بشير عبد الفتاح *
تؤكد الدوائر الاقتصادية الدولية أن التوترات الجيوسياسية، أو أجواء عدم اليقين الجيوسياسي، باتا يتصدران قائمة المخاطر، التي تتربص بالاقتصاد العالمي خلال العام الجاري. حتى إن الخسائر الناجمة عن المخاطر الجيوسياسية، ستفوق أضرار جائحة «كورونا»، التي كبدت اقتصادات العالم خسائر تتخطى ثلاثة تريليونات دولار.
عالمياً، ووسط ترقب الأسواق لأصداء التوترات الجيوسياسية في الشرق الأوسط، اضطربت أسعار النفط والذهب، كما ارتبكت إمدادات الطاقة، وتعطلت سلاسل التوريد، وانكمشت سعة الشحن البحري بنسبة 20%، وخيم الحذر على العلاقات بين الدول. الأمر الذي ألقى بظلال من الغيوم على مشاريع المستقبل الجيوسياسية المتمثلة في الممرات الاقتصادية. ولقد شكل هذا المشهد الديناميكي المعقد، تحديًا هائلاً لصناع السياسات، خبراء الاقتصاد وقادة الأعمال في شتى أصقاع المعمورة. وشرق أوسطياً، أكد صندوق النقد الدولي، أن الاضطرابات الجيوسياسية تضغط على اقتصادات دول المنطقة، التي تمر بحالة، بالغة الخطورة، من عدم اليقين. أما على الصعيد المصري، فتفيد المؤسسات المالية العالمية بأن التوترات الجيوسياسية ستضاعف الضغوط الداخلية والخارجية على اقتصاد المحروسة. إذ تتوقع وكالة «فيتش» أن تنعكس تلك التوترات، سلباً، على عوائد السياحة المصرية. فيما لا تستبعد مؤسسة «إس آند بي جلوبال»، أن تفاقم اضطرابات الملاحة بالبحر الأحمر، أزمة شح الدولار، التي تخيم على الاقتصاد المصري، خصوصاً في ظل تراجع عوائد قناة السويس بنسبة 60%.
في تقريرها الأخير حول توقعاتها إزاء الاقتصاد العالمي للعام الجاري؛ حذرت منظمة التجارة العالمية من أن النزاعات والتوترات الجيوسياسية، وعدم اليقين في السياسات الاقتصادية، تشكل مخاطر جمة على التوقعات. كما سلط التقرير الضوء على انكماش التجارة العالمية، بنسبة 1.2% خلال العام 2023. فمع استمرار التوترات الجيوسياسية، التي كان أحدثها أزمة البحر الأحمر، الذي يحتضن 15% من إجمالي التجارة العالمية، ثم تعليق الحركة الجوية في بعض الدول العربية، نتيجةً للتصعيد الإيراني- الإسرائيلي، واصلت حركة التجارة الدولية تراجعها خلال العام الجاري. وحالة استمرار ذلك الوضع المتأزم لفترة طويلة، ستتعاظم أضراره على سلاسل الإمداد والتوريد خلال الفترة المقبلة، كما ستنخفض التوقعات المستقبلية لمنظمة التجارة العالمية، مقارنة مع توقعاتها السابقة في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي. فلقد أفضى ارتباك مسارات السفن بالبحر الأحمر، إلى ارتفاع تكاليف الشحن والتأمين، ومن ثم، تنامي أسعار السلع. فيما انعكس قرار تعليق حركة الطيران في بعض الدول العربية، جراء الهجمات المتبادلة بين إسرائيل وإيران، سلباً، على السياحة، الطاقة وسلاسل الإمداد.
يرى مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد)، أن تواصل هجمات الحوثيين على السفن التجارية في البحر الأحمر والمحيط الهندي، وما يستتبعه من تعطيل للملاحة في قناة السويس، إلى جانب الاضطرابات في البحر الأسود، بجريرة استمرار الحرب في أوكرانيا. بالتزامن مع انخفاض منسوب المياه الناجم عن الجفاف في قناة بنما، اشتداد وطأة العدوان الإسرائيلي على غزة ، واحتدام الخلاف الإثيوبي- الصومالي بشأن أرض الصومال، ستُخلف جميعها تداعيات مخيفة على قطاعي الشحن واللوجستيات عالمياً. كما تتمخض عن اضطرابات مزعجة بسلاسل التوريد العالمية، وتسفر عن تداعيات سلبية على مسارات وطرق التجارة الرئيسة. بما يستوجب إعادة التفكير في حماية سلاسل الإمداد العالمية، لتعزيز الاستدامة والمرونة في وجه المخاطر الجيوسياسية والمناخية. وفي تقريره الأخير، أكد برنامج الأغذية العالمي، أن النزاعات، انعدام الأمن، الصدمات الاقتصادية، التغيرات المناخية، باتت تشكل جميعها في عام 2023، مسببات محورية لانعدام الأمن الغذائي الحاد، الذي بات أضحى يهدد حياة ما يربو على 300 مليون إنسان حول العالم.
تُفضي الحروب الاقتصادية والتكنولوجية بين واشنطن وبكين، إلى إعادة تشكيل ديناميكيات التجارة والاستثمارات الدولية. إذ تتسبب الحواجز التجارية التي يفرضها الجانبان تبادلياً، في تعطيل سلاسل التوريد العالمية. كما ينعكس تأثيرها السلبي المضاعف في الاقتصادات المتشابكة معهما، على الصناعات والأسواق العالمية. ففي منتصف الشهر المنقضي، حذرت رئيسة البنك المركزي الأوروبي، كريستين لاجارد، من التداعيات السلبية بعيدة المدى للصراع الأمريكي- الصيني.
إذ سيضر بصناعة السياسات النقدية من جانب البنوك المركزية، ويتسبب في اضطرابات محتملة بسلاسل الإمداد، تعطيل التجارة، إضعاف النمو وارتفاع التضخم بنسبة 5% . فضلًا عن جنوح الدول لإعادة توجيه سلاسل توريدها نحو الداخل، وهو التوجه، الذي يأتي ضمن سياق السياسات الصناعية الجديدة. فعلى عكس السياسات الاقتصادية الانفتاحية التي تبنتها في العقود السابقة، تتجه الصين نحو المزيد من الاعتماد على الذات والتحول إلى الداخل؛ مع مواصلة إخضاع اقتصادها لسيطرة الدولة، توجيه الاستثمار في قطاعات معينة، مثل التكنولوجيا؛ بهدف تحقيق الاكتفاء الذاتي وتقليص الاعتماد على الدول الغربية. وهكذا؛ تدفع الإجراءات المقيدة للتجارة من قبل واشنطن وبكين، نحو تسريع وتيرة انقسام الاقتصاد العالمي إلى كتل متنافسة، وحصر التكامل والتعاون الاقتصادي بين الحلفاء أو الدول الصديقة، التي تتبنى نفس السياسات والتوجهات. الأمر الذي سيخلف ارتدادات سلبية على الاقتصاد العالمي، مرونة سلاسل التوريد، أمن الغذاء والطاقة، كما يلحق الضرر بتوليد المعرفة والابتكار. كذلك، سيكون للتصعيد الصيني- الأمريكي آثاره الضارة غير المباشرة على الاقتصادات الناشئة؛ لجهة إعاقة تدفقات رأس المال، كونه سيضعها تحت ضغوط جيوسياسية متزايدة من قبل القوى الكبرى المتنافسة.
مكنت التوترات الجيوسياسية شركات الدفاع العالمية، من زيادة إنتاجها وتعظيم أرباحها، واختبار وتطوير أنظمتها التسليحية؛ خصوصاً مع طول أمد هذه الصراعات والحروب. فبينما دخلت حرب غزة شهرها الثامن، دلفت حرب أوكرانيا عامها الثالث، ما استتبع توسعاً لافتاً في استهلاك الأسلحة والذخائر، ومن ثم زيادة الطلب عليها، رغم ارتباك سلاسل التوريد ونقص العمالة.
ورصد تحليل أجراه معهد ستوكهولم لأبحاث السلام SIRPRI، لأكبر 100 شركة دفاعية، زيادة في الإنفاق العالمي على التسلح خلال العام 2023 بنسبة 6.8%، ليبلغ تريليونين و443 مليار دولار؛ بسبب اندلاع الحروب، أو الخشية من انفجارها، وهو ما يعكس مدى تدهور الأمن والسلم والدوليين. فبحسب تقرير نشرته صحيفة «فاينانشيال تايمز» البريطانية، لامست دفاتر الطلبيات لكبريات شركات الدفاع العالمية، مستويات قياسية، بعد نموها بأكثر من 10% خلال عامين، بسبب تصاعد التوترات الجيوسياسية، لاسيما حرب أوكرانيا. وقد انتزعت 42 شركة أمريكية تتصدر قائمة أكبر 100 شركة لإنتاج الأسلحة عالمياً، نصيب الأسد من الأرباح؛ بعدما احتكرت نسبة 51% من إجمالي المبيعات.
فعلى وقع الحرب في أوكرانيا، العدوان على غزة، التصعيد الإيراني- الإسرائيلي، بالتزامن مع التوترات الجيوسياسية بالبحر الأحمر، تنامي الطلب على الأسلحة، في وقت كانت الشركات الدفاعية تعمل بطاقة إنتاجية محددة، في ظل ارتباك سلاسل الإمداد، وارتفاع تكاليف الإنتاج. الأمر الذي أتاح لموردي الأسلحة الشرق أوسطيين تحقيق أرباح هائلة، إثر قيامهم بسد فجوة إنتاج المصانع الغربية.
تتطلب الاستجابة الوطنية للتوترات الجيوسياسية المقلقة، مبادرات خلاقة، تتيح تحقيق المرونة الاقتصادية، وبناء أنظمة قادرة على الصمود والتكيف مع التحديات الآنية والمستقبلية. كما تكفل معاودة صوغ الرؤى، السياسات والأيديولوجيات المختلفة؛ خصوصاً فيما يتصل بكيفية إدارة الاقتصادات الوطنية، وهيكلة التفاعلات داخل الأسواق الدولية. بما يُفضي، في نهاية المطاف، إلى إعادة صياغة العلاقات الاقتصادية، وهندسة الشراكات على الصعيدين الإقليمي والدولي. كذلك، يستوجب الأمر، استنهاض اقتصادات البلدان النامية الصغيرة، غير الساحلية؛ والتي ستكابد انخفاضاً مروعاً في تدفقات المساعدات الحيوية، جراء الانكماش الاقتصادي الحاد بالدول المانحة. وحسناً فعل «المنتدى العالمي لسلاسل التوريد»، أن يعكف على التماس السبل الكفيلة ببلورة حلول مبتكرة لبناء شبكات إنتاج وتوزيع عالمية، أكثر اخضراراً، وأشد كفاءة ومرونة.
* كاتب أكاديمي وباحث مصري
المصدر: الشروق