يتبقَ لنا من السياسة إلّا ما لا قيمة له، والخالي من المعنى، وغير القابلٍ لبناء الأهداف. هكذا، إلى أن عادت السياسة مصدراً للكوارث، كما كانت في عهد الأسد الأب، وبعده الابن، حتَّى 2011.
وإذا كانت السياسة مصدرَ كوارث ولا نستطيع الخلاص منها، فلم يبقَ إلا طريقين؛ الأول، هو اليأس، وهو طبيعي ومُسوَّغٌ إلا أنّه لا يغيّر من واقع الحال شيئاً، والثاني، هو الأمل بوساطة الإيمان بالمعجزات، ومنها ما هو سماوي وليس لنا أمامه إلا الدعاء الذي يمارسه المؤمنون منَّا، بطبيعة الحال، ومنها ما هو أرضي، مثل المعجزة التي فعلها السوريون في 2011. أي أنّ الأملَ بالجديد يبدأ من الرهان على موهبة الناس المُدهشة في صناعة المعجزات في السياسة، وما الثورة إن لم تكن في هذه الموهبة تحديداً، هذه الموهبة هي ذاتها ما تسمّيها حنا أرندت محقّةً بـ”الفعل السياسي”. الإنسان السوري الذي أقصي من التاريخ، والذي لا يزال قادراً على تحمّل شغف الحياة في ظروفِ سورية الراهنة، هو الذي يمتلك الإجابة، إذا استطاع استرداد تلقائيته، وحقّه في بدء جديدٍ. والقوّة السياسية السورية تُبنَى بالدرجة الأولى بوساطة الفعل الجماعي للكثرة، وإعادة تعبئة الفِكرِ الأصيلِ في الحقل السياسي بدلاً من غياب المسؤولية، والإمّعية، والسطحية، والأنانية، و”الحربقة”، والانشغال بالمسائل الصغيرة، والأداء الركيك. نحن الآن نسكن سورية محلّياً، وعصبوياً؛ قبائلياً، وطائفياً، وإثنياً، وأيديولوجياً، وأخيراً، فصائلياً، وهذه السُكنى لا تجعل من سورية وطناً، بل تجعل منها حلبة لـ”حرب الكلّ ضدّ الكلّ”. وقد يسكن المرء منا منزلاً بمنحةٍ مادّيةٍ من أحدٍ ما، أو بتعاطفٍ، أو بمكافأةٍ، أو حتَّى بتعويضٍ، ولكن لا أحدَ يعطي منازلنا الروح اللازمة، والراحة، والديمومة، إلا أنفسنا. ولأنّ الأوطان منازل تُسكن سياسياً؛ فالجديد يبدأ من بناء الثقة، وإنعاش الذاكرة المشتركة، والنيّات الصافية، والمسؤولية الأخلاقية، لتكون هذه المفهومات بدايةً كي تصير سورية وطناً من دون عصاباتٍ ومجرمين، كي تصير وطناً لا يحكمه التافهون.
* كاتب وباحث سوري
المصدر: العربي الجديد