أمجد أحمد جبريل *
على الرغم من وجودِ مؤشّراتٍ تكشف أنّ حربَ الإبادةِ الإسرائيلية على غزّة ربّما أوجدت مساحة من “التقارب المحدود”، بين القاهرة وحركة المقاومة الإسلامية حماس، فإنّ ثمّة مخاوف جديّة من احتمال انزلاق الأخيرة نحو مسارٍ سياسي “مفخّخ”، تحت وطأةِ اشتداد الضغوط الإسرائيلية على المدنيين الفلسطينيين، قتلاً وتهجيراً وتجويعاً، على نحو قد يجرّد “حماس” من بعض أوراقها الضاغطة على إسرائيل، وربّما يدخلها، تدريجياً، بيت الطاعة الأميركي/ الإسرائيلي من “البوابة المصرية”، في مقابل أن “تحاول” واشنطن كبح جماح الانتقام الغرائزي اللاعقلاني، الذي تملّك “الثور الإسرائيلي الهائج”، سيّما منذ طوفان الأقصى (7/10/2023)، مروراً بالمسعى الأميركي إلى توقيع “هدنة” أو “صفقة تبادل أسرى”، وصولاً إلى “وقف الحرب”.
الضغوط الأميركية/ الإسرائيلية على الموقف المصري:
وفي سياقِ تحليل مستجدّات العلاقة بين النظام المصري و”حماس” خصوصاً، وقوى المقاومة الفلسطينية عموماً، والسياقَيْن الدولي والإقليمي المؤثرَيْن في هذه العلاقة، ثمّة خمس ملاحظات: أولاها، أنّ العامل الأميركي (أو علاقة القاهرة بواشنطن) لا يزال يحتلّ أولوية لدى صانع القرار المصري على ما عداه من علاقاتٍ وتحالفات، على الصُعد العربية والإقليمية والدولية، ما يعني أنّ أيّ تقاربٍ بين القاهرة و”حماس”، يبقى مقيّداً بسقفِ السياسات الأميركية، تجاه فلسطين وإقليم الشرق الأوسط إجمالاً.
وعلى الرغم من فداحةِ تداعيات حرب الإبادة الإسرائيلية الراهنة على غزّة، و”انفلات” السلوك الإسرائيلي و”افتضاح” انحياز إدارة بايدن في دعم تل أبيب، سيّما عبر استمرار إمدادها بالسلاح والتمويل، وتدشين واشنطن ميناء غزّة، في سياق مساعدة إسرائيل على إغلاق الحدود مع مصر تماماً، وتكثيف جهود استكمال عزل “حماس” عن أيّ طريقٍ للإمدادات، وزيادة الضغوط عليها، عبر احتلال إسرائيل معبر رفح، فإنّ ردود أفعال النظام المصري لم ترتقِ إلى مواجهة “التحدّي الإسرائيلي”؛ إذ اكتفت القاهرة بدبلوماسية “الحدّ الأدنى من الأفعال”، على نحو يتنافى مع وزنِ مصر الإقليمي وأوراقها الكثيرة، ما جعل سلوكها متردّدًا ومتأخّراً، كما تجلّى في انضمامها إلى دعوى جنوب أفريقيا ضدَّ إسرائيل في محكمة العدل الدولية، (بحسب بيان وزارة الخارجية المصرية 12/5/2024).
تتعلّق الملاحظة الثانية بأثر العامل الإسرائيلي على السياسة المصرية تجاه قوى المقاومة الفلسطينية؛ إذ تتحاشى القاهرة اتخاذ أيّة خطوات “تصعيدية” ضدّ تل أبيب، على الرغم من التحوّلات الجوهرية التي طرأت على مسار الصراع العربي الإسرائيلي، منذ هجوم 7 أكتوبر، بالتوازي مع تقديم “تبريرات ضعيفة سياسياً وقانونياً، والاكتفاء بمناشدة واشنطن التدخل لكبح جماح قوات الاحتلال؛ فقد كان واضحاً على مدار شهور الحرب أنّ الممارسات الإسرائيلية تجاوزت كلّ “الخطوط الحمراء”، فضلاً عن تجاهل إسرائيل انعكاسات سياساتها على علاقاتها مع مصر، كما تكشفه ثلاثة مؤشّرات:
الأول، تنصّل إسرائيل، أمام محكمة العدل الدولية، من مسؤوليةِ منع دخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزّة، وتحميلها على عاتق مصر.
الثاني، ضعف الخطاب/ الأداء الدبلوماسي المصري، أمام وزيرة الخارجية الإسرائيلية، تسيبي ليفني، سواء قبيل حرب غزّة الأولى، عندما هدّدت ليفني (25/12/2008) بوقف صواريخ “حماس” التي تمثل “سيطرتها على غزّة مشكلةً للمنطقة، وليس لإسرائيل وحدها، ورغم تفهم إسرائيل احتياجات مصر إلى أن يسود الهدوء في قطاع غزّة، فإن ما تفعله تل أبيب هو تعبير عن احتياجات المنطقة”؛ إذ اكتفى نظيرها المصري آنذاك، أحمد أبو الغيط، بالقول “إن هناك حاجة لوقف إطلاق الصواريخ كي تعود الأوضاع إلى ما كانت عليه؛ إذ تأمل مصر في ضبط النفس وعدم التصعيد بين إسرائيل وحماس، وكذا تسهيل الوضع الإنساني في قطاع غزّة”، وتجاهل خطورة صدور هذا التهديد الإسرائيلي من قلب القاهرة نفسها.
وعلى المنوال نفسه، جاء ردّ وزير الخارجية المصري، سامح شكري، ضمن فعاليات مؤتمر ميونخ للأمن (17/2/2024)، على سؤال الوزيرة السابقة ليفني بشأن “حماس”، بالقول إنّ “حماس كانت من خارج الأغلبية المقبولة للشعب والسلطة الفلسطينية، فضلاً عن رفضها التنازل عن دعم العنف والاعتراف بإسرائيل (..) ولذا يجب أن تكون هناك محاسبة بشأن تمكين “حماس” في غزّة، وتمويلها في القطاع لتعزيز الانقسام بين الحركة والتيار الرئيسي للكيانات الفلسطينية الأخرى صانعة السلام، سواء كانت السلطة أم منظمة التحرير”.
ثالثًا، الردّ “المحدود” على احتلال إسرائيل معبر رفح، والاكتفاء بإلغاء اجتماع لجنة التنسيق العسكري (المنوط بها بحث شكاوى مخالفة ملاحق اتفاقية كامب ديفيد)، والاقتصار على توجيه رسائل “غضب إعلامي”، عبر قناة القاهرة الإخبارية (المملوكة لجهاز المخابرات)، وتكرار المناشدة المصرية لواشنطن في أثناء الاتصال الهاتفي بين وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، ونظيره المصري بعد احتلال معبر رفح.
هل تستفيد حماس وقوى المقاومة الفلسطينية من المواقف العراقية واليمنية واللبنانية؟
تتعلّق الملاحظة الثالثة بأثر السياقين العربي والإقليمي في علاقاتِ مصر وحماس؛ إذ لا يوجد تغيير جوهري في مجمل العلاقات الرسمية العربية لحركة حماس، ما خلا الموقف العراقي المستجد، بخصوص ثلاث مسائل: أولاً، تصاعد انتقادات الخطاب العراقي بشأن العدوان على غزّة، الذي كشف، على حد تعبير رئيس الحكومة العراقية، محمد شيّاع السوداني (8/5/2024)، “زيف المجتمع الغربي الذي صدّع رؤوسنا بالمُثل والقيم”.
ثانياً، ارتفاع مستوى التواصل الرسمي بين العراق و”حماس”؛ إذ اتصل رئيس المكتب السياسي للحركة، إسماعيل هنيّة، بالسوداني لإطلاعه على تفاصيل موافقة “حماس” على مقترح الهدنة لوقف حرب غزّة، فضلاً عن اتصال هنيّة بهادي العامري، رئيس تحالف “نبني” (المنضوي في الإطار التنسيقي الشيعي).
ثالثاً، تواتر أنباء عن محادثات بين العراق وإيران و”حماس”، لبحث خيار انتقال قيادة الحركة إلى بغداد، على الرغم من وجودِ اعتراضات/ تحفّظات من قوى سياسية عراقية أخرى (مثل الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البرزاني، وتحالف “تقدّم” السني برئاسة رئيس البرلمان السابق، محمد الحلبوسي).
إضافة إلى بروز متغيرين مهمين، في الإطار غير الرسمي العربي، يشكّلان ضغطاً غير مباشر لمنع انحدار المواقف الرسمية العربية إلى مستويات أسوأ؛ أحدهما بروز وزن الفاعلين من غير الدول (Non State Actors) في الترتيبات الإقليمية (أدوار فصائل المقاومة الفلسطينية وحزب الله اللبناني وجماعة أنصار الله (الحوثي) وفصائل المقاومة العراقية)، سواء في ما خصّ قضية فلسطين وحرب غزّة الراهنة، أو أمن البحر الأحمر، أو إمكانية تصاعد التوترات الإقليمية و”حروب الظل”، خصوصاً بين إيران وإسرائيل، نتيجة السياسات الأميركية/ الإسرائيلية. والآخر ظهور مطالبات غير رسمية أردنية (قوى وأحزاب ونقابات) بالانفتاح الرسمي على حركة حماس، سيما على ضوءِ صمود المقاومة الفلسطينية، التي تعرقّل مخطّطات التهجير الإسرائيلية، التي تستهدف الأردن ومصر معا.
على الصعيد الإقليمي، وعلى الرغم من تطور الموقفين الإيراني والتركي، خصوصا بعد ردِّ إيران الصاروخي على إسرائيل (13/4/2024)، وبعد انخراطِ أنقرة في خطواتِ تقاربٍ مع حركة حماس، بالتوازي مع اتخاذها خطوات عقابية اقتصادية ودبلوماسية وقانونية ضد إسرائيل، فلا تزال أغلب المواقف الإقليمية تُحجم عن ممارسة ضغوط حقيقية لتطوير الموقف المصري “المتردّد” من حرب الإبادة الإسرائيلية، سيّما لجهة تنفيذ قرارات القمة العربية الإسلامية في الرياض (11/11/2023) في كسرِ الحصار على غزّة، وإجبار إسرائيل على إدخال قوافل الغذاء والدواء والوقود.
كوابح انفتاح مصر على خيارات المقاومة الفلسطينية:
تتعلّق الملاحظة الرابعة بالكوابح المصرية في علاقاتها مع قوى المقاومة الفلسطينية؛ إذ يكبح أسلوب التكيّف المصري مع الضغوط الأميركية/ الإسرائيلية أيّة تغييرات جوهرية في المقاربة المصرية؛ فالمتوقّع (أقلّه في المدى المنظور) أن يكتفي النظام بدعمِ قضيّة فلسطين على الصعد الإنسانية والإغاثية (وربّما الاقتصادية، كما حدث إبّان عملية سيف القدس مايو/ أيار 2021)، لكن هذا الدعم لن يكون موجّهاً لدعمِ “حماس”، (ولن يعني بالتالي دعماً رسمياً مصرياً لتيار المقاومة الفلسطينية عموماً، على نحو قد يُغضب واشنطن وتل أبيب)؛ إذ ستبقى مصر الرسمية رهينة اتفاقيات كامب ديفيد، ما استمرّت مقاربة النظام المصري لقضية فلسطين بوصفها “قضية إنسانية/ إغاثية”، على نحو يجرّدها عمداً/ قصداً، من أبعادها السياسية والتحرّرية والعربية، ما يؤكد أنها مقاربة “أمنية/ اختزالية/ آنية/ براغماتية”؛ فلا عجب أن تتنكّر لاعتبارات حماية “الأمن القومي المصري” والمصالح المصرية المرتبطة عضوياً بمآلات قطاع غزّة، على الرغم من تصاعد مخاطر “الفوضى الشاملة”، أو “الصراعات والنزاعات القبلية” في غزّة وسيناء معا، وتصاعد احتمالات بروز تيارات راديكالية (جهادية أو حتى فوضوية عنفية)، نتيجة العنف الهائل الذي مارسته إسرائيل (بدعم أميركي غربي، وصمت عالمي شبه مُطبق)، في حربِ الإبادة على قطاع غزّة.
وعلى الرغم من محدوديةِ الثقة المتبادلة بين النظام المصري وقوى المقاومة الفلسطينية، ثمّة حاجة ماسّة إلى تنحية “الاعتبارات الأيديولوجية البحتة”، وصولاً إلى “انفتاح مصري رسمي” (ولو كان تدريجياً ومحسوباً)، على كلِّ تيّارات الشعب الفلسطيني، بما فيها أنصار المقاومة المسلحة ضدّ إسرائيل وسياساتها العنصرية.
هل تغير حماس “تموضعها الإقليمي” و”هويتها النضالية”؟
تتعلق الملاحظة الأخيرة بسياسات حركة حماس ومنظورها لعلاقتها المصرية، فعلى الرغم من امتلاك قوى المقاومة الفلسطينية أوراقاً للضغط على إسرائيل، فإنها لا تملك أوراقاً كثيرة للضغط على مصر إلا بشكلٍ غير مباشر؛ إذ تؤثر المقاومة على الداخل الإسرائيلي، عبر أوراق الأسرى الإسرائيليين، وبثّ الأشرطة عنهم في إطار “الحرب النفسية المضادّة” ضد حكومة نتنياهو، والصمود القتالي الباسل في مواجهة قوات الاحتلال في محاور التوغل والاشتباك (في رفح وجباليا، وحي الزيتون)، مما يضطرّ القاهرة إلى التجاوب نسبياً مع المطالب الإنسانية والإغاثية للشعب الفلسطيني، ضمن حدودٍ لا تغضب الحليفين الأميركي والإسرائيلي.
وإذ لا يمكن إنكار تأثير حرب غزّة الراهنة في تطوير سياسات “حماس”، وتبلور تكتيكاتها التفاوضية والدعائية، عبر اعتماد أسلوب “نعم ولكن”، أي أن تحقّق بعض مطالبها وتطالب بضمانات دولية (خصوصاً روسية وتركية وأممية)، فالمؤكّد أن جولات المفاوضات بين “حماس” وإسرائيل، عبر الوسيطين، القطري والمصري، برعاية أميركية، قد تكون أصعب وأعقد مفاوضات في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي برمته، ليس لأنها تجرى تحت “النار الإسرائيلية الكثيفة” فحسب (فهذا هو الأسلوب التفاوضي الإسرائيلي المعتاد)، وإنّما لأنها تجرى في سياق “أضعف” حالةٍ يمر بها الإطار العربي، وخصوصاً مصر، وكذلك مجمل النظام الإقليمي الرسمي في الشرق الأوسط، (مع الاستثناء الجزئي لحالتي تركيا وإيران)، من حيث القدرة على التماسك والتصدّي للضغوط الأميركية/ الإسرائيلية الهائلة.
كما تطرح تحدّيات حرب الإبادة الراهنة تساؤلات مشروعة عن احتمال تغيير حركة حماس “تموضعها الإقليمي”، بحيث تتقارب مع القاهرة وأنقرة، لتدخل مسار التسوية الجديدة بعد حرب غزّة (وبضمنها احتمال اعتراف أميركي/ دولي بدولة فلسطينية، من دون تحديد حدودها أو عاصمتها)، أم ستقرّر “حماس” البقاء في “وضعية حركة مقاومة”، تعبّر عن تطلعات الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال والكرامة، علماً أن تحقيق الدولة الفلسطينية “المأمولة” لن يأتي “منحة” من إسرائيل، أو واشنطن، وإنما عبر صياغة استراتيجية نضالية فلسطينية جديدة لانتزاع الحقوق الفلسطينية “انتزاعاً”، على نحو يمكّن الشعب الفلسطيني من “تقرير مصيره” على أرضه التاريخية، وقطف ثمار تضحياته الهائلة، التي حرّكت طلاب الجامعات الأميركية والأوروبية، على نحوٍ يؤذن بتغيير حقيقي في البيئة الدولية والإقليمية، التي استقرّت ملامحها على “عرقلة حرية فلسطين”، والتغاضي عن “الجرائم الإسرائيلية، منذ 76 عاماً.
ولرب قائل إنّ “حماس” وفصائل المقاومة الفلسطينية ستستفيد من علاقة أقوى بمصر الدولة والنظام، بيد أن القاهرة ستستفيد بصورة أكبر، على صعيد استعادةِ مكانتها الإقليمية المهدرة منذ توقيعها اتفاقيات كامب ديفيد، بالإضافة إلى ردع الأطراف الإقليمية، سيّما إسرائيل وإثيويبا، عن الاستخفاف بالمصالح الاستراتيجية المصرية، سواء في فلسطين أو السودان أو ليبيا، أو في الأمن المائي القومي لمصر وحصّتها وحقوق شعبها المشروعة في مياه النيل.
يبقى القول إن استمرار قيود اتفاقية كامب ديفيد على مصر والدول العربية كافة ليس أمراً حتمياً؛ إذ يبقى احتمال تصاعد المقاومة الفلسطينيّة مع دخول جيلٍ جديدٍ من الشباب الفلسطيني والعربي إلى ميدان الصراع، كما تعكسه عملية الجندي المصري محمد صلاح (3/6/2023)، التي تؤكد استمرار رفض الوعي الشعبي المصري سياسات الاحتلال، على الرغم من متانة العلاقات الرسمية بين القاهرة وتل أبيب، فضلاً عن استنزاف قوة إسرائيل، بسبب تفاقم “هشاشة” الوضع الداخلي، في ظلّ سياسات حكومة بنيامين نتنياهو، التي “انزلقت” إلى أوحال غزّة، بدون أيّة خطّة أو رؤية لكيفية الخروج منها، فضلاً عن تصاعد إمكانية انزلاق إسرائيل إلى مستوياتٍ من الصراع مع إيران أو حزب الله اللبناني، لكي تبدأ سلسلة من المعارك الصغيرة بين يدي “حرب إقليمية كبرى” محتملة، خصوصاً مع فشل إدارة بايدن في كبح جماح حليفها الإسرائيلي في غزّة، وفلسطين عموماً.
* كاتب وباحث فلسطيني
المصدر: العربي الجديد