جميل مطر *
قضيتُ الأيام الأخيرة مستمعاً وقارئاً ومناقشاً زملاء أعزاء وأكفاء حول قرار محكمة العدل الدولية الحاكم بأن إسرائيل ارتكبت جرائم حرب خلال عدوانها على شعب غزة. توصلتُ مع بعضهم إلى اقتناع بأن إسرائيل ما كانت لترتكب ما ارتكبته وأمعنت في ارتكابه وأن المحكمة ما كانت لتنعقد وتناقش وتصدر قرارها، ما كان يحدث هذا أو ذاك، وغيرهما كثير لو لم تقع تطورات وأحداث بعينها خلال فترة غير قصيرة من الزمن. أعرض في السطور التالية وبإيجاز لبعض هذه التطورات والأحداث التي حصلت على اتفاق عام بين أهل الفكر لكونها كانت وراء الواقعتين، واقعة العدوان الإسرائيلي المتوحش وواقعة انعقاد محكمة العدل حتى توصلها لقرارها ووقائع أخرى حفل بها زماننا.
لستُ وحيداً، ولم أكن وحدي بين المُراقبين لتطورات توازن القوة بين قمم النظام الدولي، الذي توجس من وراء استمرار انحدار أمريكا والخلل في التوازن شراً مؤكداً بين خير لم نعلمه وما زلنا لا نعلم عنه ما يكفي لنُطمئن نفوسنا ونهدأ بالاً. أبهرتنا أمريكا في وقت مبكر بابتكار نظام دولي مؤسَس على قواعد. عشنا عقوداً نراقب التزامها بتعهداتها. كانت أقل تنكراً لتعهداتها وهي في مكتمل عنفوانها في ظل النظام ثنائي القطبية، ثم كانت، ولا تزال، أشد تنكراً منذ آلت إليها الهيمنة في نظام دولي أحادي القطبية.
* * *
فقدتْ أمريكا جُل انبهارنا عندما تولى أمرها زعماء في ثياب رعاة البقر، لم يراعوا أنهم في الأصل ملتزمون في علاقاتهم بالآخرين قواعد وقيم وأنهم إنما حصلوا على انبهارنا لاعتقادنا أنهم أهل لقيادة العالم. راح الظن بنا إلى اعتبارهم أقل ظلماً وعنصرية من قادة بريطانيا العظمى التي خلفت لنا خلال انسحابها، الذليل نوعاً ما، أسوا ما في تركتها الاستعمارية. خلفتْ لنا في قلب الشرق الأوسط وللعالم دولة وعقيدة، كلتيهما عابرة لحدود دول الجوار والدول بشكل عام وللقارات الخمس، وكلتيهما مؤسسة على قواعد وأساطير من وراء التاريخ. بريطانيا العظمى خلفت، لنا وللعالم، إسرائيل والصهيونية.
توقفنا طويلاً، أثناء المناقشة وتبادل الرأي، أمام واقعتين لم نهتم كثيراً بهما لحظة وقوعهما. لم نُقدر حق التقدير المغزى وراءهما وكان مقصوداً ومتعمداً كما اكتشفنا فيما بعد. توقفنا أمام تصريح للرئيس الأمريكي موجه لكل الدنيا، قال «أنا صهيوني وإن كنت غير يهودي الديانة». توقفنا مرة ثانية وباندهاش شديد ونحن نشاهد السيد أنتوني بلينكن وزير الخارجية الأمريكي يهبط من الطائرة في أول زيارة له للشرق الأوسط في أعقاب انطلاق الحرب الإسرائيلية على غزة، يعلن للملأ وعلى وجهه ابتسامة لم نفهم مغزاها في حينها أنه، وهو اليهودي، قادم بهذه الصفة في مهمة رسمية إلى منطقة الصراع العربي الصهيوني. كنا نعرف أنه يهودي كما كنا نعرف أن بايدن صهيوني، كانت دهشتنا كبيرة إزاء لهجة التعمُد والتحدي الواضحة من جانب أهم اثنين في جهاز صنع السياسة الخارجية الأمريكي؛ وهما يعلنان أنهما ينتميان إلى العقيدة نفسها، العقيدة الصهيونية الصانعة والمحركة لهذا الصراع. تجاهلَ كلاهما الممارسات الصهيونية المتناقضة مع قواعد النظام الدولي المؤسس عليها، وهو النظام نفسه الذي كان من المفترض التدخل وفق قواعده ووفقاً للأصول المرعية في القانون الدولي. وبالفعل لم أجد بين من أعرف جيداً من المراقبين للتطورات اللاحقة زميلاً أو صديقاً توقع موقفاً أمريكياً يتماشى مع القواعد المؤسسة للنظام الدولي، موقف يناصر حق الفلسطينيين في الكفاح بكل الصور المشروعة من أجل الحرية والسيادة. للحق كان هناك في أمريكا السيناتور اليهودي “برني ساندرز” بذل جهداً صادقاً في تحذير حكومة بايدن من عواقب الاستسلام لمنظمة ‘أيباك’ وللهجة التحدي في التصريحات الرسمية الأمريكية. بدا العالم لعديد الناس يساق بجيش إسرائيل وقنابل أمريكا وأموالها ومجلسيها التشريعيين إلى مذبحة كبرى تعقبها حسب درس التاريخ حرب عالمية ثالثة.
ساد بيننا الاقتناع بأن أمريكا «المنحدرة» تفضل التمسك بعناصر الهيمنة التي سمحت بها ظروف ما بعد الانتقال من موقع الطرف في نظام ثنائي القطبية إلى موقع الهيمنة في نظام أحادي القطبية، تفضله على التمسك بعناصر الدعوة إلى نظام دولي مؤسس على قواعد هي في جوهرها مبادئ الليبرالية وحقوق الإنسان وعدم التدخل في الشؤون الداخلية وحق الشعوب في تقرير مصيرها.
* * *
بالإضافة إلى هذا التحوّل، أو بدقة أعلى هذا التغيّر، في أسبقيات أمريكا بعد أن هيمنت، يهمنا أن نعرب عن ثقتنا في أن إسرائيل كانت واعية تماماً لحقائق أخرى لا تقل جلاءً ووضوحاً، أهمها حقيقة انحدار الغرب عموماً، ولم يتأخر الغرب نفسه بممارساته وخلافاته في تأكيد هذا الظن:
(أ). حين عادت فرنسا تجدد دعوتها لأوربا بالسعي للاستقلال وبناء قوتها الذاتية.
(ب). من ناحية أخرى صار النهوض الآسيوي يحتل مساحة متزايدة الاتساع في رقعة أو خريطة الإمكانات الثقافية والتكنولوجية والاقتصادية.
(ج). من ناحية ثالثة، فاجأتنا دول أوروبية بموقف الداعم لقرار محكمة العدل الدولية خروجاً عن الإجماع المتوقع من جانب المجموعة الغربية. هذا دليل جديد على أن دولاً غربية متزايدة تعيد تقييم مواقفها وسياساتها الخارجية.
(د). من ناحية رابعة، تجلى للعالم بأسره وبخاصة للدول الآسيوية والإفريقية أن الغرب، بقيادة أمريكا أخطأ خطأً جسيماً في تقديراته لقوة روسيا واحتمالات الزيادة في الدعم الصيني لها واتساع نفوذهما معاً فى إفريقيا وفي الشرق الأوسط.
(هـ). تأكد بما لا يدع مجالاً للشك أن إفريقيا تقترب من استحقاق صفة القارة الحبلى بالثورة أو الفوضى أو بكليهما معاً. فشلتْ فرنسا في وقف انهيار مكانتها في إفريقيا كدولة استعمار فأسرعت أمريكا بمحاولات لسد الفجوة التي قد تترتب عن غيابها المفاجئ، أغلبها حتى الآن مُتخبط أو فاشل. كانت مفاجأة مذهلة لنا ولإسرائيل والعالم كله قرار دولة جنوب إفريقيا رفع دعوى في محكمة العدل الدولية في لاهاي ضد دولة إسرائيل متهمة إياها بارتكاب جريمة إبادة ضد شعب فلسطين في قطاع غزة.
(و). نحن الآن نتجاوز الشهر الثامن ولم يتوقف القصف يوماً واحداً على أهل رفح والنازحين إليها. الإبادة مستمرة. يرد القانونيون الصهاينة كعادتهم الأصيلة في المراوغة والكذب بالقول أن قرار المحكمة تحدث عن إبادة وإسرائيل لم ترتكب إبادة. القرار، حسب مراوغتهم، لم يذكر نصاً حال القصف أو إطلاق النار. فلتستمر الحرب وليتصاعد العنف.
(ط). نحن في منتصف عام بدأ بتهديد غير مغلف بالسياسة أو الدبلوماسية أعلنه بنفسه المرشح الجمهوري لمنصب الرئيس في الانتخابات القادمة. جاء في الإعلان أن أمريكا سوف تشهد أنهاراً من الدم إذا وقعت تدخلات تؤدي إلى خسارته المنصب. لا أحد في أمريكا ولا خارجها لم يأخذ التهديد على محمل الجد فالسابقة حين وقع اقتحام الكونجرس قبل أربع سنوات لا تزال حية في كل الأذهان.
(ق). نعم نحن في عام يتصادف واستعدادات في روسيا على قدم وساق بهدف عسكرة اقتصادها تمهيداً للتصدي لاحتمالات حرب أوسع حيزاً بأسلحة أحدث وربما نووية وبجنود أمريكيين وبريطانيين بادعاء أنهم مدرَبون وليسوا من أفراد عاملين في جيش بلادهم. إن حدث هذا التطور فنحن مع اقتراب نهاية العام نكون قد اقتربنا، نحن وغيرنا، من حالة الحرب العالمية، وفلسطين إحدى ساحاتها.
تبقى الأيام شاهدة. أثبت الشعب الفلسطيني حقه وجدارته وعظمته. نجح فيما فشل فيه كثيرون واستعاد وبفخر كبير حق الشعوب الملونة جميعاً فى الكفاح المسلح ضد الاحتلال الأجنبي. أما أمريكا، رغم كل مشكلاتها الداخلية ومنها العنف، فسوف تظل أمينة على رسالتها وحرصها على حماية مسيرة السلام، مسيرة فريدة في تاريخ العلاقات الدولية. العنوان نبيل والحقيقة زائفة والخديعة جوهرها. خمسون عاماً والمسيرة مستمرة ولا سلام عند أي أفق في أي مرحلة من مراحل المسيرة. مسيرة تدور حول نفسها في دوائر مفرغة خلقت في كل بلد عربى جماعات من المستفيدين من استمرارها، وكانت النفق الذي دخل منه مئات الألوف من المستوطنين الصهاينة ليحتلوا ما تبقى من فلسطين تحت سمع وبصر عالم مُنبهر بصمود المسيرة، وكانت الطريق الآمنة التي سلكها دعاة التطبيع ليصلوا لأهداف عويصة وهي كثيرة. في حرب غزة انكشف زيف المسيرة. لن تعود آمنة ولا مفيدة.
* كاتب ومحلل سياسي مصري
المصدر: الشروق