بشار نرش *
تُعرّف الأصولية مصطلحاً مُجرّداً بأنّها “التمسّك بكلّ اتجاه فكري أو ديني قديم”، غير أنّ هذا المصطلح، في وقتنا الراهن، يُعدّ من المصطلحات الشائكة والمُلتَبسة، إذ تتجلّى إشكاليته من خلال أبعاد مُتعدّدة تشمل دلالة المصطلح واستخداماته، وحتَّى نشأته وتطوّره التاريخي، وإذا كانت الأصولية تنبع في الأساس من منبع ديني، فإنّ المفهوم يتّسع للدلالة، أيضاً، على كلّ ما يُمثّل أيديولوجيا أو تراثاً لا بدّ من العودة إلى أصولهما، وفق اعتقاد من يؤمن بهما ويدعو إليهما، وهذا يعني أنّ هناك أصولية دينية مرتبطة بالأديان، وأصولية فكرية لا تقوم على الأساس الديني. وتعدّ هذه الأصولية الفكرية من أكثر المصطلحات السياسية أهمّية، التي ازدادت حدّة استخدمها منذ ثمانينيات القرن العشرين، لأسباب متعدّدة، وهي تشير في معناها العام إلى التمسّك الصارم بالمعتقدات والتقاليد الفكرية والسياسية والثقافية، والرفض القاطع لأيّ محاولة للتحديث أو التغيير.
وبالتالي، يطلق هذا المفهوم في دلالته الحاضرة في الخطاب العام المتداول والشائع على كلّ جماعة متشدّدة ترفض الحضارة والتطور بحجّة العودة إلى الأصول، والاحتكام إليها، تلك الأصول التي تعتبرها حقيقةً مُطلقةً، غير أنّ هذا الفهم الشائع ليس كافياً للإفصاح عن حقيقة المفهوم ومكنونه، فالأصوليون المسيحيون الأوائل يروْنه قواعدَ دينية لا تحتمل الجدل، ولا بدّ لها أن تضبط الحياة فكراً وسلوكاً، والأصوليون الإنجيليون الصهاينة الجدد يروْنه إطاراً دينياً لتحقيق مصالح سياسية، والأصوليون الهندوس يرونه حركة للتأكيد على القيم والمعتقدات الأصيلة لضبط الحياة في مختلف مناحيها.
وفيما يتعلّق بالأصوليين المسلمين، يرونه نظاماً متكاملاً يمزج بين ما هو ديني وسياسي في إطار المشروع التجديدي النهضوي. وتبعاً لذلك، تتضح الأصولية الإسلامية، اليوم، من خلال كلّ التيارات السياسية التي تمارس العمل السياسي، وتستند إلى خلفية أصولية دينية، ولا تؤمن في أصولها الفكرية والعقدية بمبدأ الفصل بين الدين والسياسة، ولعلّ هذه الشمولية في فهم الأصولية الإسلامية هي منبع الخطر الذي يستشعره الآخر الغربي، ويرى فيه تهديداً لمصالحه واستراتيجيّاته المستقبلية. ولذلك، سرعان ما أُلبس مفهوم الأصولية الإسلامية مُسمّياتٍ أخرى شبيهة، أبرزها ما يُركّز على نقد بعده السياسي من خلال إطلاق مفاهيم مثل الإسلام السياسي، والإسلام الراديكالي، والإسلام المُتطرّف، والإسلام المُتشدّد، والإسلاموية، وأصبح من الشائع التوظيف الانتهازي لهذا المفهوم في مجال الصراع مع الإسلام، وتصوير الإسلام أنّه ديانة أيديولوجية أصولية تخفي، في مكنوناتها، مشروعاً أيديولوجياً عقائدياً مُعادياً للمشروع الغربي.
وعليه، البعد السياسي للأصولية الإسلامية حاضر، كما هو حاضر في غيرها من الأصوليات المسيحية واليهودية والهندوسية، ومما ينبغي التأكيد عليه بإنصاف القول إنّ مفهوم الأصولية الإسلامية ليس مفهوماً مُوحّداً بين التيارات الإسلامية المُتعدّدة، فقد أفرزت ظروف التوظيف للمصطلح، في الواقع الإسلامي، رؤى مختلفةً، بل ربّما متنافرة بعضها مع بعض في مدى التمسّك بالأصول وحدوده، وأساليب تفسيرها، وهذا يعني أنّ الأصولية الإسلامية المعاصرة ليست فصيلاً واحداً، ولا مدرسة واحدة، بل هناك، على الأقلّ، أربع مدارس أساسية، كما صنّفها يوسف القرضاوي، وهي التكفير، والعُنف، والتشدّد، والوسطية. ويمكن إرجاع هذا التعدّد في الأصوليات الإسلامية إلى النزعات الأصولية المُسيطرة على كلّ منها، فهناك الأصولية السلفية التي تؤمن بضرورة فهم الإسلام كما فَهِمَه الأوائل، وهناك الأصولية النصّية التي تتعامل مع النصّ بطريقة ظاهرية، وهناك الأصولية الانعزالية التي تعيش غربتها عن المحيط الذي تعيش فيه، وهناك الأصولية العنيفة التي ترى أنّ القوة هي السبيل والحلّ، وهناك الأصولية المعتدلة ذات النظرة الشاملة للأصول. وعليه، يزيد تعدّد النزعات لهذه الأصوليات من تباين مواقفها وفهمها للأصولية الإسلامية.
يضاف إلى ذلك أنّ هذه المدارس الأصولية الإسلامية قد تتفق كثيراً في الأصول ومصادرها، ولكنّها تختلف في تفسيرها وإسقاطها على الواقع، ولعلّ هذا ما يفسّر اختلاف الرؤى التقييمية للأصولية الإسلامية، سواء من داخل المجتمع المسلم أو من خارجه، وخصوصاً من الغرب.
خلاصة ما سبق أنّ مفهوم الأصولية الإسلامية، حين يقترب من مفهوم الأصولية المعاصرة، يصبح مفهوماً لا يحظى بالاستقرار والاتفاق، فقد أُلبس المفهوم عند الجميع لباسَ التطرّف والتشدّد والعُنف والإرهاب، وأصبحت سماتٍ ملازمةً له بفعل الآلة الإعلامية الغربية الضخمة، التي كرّست هذه الصورة الذهنية عن الأصولية الإسلامية، رغم ما تقدّمه في أغلب تياراتها من نموذج يستوعب الحضارة والتطوّر، ولجأت إلى تعميم الجزء المُنحرف على الظاهرة ككلّ، ذلك كلّه لا يزال يعكس حالة الاضطراب وعدم الاستقرار لمفهوم الأصولية الإسلامية، بين الفهم الحقيقي والمشوّه، وبين موقف الرفض والتوظيف الديني والتوظيف السياسي والإعلامي الدعائي للمفهوم.
* كاتب سوري
المصدر: العربي الجديد