محمد المنشاوي *
خلقت عملية طوفان الأقصى، وما تبعها من عدوان إسرائيلى مستمر على قطاع غزة، واقعا جديدا لا يعرف أحد شكله النهائى. ودفع ذلك بالعديد من الدوائر الأمريكية للتأكيد على أنه ليس من السابق لأوانه التفكير فى «اليوم التالى» للحرب فى غزة. وتتنوع أهداف الجهود البحثية الأمريكية من خلال طبيعة الجهة البحثية، وهوية العاملين فيها ومصادر تمويلهم، وتوجهاتهم الأيديولوجية.
وتتنافس بعض هذه التصورات بعضها البعض، وتضغط كى يلتفت إليها البيت الأبيض كى تكون مصدرا يتم الرجوع إليه أو الاستعانة به فى تحديد الموقف الأمريكى من مستقبل غزة.
ورسميا تشارك الولايات المتحدة إسرائيل هدفها المتمثل فى تدمير البنية التحتية العسكرية لحماس فى غزة، لكن يعتريها الكثير من القلق حول ما بعد «تدمير حماس» كما تأمل إسرائيل وسط غموض حول إمكانية تحقيق هذا الأمر عمليا، وما يعنيه ذلك.
وفى الوقت الذى لم تقدم فيه إدارة بايدن رسميا تصورا لما تراه مناسبا لمستقبل قطاع غزة، حدد وزير الخارجية تونى بلينكن خمس نقاط حددت إطارا عاما لما يمكن أن نعتبره إطارا مقبولا أمريكيا.
أولا، يجب ألا يكون هناك تهجير قسرى للفلسطينيين من غزة. ثانيا، يجب ألا يكون هناك إعادة احتلال إسرائيلى لغزة. ثالثا، يجب ألا يكون هناك تقليص أو قطع لأراضى غزة. رابعا، يجب ألا تستخدم غزة كمنصة للإرهاب أو أعمال عنف لتهديد إسرائيل. خامسا، يجب ألا يكون هناك حصار لغزة.
وتدعى إدارة بايدن أنها لا تزال تتمسك بحل الدولتين كصورة وحيدة مقبولة وعملية للتعامل مع الصراع العربى الإسرائيلى.
* * *
إسرائيليا، لم تعرض حكومة بنيامين نتنياهو تصورها لمستقبل قطاع غزة، وربما تكون الوثيقة التى قدمها نتنياهو إلى مجلس وزرائه الأمنى لمناقشتها فى 22 فبراير أول صياغة رسمية لخطط إسرائيل لما بعد الحرب. وفى أقل من صفحتين، تضع الوثيقة، التى تحمل عنوان «اليوم التالى لحماس»، رؤية تواصل فيها إسرائيل الحرب حتى تحقق أهدافها المتمثلة فى تدمير القدرات الحاكمة والعسكرية لحماس، ومنع أى تهديدات أمنية طويلة الأجل من غزة.
من هنا، تحدد الوثيقة مجموعة من المبادئ التى من خلالها سيكون لإسرائيل، طالما أن «الحاجة الأمنية تمليها»، «سيطرة أمنية على كامل المنطقة غرب نهر الأردن»، بما فى ذلك غزة منزوعة السلاح بالكامل. والحفاظ على منطقة أمنية عازلة على طول الجانب الفلسطينى من الحدود، وتنفيذ إغلاق الحدود الكامل والصارم بين مصر وغزة.
وتنص المبادئ التى يفترض أنها شرط أساسى، إلى جانب نزع السلاح، للمضى قدما فى إعادة الإعمار، على الحاجة إلى دفع خطة «لنزع التطرف» من المؤسسات الدينية والتعليمية بمشاركة الدول العربية التى لديها خبرة فى تعزيز نزع التطرف فى أراضيها. مع الحد الأدنى من التفاصيل لمسائل الحكم فى غزة ما بعد الحرب، تنص المبادئ ببساطة على «العناصر المحلية» ذات الخبرة الإدارية لتولى الشئون المدنية، مع بقاء سيطرة أمنية إسرائيلية على القطاع.
وأخيرا وليس آخرا، ترفض الخطة أى «إملاءات دولية» فيما يتعلق بتسوية دائمة مع الفلسطينيين، أو اعتراف أحادى الجانب بدولة فلسطينية، مشيرة إلى أنه يجب التوصل إلى أى تسوية سياسية من خلال المفاوضات الثنائية بين الطرفين دون شروط مسبقة.
* * *
وبين الرؤية الأمريكية والتطلعات الإسرائيلية، اجتهدت عدة جهات بحثية أمريكية، وخرجت بتصوراتها لمستقبل قطاع غزة.
واعتبر ديفيد أديسنيك، خبير الشئون الأمينة بمؤسسة الدفاع عن الديمقراطية بواشنطن، وهى جهة بحثية قريبة من حزب الليكود الإسرائيلى، فى دراسة له أن سحق حماس يوفر فرصة للقادة العرب «للمساعدة أخيرا فى بناء شىء يمكن أن يشبه دولة فلسطينية فاعلة»، ورغم تشكيك الخبير الأمريكى فى نجاح هذا الطرح، أعتبره أقل تكلفة بكثير من الحروب التى شنها القادة العرب فى الماضى على أمل تدمير إسرائيل».
واعتبر أديسنيك أن مصر هى المفتاح حيث إن حقائق الجغرافيا تدفع فى هذا الاتجاه، ولها خبرة فى إدارة قطاع غزة بين 1948 إلى 1967،اضافة الى دور تمويلى مهم لدول الخليج.
وتضمن تقرير صدر عن معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، القريب والمؤيد للمواقف الإسرائيلية، ضرورة إنشاء إدارة مؤقتة لإدارة القطاع تعتمد على ثلاث ركائز أساسية: (1) إدارة مدنية، (2) جهاز للسلامة العامة/إنفاذ القانون تلعب فيه الوحدات العسكرية التابعة للدول العربية دورا مركزيا، (3) تحالف دولى لإعادة الإعمار والتنمية.
من ناحية أخرى، ظهرت جماعة بحثية تسمى «تحالف فاندنبرج» تتكون من عدد من المؤيدين لإسرائيل، وعلى رأسهم جون هانا، مساعد سابق لشئون الأمن القومى لنائب الرئيس مايك بينس فى إدارة الرئيس دونالد ترامب، وإليوت أبرامز، المسئول السابق بعدة إدارات جمهورية.
وعرضت هذه المجموعة تصورا فى تقرير قدم – بالتفصيل – مجموعة من النتائج والتوصيات الرئيسية.
وذكر التقرير أنه لا ينبغى السعى إلى مستقبل أفضل لغزة بعد الحرب بمعزل عن غيرها، ولكن كجزء من استراتيجية أوسع تقودها الولايات المتحدة لمواجهة التهديدات المتصاعدة والمشتركة بشكل متزايد التى تقودها إيران – والتى لا تشكل حماس سوى بعد واحد منها. ومن بين التوصيات الرئيسة إنشاء صندوق دولى للإغاثة وإعادة الإعمار فى غزة، خارج الرعاية الرسمية للأمم المتحدة، لمعالجة الوضع الإنسانى المتردى فى القطاع والتخفيف من حدته والمساعدة فى بناء نظام سياسى وأمنى جديد بعد القضاء على حماس. وسيعمل الصندوق بشكل وثيق مع سكان غزة الذين يكرسون جهودهم لإعادة الإعمار وبناء مجتمع سلمى.
* * *
وتتجاهل كل التصورات المذكورة رغبات وتطلعات الشعب الفلسطينيفى إقامة دولة حرة ومستقلة كبقية شعوب العالم. كما تتجاهل عنصر المقاومة المسلحة المستمر لما يزيد عن 7 أشهر منذ بدء العدوان الإسرائيلى. كما يتم تجاهل الدول العربية، والتى سهلت من مهمة تجاهلها مع صمت بعضها العملى على ما ترتكبه إسرائيل من جرائم حرب وإبادة جماعية، ويبدو أن بعض الحكومات العربية لا ترفض أن تكون مفعولا به فى أخطر أزمة تواجهها دولهم منذ هزائم حرب 1967.
* كاتب صحفي متخصص في الشؤون الأمريكية، يكتب من واشنطن
المصدر: الشروق