بدر الدين عرودكي *
سوف يحتاج المؤرخون إلى زمن طويل من البحث والتدقيق في دهاليز نصف القرن السوري المُنصرم قبل أن يباشروا الكتابة التأريخية الجادّة عن فاصل استثنائي- في سبيله اليوم إلى التلاشي- اخترقَ تاريخ أرض وُلدت فيها الحضارات واللغات والأبجديات، وحمل اسم أسرة حكمت سوريا طوال أكثر من نصف قرن واستطاعت في السنين الأخيرة من وجودها أن تحيل مدنها وقراها هياكل حجرية وأن تبعثر أهلها في أرجاء المعمورة كلها، وأن تعلن على الملأ بلا تردد أنها تقاتل من أجل الوطن الذي استحال كلمة تحيل إلى الخراب والذل والموت. وربما يبدو مفيداً اليوم التذكير العاجل ببعض مفردات هذا الفاصل الذي عاشه السوريون طوال العقود الخمسة الماضية ولا يزالون يعيشونه، على اختلاف أجيالهم وميولهم، يختلفون في تأويله أو يتفقون، لكنهم في سرِّهم وفي جهرهم يصرخون باللعنة على من افتتح هذا الفاصل، أكان الحزب أو من لاذ به أو الفرد الذي أحاط نفسه بسياج مكين من أفراد على مثاله يمسكون البلاد والعباد بيد من حديد.
وللقارئ أن يعثر على صفة هذا المنجز الذي ارتكب خلال الفاصل المذكور بعد أن تسرد أمثلة قليلة من مفرداته في ميادين السياسة والإنسان والقضايا في لحظتين: ما قبل الفاصل وما بعده.
أولها ميدان السياسة؛ عاش السوريون قبل هذا الفاصل حقبة امتدت نصف قرن منذ أن واجهوا الاحتلال الفرنسي على الأصعدة كلها حتى الاستقلال، ثم السنوات التالية له والتي تناوب خلالها حكم ديمقراطي لم يتمكن من توطيد نفسه بفعل سلسلة الانقلابات العسكرية التي تناوبت معه على السلطة وطغت على ثلثي هذه الفترة التي دامت ربع قرن ختمت بانقلاب عام 1970 الذي قام به حافظ الأسد. اعتاد السوريون طوال هذه الفترة كلها، بما انطوت عليه من ثورات واضطرابات وآمال وخيبات، على تلاحم الأسماء بمسمياتها وبدلالات لا تخرج عن طيفها مهما اتسع.
هكذا بعد أن كانت السياسة في سوريا شأناً عاماً لا يقتصر على فئة أو نخبة بل يمكن للناس جميعاً ممارستها فيما وراء سعيهم اليومي من أجل قوت يومهم، ويستطيع من شاء منهم أن يجعل منها عمله الوحيد إذ يتخذ منها جانب الخدمة العامة هدفاً أو جانب المشاركة في الهم الاجتماعي العام مسارا، وبحرية كاملة تسم سلوكه وسلوك كل من يقارب هذا الفضاء المفتوح، أضحت ممارستها، اعتباراً من سبعينيات القرن الماضي، وقفاً على حفنة أشخاص، في الوقت الذي أفرغت فيه من معناها على الصعيد المجتمعي العام الذي أرغم على الانصراف عنها أو على الخوف من ممارستها إلا سراً أو خارج الحدود. ولم تكن الديمقراطية كذلك مفهوماً غريباً على السوريين بقدر ما كانت لديهم ممارسة عامة أياً كانت العواهن التي اعتورتها، تبنتها الأحزاب كلها بما فيها تلك التي اعتمدت الدين الإسلامي طريقها في الممارسة السياسية.
يمارسها السوريون في كل فضاء عام كما لو أنهم هم الذين ابتكروها فكراً وممارسة. وقد تجلت أبهى صور ممارستها في ما كان يسمى المجلس النيابي الذي كان يضم تمثيلاً حقيقياً لمكونات الشعب السوري الذي أرسل بنوابه إليه يراقبون سلوك الحكومة وقراراتها ويشرعون القوانين التي ينبغي على مؤسسات السلطة التنفيذية تطبيقها؛ لكن هذا المجلس النيابي استحال مع النظام الأسدي هو الآخر مجلساً «للشعب» يُرسل إليه «نواب» تمت تسميتهم من قبل دوائر الأمن التي تطلب إليهم ترشيح أنفسهم «ممثلين عن الشعب» لانتخابات يعرف جميع من يشارك فيها دوره الكوميدي.
هكذا استحال «التمثيل الشعبي» صورياً لا وظيفة له إلا الإيحاء بسلطة تشريعية لا يملك فيها من يؤدي الدور فيه إلا سلطة الموافقة على التشريعات والقوانين التي يمليها رأس النظام. وإذا كانت الديمقراطية قد تجلت قبل الانقلاب العسكري الأخير ورغم الانقلابات المتناوبة التي سبقته في تعدد الأحزاب وحرية الصحافة والجمعيات الثقافية والنقابات المهنية، وهي سمة أي حكم ديمقراطي بامتياز، إلا أن الأحزاب والنقابات استحالت اعتباراً من 1970 هياكل فارغة، سواء فيما سمي بأحزاب «الجبهة الوطنية التقدمية» التي كانت تقوم بتسويق قرارات «الحزب القائد» أو في «الاتحاد العام لنقابات العمال» الذي صارت مهمته ضبط العمال وتجنيدهم بأمر رأس النظام في مسيرات تأييد لا تنتهي.
هذا في الوقت الذي انتشرت فيه منظمات تباينت مهماتها وصيغها وإن تمثلت خصوصاً في ضبط القطاعات الأخرى في المدارس وفي الثانويات وفي الجامعات. أما الجمعيات الثقافية فاختفت من الساحة كلياً لتحل محلها الجمعيات الدينية الخيرية التي يعين مسؤولوها، هم أيضاً، من قبل الدوائر الأمنية على اختلافها. كان ذلك هو الطريق الذي عرفته أسماء أخرى مثل «الوطن» و «فصل السلطات» و«الأمن».
وثانيها ميدان الإنسان، فرداً وجماعة وبيئة؛ فبعد أن كان الفرد السوري يحتل موقعه الطبيعي في المجتمع وفي السلطات على اختلافها ويتمتع بحرية حقيقية يكفلها له دستور فاعل وفعال، صار أقرب إلى جزء من قطيع تسوسه دوائر الأمن لا يتحرك إلا بإذنها ولا يمارس فعالية دون شراكتها. أما السوري جماعة فبقدر ما برهن عن تكافل وتضامن عابر للانتماءات القومية والدينية سواء خلال النضال ضد المحتل الفرنسي أو خلال العهود الديمقراطية القصيرة التي عرفتها مرحلة ما بعد الاستقلال، بقدر ما استحال، شأن الفرد، إلى كتل مهمشة معرضة لمختلف ضروب العنف والإقصاء والإرهاب.
امتلأت السجون في مختلف بقاع سوريا ومنها بلا أي شك سجن تدمر، وتعددت المذابح التي ارتكبت بحق السوريين كجماعات سواء في سجن تدمر أو بوجه خاص في مدينة حماه، وشمل الإرهاب «الإخوان المسلمين» والشيوعيين في وقت واحد. ومثلما طال تفريغ المعاني الفرد والجماعة السورييْن، طال كذلك ذاكرتهم التاريخية في معالم مدنهم وأحيائها.
تكفي الإشارة إلى ما حل بالجامع الأموي بدمشق الذي تم ترميمه ضد كل المعايير الدولية السائدة فضلاً عن الاعتداء على التماسك العمراني في محيط الجامع الأموي والسماح بالبناء خارج كل معيار جمالي أو ديني في منطقة المسجد ذاتها.
وثالثها وليس آخرها ميدان القضايا العربية الكبرى، وفي مقدمتها قضية فلسطين؛ لم يكن السوري فرداً أو شعباً قبل عام 1970 يتبنى القضية الفلسطينية بوصفها قضية إنسانية أو سياسية. كانت قضيته اليومية والشخصية. ولقد برهن في أكثر من مناسبة على مدى التضحيات التي كان يبذلها وعلى استعداد لبذلها من أجل استعادة فلسطين، وذلك حين لم تكن هناك سياسة «الصمود والتصدي» ولا سياسة «المقاومة» ثم «الممانعة» التي سجلت التخلي عن القضية الفلسطينية فعلاً ورفعها شعاراً من أجل تغطية كل مثالب وجرائم السياسة الأسدية التي قتلت باسم حمايتهم الفلسطينيين وحاصرتهم وجوَّعتهم في مخيماتهم السورية واللبنانية.
هكذا سُرقت القضية الفلسطينية من أصحابها الأصليين واستحالت شعاراً لا يواري بها النظام الأسدي ومن والاه سوأتهم فحسب بل يتاجر بها في كل محفل وفي كل مناسبة.
لم يقتصر المنجز الأسدي على صعيد الداخل السوري على تفريغ المجتمع من السياسة والسياسة من معانيها ومقوماتها فحسب، بل شمل القضية الفلسطينية التي جعلها النظام الأسدي بممارساته خلال السنوات الخمس الأخيرة قضية ثانوية بالنسبة إلى القضية السورية.
بذلك يسجل انتصاره الأكبر على أهم قضية عربية تخص الشعبين السوري والفلسطيني، السوري الذي أراد استعباده على نحو تفوق فيه على شراسة مستعمريه الفرنسيين، والفلسطيني الذي استثمر قضيته على نحو تفوق فيه على محاولات مستعمريه الإسرائيليين إلغاءه من الوجود.
أما ما قام به النظام الأسدي من بيع سوريا إلى إيران وروسيا فتلك قضية أخرى فتحت منذ الآن أبواب جحيم لن يكون سهلاً على أحد إغلاقها مادام برهان التاريخ يؤكد أن الشعوب هي التي تنتصر في النهاية..
٭ كاتب أكاديمي سوري
المصدر: القدس العربي في 25 أيار/ مايو 2016