لميس أندوني *
تدلّ كل المؤشّرات على أن الرئيس الأميركي جو بايدن يحاول إطاحة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، أو على الأقل إضعافه إلى درجةٍ قد تقوّض أي تأييد له داخل إسرائيل… ولا جديد في القول إن نتنياهو أصبح عبئاً على الإدارة الأميركية، فمنذ عام 2013، يحاول الرؤساء الأميركيون من الحزب الديمقراطي إضعاف نتنياهو، فهو دائم التحدّي لهم، ويعرقل تهيئة بيئة سياسية وشعبية في العالم العربي لدمج إسرائيل. ولكن الانقلاب على نتنياهو لا يعني أبداً الانقلاب على إسرائيل، أو على المشروع الصهيوني، أو شقّ منظومة تحالف اليمين الأكثر تطرّفاً في تاريخ الدولة الصهيونية.
واضح أن نتنياهو بدأ يشعر بتصعيد أميركي ضدّه، تَمثَّل في رفض البيت الأبيض فرض عقوبات على محكمة الجنايات الدولية بعد قرارها تلبية طلب المدعي العام فيها إصدار مذكّرة اعتقال بحقّه، ووجده تراجعاً في الموقف الأميركي الذي وعد بدراسة عقوبات على محكمة العدل الدولية لقبولها دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل لقيادتها حرب إبادة ضد أهل غزّة. ويرى نتنياهو أن الموقف الأميركي يقترب من التخلي عنه، وهذا ما لم يتوقّعه رغم احتدام الخلافات بينه وبين الرئيس بايدن، وهو موقفٌ غير مسبوق؛ إذ كانت أميركا دائما تعارض، بل تحارب أي إجراء قانوني ضد إسرائيل ومسؤوليها وجنودها. ولكن ذلك لا يعني أن واشنطن ستسمح باعتقال نتنياهو، إذ ستشكّل هذه الخطوة سابقة لها تبعاتٌ على كل المسؤولين الإسرائيليين والأميركيين مستقبلاً، فموقف الإدارة الأميركية هو منع معاقبة أي مسؤول أو جندي إسرائيلي أو أميركي، وهذا لن يتغيّر، لكن الهدف هو تعميق عزلة نتنياهو العالمية وإضعافه داخليا، وقد فهم الرسالة.
ضروري هنا التوضيح أن الإدارة الأميركية، ولأول مرّة، لم تضغط على محكمة الجنايات الحالية لمنع اتخاذ قرارها، فتاريخياً كانت واشنطن تتدخل أو تضغط إلى حد محاصرة المحكمة سياسياً لمنع قرارات تتعلق بإسرائيل. وقد أيّدت واشنطن بشدّة تعيين كريم خان مدّعياً عامّاً للمحكمة عام 2021، باعتباره قابلاً للاحتواء، وقد كان أول قراراته بعد تسلمه المنصب تجميد قرار المدّعية العامة السابقة فاتو بنسودا الشروع في التحقيق في جرائم حرب في فلسطين. حينها شنّت الولايات المتّحدة حملة على بنسودا، ورحبت بخليفتها كريم خان ودعمته. وكشف موقع إسرائيلي، وفقاً لصحيفة الغارديان البريطانية، أن جهاز الموساد الإسرائيلي كان بتجسّس عليها وعلى عائلتها قبل توصل المحكمة إلى قرارها التاريخي في التحقيق في جرائم حربٍ إسرائيلية ضد الفلسطينيين.
كان التغيّر في موقف خان مفاجئاً قليلاً، لكن التعاطف الشعبي العالمي مع الفلسطينيين وفداحة المذابح الإسرائيلية أمام الشاشات أثّرا على مؤسّسات دولية، منها محكمة الجنايات، لكن خان أيضاً لم يتعرّض لضغوط أميركية، وهو معروفٌ بمهادنة البيت الأبيض، ما أدّى إلى استنتاج بعض الخبراء أن الإدارة الأميركية لم تكن تمانع قرارات المحكمة، وإن كان ذلك لا يعني السماح بتنفيذ الشقّ المتعلق باعتقال مسؤولين إسرائيليين. وبالنسبة لنتنياهو، الأهم هو سماح واشنطن بقراراتٍ كهذه من دون ممارسة ضغوطها المعتادة، والأهم عدم رغبة البيت الأبيض بفرض عقوبات على المحكمة، وهي رسالة سياسية فهمها نتنياهو، فواشنطن أيضا أظهرت أنها تفضّل التعامل مع الوزير السابق والعضو في حكومة الحرب الحالية بني غانتس، ولم تخف ذلك حين استقبله كبار مسؤولي البيت الابيض والإدارة الأميركية الأخير خلافاً للبروتوكول في زيارته واشنطن في مارس/ آذار الماضي.
تطرّقت الكاتبة، في مقالات سابقة في “العربي الجديد”، إلى أن واشنطن تعبت من نتنياهو، وأصبح عقبة أمام هدفها تكملة عملية التطبيع العربي مع إسرائيل، وبلغ الاستياء أوجهُ الأسبوع الماضي بعد إعلان غانتس رفضَ نتنياهو معادلة تطبيع رسمي مع السعودية مقابل وقف إطلاق النار، رغم أنه من أشدّ المتحمّسين لاتفاق علني مع السعودية، إذ يراه مفتاحاً لإنهاء الحقوق الفلسطينية وهيمنة إسرائيل على المنطقة.
يريد نتنياهو الانتصار في الحرب في غزّة أولاً، وإن كان مفهومه للانتصار غير واضح، وقد يعتقد، وبغطرسته، أن التطبيع سيكون نتيجة انتصاره، فالخنوع الرسمي العربي يغذّي غروره، ولم يكترث بمحاولة بايدن الانقلاب عليه أو إضعافه، لكن تردّد البيت الأبيض في فرض عقوبات على محكمة الجنايات عكَسَ تصميم بايدن على التضييق على نتنياهو ورفع الغطاء الأميركي عنه، حتى وإن كانت واشنطن لن تسمح باعتقاله، لكنها سمحت بوضعه في قفص الاتهام وتقويض شرعيّته أمام العالم وداخل إسرائيل. ووفقا للقناة 13 الإسرائيلية، عبّر نتنياهو عن دهشته من الموقف الأميركي، وهذا يدل على أنه لم يكن يتوقع في حياته السياسية أن تأخذ واشنطن أي خطوةٍ ضدّه، ولو من قبيل الضغط عليه.
كان نتنياهو دائماً واثقاً من فهمه النظام الاميركي، ومن قدرته على المناورة والتأثير على الكونغرس بشكل خاص، وعلى الإعلام ومراكز الأبحاث وعلى الممولين ومجموعات الضغط النافذة، وليس اللوبي الصهيوني فحسب. فقد بدأ حياته السياسية في شبابه في أميركا، واعتمدت عليه السفارة الإسرائيلية خلال الغزو الإسرائيلي للبنان في 1982 ناطقاً رسمياً، وغزا الشاشات بنجاح مستنداً إلى لهجته الأميركية ومقاربته بين “القيم الأخلاقية الأميركية والإسرائيلية”، وكسب نجوماً في هوليود، فهو تقريباً ضيف دائم في حفلات مدينة الأفلام التي تجمع الدعم المالي لإسرائيل. ويحرص الكونغرس على دعوته لإلقاء خطاب أمام المجلس أكثر من أي مسؤول إسرائيلي آخر، وعادةً ما يُقابل بتصفيق حار والوقوف إعجاباً وتأييداً. ولذلك شكّل موقف البيت الأبيض صدمة له، خصوصاً أن كل محاولات إدارات الديمقراطيين السابقة فشلت. ففي 2013، دفعت واشنطن الصحافي الإسرائيلي السابق يئير لبيد، بوصفه وجهاً معتدلاً، إلى الواجهة، مع أن لا قاعدة قوية له، لكن حزبه استطاع حينها أن يكون بيضة القبّان في تشكيل الحكومة، ولكن نفوذ لبيد تضاءل بسرعة. وبين عامي 2020 و2021، حاولت واشنطن دعم بني غانتس، وكان وزيراً للدفاع، ليكون منافساً لنتنياهو، لكنها لم تنجح، وعاد نتنياهو إلى رئاسة الوزراء عام 2022، لكن حرب غزّة دفعت بايدن إلى المحاولة مرّة أخرى برفع الغطاء عنه دولياً.
نحن أمام معركة حقيقية بين بايدن ونتنياهو، تعتمد على حركة الاحتجاجات والمطالبات بعودة الرهائن داخل إسرائيل وعلى مدى استعداد واشنطن لعزل نتنياهو دولياً من دون حدوث تداعيات على مكانة إسرائيل، فهل سنرى مثلاً رفض زعماء أوروبيين اللقاء مع نتنياهو؟… هي معركة مهمّة، لكنها ليست دعماً لحقوق الشعب الفلسطيني وإنما لوقف تدهور النظام السياسي في إسرائيل، وخشية عليها من أن تصبح منبوذة عالمياً، هي محاولة أميركية لتبرئة إسرائيل من جرائمها وجعل “الفشل في حماية المدنيين” ذنب نتنياهو ومن حوله. هي معركة لغسل أي تشوّه لوجه إسرائيل، يمكن توظيفها من دون أوهام، لو كانت هناك إرادة عربية رسمية بمقاطعة، أو على الأقل تجميد التطبيع مع إسرائيل.
* كاتبة وصحفية أردنية
المصدر: العربي الجديد