علي العبدالله *
ما أن أذيع نبأ اختفاء المروحية الإيرانية التي تقل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي والوفد المرافق له في أجواء محافظة أذربيجان الغربية، حتى بدأت ردود الفعل الشعبية الإيرانية والعربية والأجنبية تتوالى منقسمةً بين الفرحين من الإيرانيين الذين تمنّوا لرئيسي الموت، ووصفوه على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي بجزّار القضاء، وأطلقوا ألعابا نارية في عدة مدن إيرانية، منها العاصمة طهران، عند الإعلان عن موته، على خلفية الظلم الذي لحق بهم وبذويهم من النظام الإيراني ورجالاته، ورئيسي على رأس القائمة، على خلفية دوره في إعدامات المعارضين حين كان مدّعيا عاما للثورة الإسلامية في طهران عام 1989، حيث قضت “لجنة الموت” بإعدام أكثر من ثمانية آلاف معارضٍ من الحزب الشيوعي الإيراني: تودة وحركة مجاهدي خلق، إلى دوره في قمع الاحتجاجات الشعبية العارمة عام 2022 ردّا على قتل المواطنة الإيرانية الكردية مهسا أميني على أيدي شرطة الآداب، حيث قُتل أكثر من 1500 مواطن. وكما أن من العرب، السوريين تحديداً، من طاولتهم سياسة النظام الإيراني الطائفية وآلة قتله المليشياوية، وزّعوا حلوى في مناطق سيطرة المعارضة في الشمال والشمال الغربي عند الإعلان عن مقتل جميع من كانوا في المروحية. أما المتعاطفون من الموالين للنظام ومحور المقاومة ومليشياته المذهبية فقد اجتاحهم القلق على الرئيس والوفد المرافق له وتبعات موت أعضائه على النظام واستقرار البلاد.
وكان لافتاً أن محلّلين ومعلقين وسياسيين كثر أطلقوا العنان لمخيّلاتهم “المبدعة” بطرح تقديراتٍ وتصوّرات لحادث تحطّم المروحية وإطلاق أحكام متسرّعة بشأن انعكاس الحادث على النظام الإيراني، حيث جزمت تحليلاتٌ وتعليقاتٌ بوجود مخطّط إيراني مدبّر للحادث للتخلص من رئيسي تحديداً، وربط ذلك بالصراع على خلافة المرشد الأعلى في حال شغور المنصب بوفاة المرشد الحالي آية الله علي خامنئي، المريض بسرطان البروستات والطاعن في السن، حيث بلغ الـ85 عاما، ووقوف جهات محدّدة وراء تحطّم المروحية كي تفتح الطريق لمجتبى خامنئي، الابن الثاني للمرشد الحالي، لتسنّم موقع المرشد بعد والده. بينما ربطه آخرون بصراع أجنحة داخل دوائر القرار ومراكزه في إيران على السيطرة على السلطة والقرار السياسي والاستراتيجي بعد وفاة المرشد الحالي. وربطت تحليلات وتعليقات أخرى ما حدث بعملٍ إسرائيلي على عرقلة التقارب الإيراني الأذربيجاني الذي جسّده التعاون في إقامة سدٍّ على نهر آراس الحدودي الفاصل بين البلدين، والتشارك باستغلال المياه، وبحاجة إسرائيل لنصر معيّن على إيران يزيل الانطباع القاسي عن تآكل ردعها الذي خلفه هجوم المسيّرات والصواريخ البالستية الإيرانية، ما دفع الموساد إلى استهداف المروحية باستخدام صاروخ أو هجمة سيبرانية بواسطة الذكاء الاصطناعي، فهناك قاعدة للموساد على الأراضي الأذربيجانية لا تبعد عن الحدود الإيرانية أكثر من 20 كيلومتراً، على أمل ضرب عصفورين بحجر واحد: اتّهام أطراف أذربيجانية وإفساد عرس التقارب وتحقيق نصرٍ على إيران يعيد للردع الإسرائيلي تأثيره الفعال، في حين تحدّثت تحليلاتٌ وتعليقاتٌ أخرى عن وقوف أوكرانيا خلف عملية تحطّم المروحية انتقاما من إيران التي وقفت إلى جانب روسيا في عدوانها على أوكرانيا وزوّدتها بالمسيّرات الهجومية والانتحارية وبالصواريخ البالستية. يذكرنا هذا التقدير الفج بتقدير محمد حسنين هيكل بوقوف الصرب خلف تفجيرات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 في الولايات المتحدة انتقاما منها لدورها في عرقلة سيطرة الصرب على كل يوغسلافيا، وقالت تحليلات أخرى بوقوف الولايات المتحدة خلف حادث تحطّم المروحية لردع إيران ومليشياتها عن مهاجمة القوات الأميركية في سورية والعراق.
إذا كان من الممكن تفهّم ردود الفعل الشعبية لارتباطها بالمشاعر والعواطف والتأثر الكبير بالأحداث، فإن من غير الممكن تفهم أو تقبل مواقف المحلّلين والمعلقين والسياسيين عندما تتجاوز المنطق والموضوعية وتغلّب الاعتبارات الذاتية في قراءتها للحادث بإطلاق تقديرات وتفسيرات وأحكام بمعزلٍ عن الوقائع وقبل إجراء تحقيق وصدور نتائج عن جهات رسمية إيرانية أو إيرانية أذربيجانية أو إيرانية دولية، فالذين اعتبروا حادث تحطّم المروحية مدبّراً للتخلص من رئيسي وإخراجه من معركة التنافس على منصب المرشد الأعلى لصالح مجتبى خامنئي تجاهلوا ما نقل عن نافذين في النظام الإيراني، وعن خبراء سياسيين، قولهم باستبعاد ترشيح مجتبى لهذا المنصب، لأن ترشّحه يتعارض مع سياسات النظام التي ترفض التوريث وتعتبره غير إسلامي. وقد سبق للنظام استبعاد ترشيح أحمد الخميني، الابن الثاني لقائد الثورة الإيرانية ومؤسّس نظام ولاية الفقيه روح الله الخميني، للسبب نفسه، وقد عارض المرشد خامنئي شخصيا ترشيح ابنه، لأنه لا يريد أن يرى أي عودةٍ إلى نظام الحكم الوراثي في بلدٍ أطاحت فيه الثورة الإسلامية النظام الملكي في 1979، وفق مقرّبين منه، من جهة، ووجود رأي داخل النظام الإيراني لا يوافق على ترشيح رئيسي على خلفية تراجع شعبيته، بسبب سوء الإدارة وفشله في حل المشكلات الاقتصادية والمعيشية التي تواجه البلاد.
قالت رئيسة تحرير صحيفة إندبندنت فارسية، الكاتبة الإيرانية كاميليا انتخابي فرد، إن الهدف من إيصال رئيسي إلى منصب رئيس الجمهورية كان أداء الدور نفسه الذي لعبه الرئيس الإيراني الأسبق أكبر هاشمي رفسنجاني بعد وفاة مؤسّس النظام، الخميني، إدارة القيادة وتقديم مرشّح محدّد لمجلس خبراء القيادة، أي نُصّب رئيساً في ضوء كونه شخصاً مطيعاً وموالياً للنظام ومرشد الجمهورية ومن دون قاعدة شعبية له شخصياً لتسهيل عملية اختيار مرشد جديد عند موت المرشد الحالي لا الحلول محله. (الانتخابات الرئاسية الإيرانية وخيارات علي خامنئي، إندبندنت عربية: 21/5/2024). والقائلون بوقوف صراع أجنحة داخل دوائر القرار ومراكزه في إيران على السيطرة على السلطة والقرار السياسي والاستراتيجي بعد وفاة المرشد الحالي خلف تحطّم المروحية يتجاهلون أن النظام موحّد خلف المرشد الأعلى، وأن رجالاته محتاجون للوحدة، ما يستدعي التماسك والتكاتف في وجه التيار الإصلاحي.
أما الذين قالوا بوقوف إسرائيل خلف حادث تحطّم المروحية فوقعوا في تناقض صريح، حين برّروا تقديرهم بعمل إسرائيل على إجهاض التقارب الأذربيجاني الإيراني، وبحاجتها لتحقيق نصر ما على إيران يعيد إلى قوّة ردعها مكانته وفعاليّته، لأن الهدف الأول يستدعي عدم ظهور أي دور لإسرائيل في العملية، في حين يستدعي الهدف الثاني الإعلان كي يتحقّق هدف تثبيت الردع وتعزيزه، إذ لا قيمة للعملية في تكريس الردع من دون الإعلان عن المسؤولية.
ويتجاهل القائلون بوقوف الولايات المتحدة خلف تحطّم المروحية حين يربطون ذلك بتبنّي رئيسي نهجا متشدّدا في السياسة الخارجية، مثل دور إيران الإقليمي والمحادثات بشأن الملف النووي مع واشنطن، وجود مفاوضات غير مباشرة في هذين الشأنين، بلغت حد تحقيق تفاهماتٍ بينهما في ظل رئاسة رئيسي المتشدّد، التوصل إلى اتفاق مؤقت غير رسمي في سبتمبر/ أيلول 2023، والتفاهمات على كيفية تجنّب تصعيد الصراعات الإقليمية بين كبير مستشاري الحكومة الأميركية لشؤون الشرق الأوسط بريت ماكغورك، والمبعوث الأميركي المؤقت لشؤون إيران أبرام بالي، مع مسؤولين إيرانيين في سلطنة عُمان خلال شهر مايو/ أيار الحالي (2024).
لقد بدأ أصحاب المواقف السابقة بإطلاق تقديراتٍ وأحكامٍ قبل تكوين صورة دقيقة عن الحادث، عبر جمع المعلومات وغربلتها واستبعاد المعلومات غير الموثقة ودراسة تفاصيل الموقف وجزئياته دراسة وافية، وتقدير قيمة كل تفصيلة وفق مقتضيات المنطق والموضوعية والعقلانية ووضع فرضياتٍ تفسيرية، وتقليب الاحتمالات الممكنة والواقعية، للوصول إلى الاحتمال الراجح، وتبنّيه كتقدير إن كان الدارس محلّلاً أو معلقاً، وإعلان موقفه مع ما جرى أو ضدّه، إن كان الدارس سياسياً، وجاءت تقديراتهم وأحكامهم على خلفية المعطيات المعروفة سابقاً عن النظام الإيراني وعلاقاته وصراعاته ووفق الصورة الذهنية المشكّلة لديهم عنه وعن سياساته وممارساته ضد معارضيه ورجالاته أيضاً، مع هيمنة الرغبوية والنمطية والمصلحية والولاءات على تحليلاتهم.
أغلقت القيادة الإيرانية الحديث عن الحادث، بإعلانها أن سببه سوء الأحوال الجوية، قاطعة الطريق على استمرار البحث والنقاش في شأنه تاركة أسئلة عديدة، مثل استخدام مروحية قديمة في نقل وفد بهذه الأهمية، وعدم مساهمة المروحيتين الأخريين في الإنقاذ أو في تحديد مكان سقوط المروحية الرئاسية، وعدم وجود تواصل بين المروحيات الثلاث، وعدم صدور نداء استغاثة … إلخ، من دون جواب مقنع، ودفن جثامين القتلى من دون فحصها وتشريحها لتكوين صورة عما حدث، وهل حصل انفجار داخل المروحيّة قبل سقوطها أم أن السقوط هو السبب الوحيد لمقتلهم. وسيضيف إغلاق الموضوع بهذه السرعة على الحادث الغموض ويتركه مادّة للتساؤلات والتخمينات وللتوظيف الداخلي والخارجي كذلك. قال تحقيق هيئة الأركان الإيرانية إنه لم تكن ثمّة آثار لإطلاق رصاص على هيكل المروحية، في أثر تصريح وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن “عن عدم وجود علاقة لبلاده بحادث تحطّم مروحية الرئيس الإيراني”، ودعوته إلى إجراء تحقيق لمعرفة أسباب الحادث عن عدم اقتناع واشنطن برواية وقوف الأحوال الجوية خلف الحادث والاشتباه بأن الحادث مُدبّر.
سيبقى حادث تحطّم المروحية الرئاسية لغزاً إلى حين الانتهاء من اختيار رئيس جمهورية ومرشد أعلى جديديْن، وهو ما سيلعب دوراً رئيسياً في تقريره التيار المحافظ المتشدّد، النواة الصلبة في النظام، والمسيطر على السلطات الثلاث، والمهيمن على القرار السياسي والاقتصادي والعسكري، حيث ستشي نتائج العملية ببعض ما خفي.
* كاتب سوري
المصدر: العربي الجديد