الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

إدانة ترامب.. والافتراء على العالم الثالث

ياسمين عبداللطيف زرد *

كلنا يعلم أن الولايات المتحدة تبذل الكثير لتحسين سمعتها حول العالم. لكن حتى الدول الأوروبية، التي يبدو أن احترامها للولايات المتحدة هو الأكثر أهمية بالنسبة لواشنطن، أصبحت تنظر بقلق وانزعاج إلى الانقسام المتزايد والخلل في المجتمع الأمريكي، خاصة تدهور النظام السياسي في البلاد منذ انتخاب دونالد ترامب عام 2016، والذي أصبح يوم الخميس الماضي، 30 أيار/ مايو 2024، أول رئيس أمريكي سابق يُدان بتهم جنائية، جاء ذلك في مقالة لـ(هاورد فرينش Howard W. French) المنشورة في مجلة (فورين بوليسي Foreign Policy Magazine).. ننشر منها ما يلي:

شكلَ رد فعل كل من ترامب والساسة والبنية التحتية الإعلامية التي تدعمه تجاه الحُكم القضائي، باتهامهم الولايات المتحدة بأنها أصبحت دولة من دول «العالم الثالث»، بل اضطرارهم إلى مواجهة هيئة المحلفين، شكلَ كل ذلك علامة على تدهور البلاد لدرجة لا يمكن علاجها. ومع ذلك، لكي نكون واضحين، مشاكل صورة البلاد ليست مسألة ترامب وحده.

ففي ظل إدارة بايدن، شاهد الكثير من العالم بذعر مساعدة الولايات المتحدة لإسرائيل في هجومها على غزة، والذي يعتقد بعض اليهود المثقفين ذوي السمعة الطيبة أنه تجاوز عتبة الإبادة الجماعية! نتيجة لذلك، استخلص الجنوب العالمي أن واشنطن تلقي المحاضرات على الآخرين حول قيمة ما يسمى بالنظام القائم على القواعد، لكنها غير مستعدة للعيش بموجب هذا النظام نفسه.

ومع ذلك، الضرر الأكبر الذي لحق بصورة واشنطن كان مصحوبًا بوصول ترامب إلى المشهد السياسي. ففي عام 2015، بدأ ترامب حملته باستخدام خطاب عنصري تماماً تجاه الأشخاص المهاجرين من الدول غير البيضاء، وألقى باللوم عليهم آنذاك والآن في تدمير الدولة. تلاعبت لغة ترامب في كثير من الأحيان بفكرة أن الولايات المتحدة هي دولة للشعب الأبيض، وأن البيض هم من بنوها بشكل أساسي، وأن تغيير التركيبة العرقية للأمة يهدد امتيازات البيض ومستقبل بلد مبني على هذا المبدأ.

ضاعف ترامب من خطابه المناهض لملف الهجرة عندما خرج من قاعة المحكمة في مانهاتن- وهو يبدو مصدومًا بسبب إدانته يوم الخميس- وكذلك في مؤتمر صحفي مليء بالادعاءات المضطربة وغير المدعومة بالأدلة يوم الجمعة الماضي (31 أيار/ مايو 2024)، حيث قال إن «ملايين وملايين الأشخاص يتدفقون من جميع أنحاء العالم، وليس فقط أمريكا الجنوبية؛ من إفريقيا، من آسيا، من الشرق الأوسط، يأتون من السجون، وهم يأتون من المصحات العقلية ومن مواطن مجنونة».

أما عندما نأتي إلى طريقة تعامل واشنطن مع جائحة كوفيد-19، فمن المؤكد أن الولايات المتحدة كانت رائدة في إنتاج تقنيات اللقاحات المتقدمة، لكن فوضى نظام الرعاية الصحية لديها ساهم في الوفاة على نطاق كبير. أما في كندا المجاورة مباشرة، كان معدل الوفيات بسبب وباء الكورونا ما يقرب من ثلث نظيره في الولايات المتحدة الأكثر ثراء. صحيح قاد ترامب البلاد في السنة الأولى الحاسمة من الوباء، وخلال هذه الفترة قلل من التهديد الذي شكله، إلا أنه ألقى باللوم على الآخرين في انتشاره، وسخِرَ من العلماء، وروجَ للعلاجات المزيفة مثل الإيفرمكتين وحقن مواد التبييض (التنظيف)، وكان بطيئًا في تسريع وتيرة التوزيع العالمي للقاحات.

الأهم من ذلك، أنه من خلال تشجيع التمرد في 6 كانون الثاني/ يناير2021، انخرط ترامب في نفس النوع من النشاط الذي طالما حاضر الخطاب المؤيد للديمقراطية في الولايات المتحدة ضده فيما يسمى بالعالم الثالث. فقبول الهزيمة في صناديق الاقتراع والتداول السلمي للسلطة هما من المبادئ المميزة للحياة الديمقراطية، لكن ترامب وأنصاره المتعصبين أصبحوا من أكثر المعارضين وبشكل صارخ على هذه الفكرة الأساسية في عالم اليوم.

                                              *    *    *

في الحقيقة، هناك العديد من البلدان في منطقة البحر الكاريبي وإفريقيا أفقر بما لا يقاس من الولايات المتحدة من الناحية الإحصائية، ولكنها تتعامل مع الانتخابات بشكل أكثر ديمقراطية من ترامب وأنصاره. فقد شهدت غانا، على سبيل المثال، العديد من الانتخابات الصعبة، بما في ذلك تلك التي خسرت فيها الأحزاب الحاكمة السلطة، دون أي تمرد أو أي اضطرابات كبرى. وبعد الانتخابات التي جرت الأسبوع الماضي في جنوب إفريقيا، يبدو أن حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الذي يحكم البلاد منذ فترة طويلة على وشك أن يخسر أغلبيته البرلمانية دون أن يتذمر.

على النقيض من ذلك، يدين ترامب كل التهم الموجهة إليه باعتبارها نكتة وظلمًا. إذ منذ صدور الحكم، اشتكى بشكل غير مقنع من أن نظام المحكمة في نيويورك تم التلاعب به ضده. وفي الوقت نفسه، يطالب ترامب بإدخال تغييرات على قوانين البلاد تجعل من المستحيل تقريبًا اتهامه بأي جريمة في الماضي أو المستقبل. يعكس هذا رغبة في التمسك بالسلطة بحيث تكون خارج نطاق الضوابط الدستورية، بل يمكن للمرء أن يقول إنشاء دولة رايخ، تلك الجملة نشرها الرئيس السابق بعد ظهر يوم الإثنين الماضي (17 أيار/ مايو 2024) في مقطع فيديو يعرض صورًا لمقالات صحفية افتراضية تحتفل بانتصاره في عام 2024 وتشير إلى «إنشاء رايخ موحد».

غالبًا ما يرتبط مصطلح «الرايخ» بالحكومة النازية الألمانية في عهد أدولف هتلر، تم استخدام الجملة التي تشير إلى «إنشاء الرايخ الموحد» ثلاث مرات في الفيديو. وجاء فيه أن «القوة الصناعية الألمانية زادت بشكل كبير بعد عام 1871، مدفوعة بإنشاء الرايخ الموحد».

بشكل عام، يعرض مقطع الفيديو الذي تبلغ مدته 30 ثانية، والذي نشره ترامب على موقع التواصل الاجتماعي الخاص به، Truth Social، العديد من المقالات المصممة على غرار الصحف من أوائل القرن العشرين . يؤكد أحد المقالات في الفيديو أن السيد ترامب سوف يقوم بترحيل 15 مليون مهاجر ومهاجرة في فترة ولايته الثانية، بينما يسرد النص الذي يظهر على الشاشة أيام بداية ونهاية الحرب العالمية الأولى.

من جانبها، اتهمت حملة بايدن الرئيس السابق بتقليد ألمانيا النازية من خلال نشر الفيديو، قائلة في بيان على وسائل التواصل الاجتماعي إن الفيديو ينذر بشكل ولاية ترامب الثانية.

                                              *    *    *

باختصار شديد، العالم الثالث لم يستحق قط ذلك النوع من الافتراء الذي يوجهه إليه ترامب وأشد المدافعين عنه. ولكن إذا كانت الولايات المتحدة تندفع نحو ذلك النوع من الدكتاتورية والخروج على القانون الذي ينسبونه بتكاسل إلى الأجزاء الأقل تقدماً في العالم، فيتحملون هم الجزء الأكبر من اللوم.

………………

النص الأصلي

ـــــــــــــــــــــ

* كاتبة ومترجمة مصرية

المصدر: الشروق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.