بكر صدقي *
يقول الخبر إن وزارة الداخلية في حكومة نظام الأسد قد أصدرت تعميماً لـ«الوحدات الشرطية» في مناطق سيطرة النظام «طالبت فيه بالتقيد بالقوانين التي تكفل حقوق المشتبه بهم المقبوض عليهم، وإبلاغ ذويهم بمكان وجودهم»… ويتضمن التعميم «تجنب» اللجوء إلى التعذيب الجسدي أو المعنوي في أثناء التحقيق لانتزاع الاعتراف القسري «كونها تنتهك أحكام الدستور والقانون الذي يجرّم جميع أنواع التعذيب»!
واقع الحال أن أجيالاً من السوريين قد نشأوا في ظل استباحة أجسادهم وذواتهم في فروع أجهزة المخابرات وأقسام الشرطة وحتى في الشارع على أيدي جلاديها وضباطها وحراس سجونها الرسمية والسرية، فإذا حدث ولم يقع أحد السوريين في ذلك الجحيم، أو لم يتلق نصيبه «التربوي» في المدارس على أيدي المعلمين وجهاز الإدارة، لا مفر له من الالتحاق بالخدمة العسكرية الإلزامية ليتلقى «تربيته» القائمة على الإذلال المعنوي والتنكيل الجسدي.
بحيث أن السوريين في ظل حكم السلالة الأسدية قد تشكل وعيهم على أساس أن تلك الممارسات هي من «طبيعة الأشياء» أو هي بعض بنود الدستور الحقيقي لدولتهم، دستور خفي يتم تداوله شفوياً، ويختلف تماماً عن الدستور المطبوع الذي كان للمفارقة غير متوفر في أي مكان، ولم يقرأه إلا قلة من السوريين ممن عاصروا صدوره للمرة الأولى في العام 1973 بنسخ محدودة، ولم يهتم أحد بتصويره ونسخه للسبب ذاته: لأنهم يعرفون أن ما يتضمنه من أحكام وبنود تتصل بحقوق المواطن أو الفصل بين السلطات واستقلال القضاء وغيرها، لا قيمة حقيقية لها في الممارسة العملية. بل إن الدستور المكتوب نفسه يحمي رأس النظام الذي يجمع كل السلطات بين يديه من أي مساءلة قضائية.
غير أن صدور تعميم الداخلية المشار إليه ينطوي على اعتراف ضمني بأن الانتهاكات التي يدعو إلى «تجنبها!» كانت من طبيعة عمل «الوحدات الشرطية» ومن المفترض أن إصداره الآن يهدف إلى وقفها من الآن وصاعداً. وعلى رغم أن «الوحدات الشرطية» مقصود بها فقط أجهزة الشرطة ولا تشمل أجهزة المخابرات التي لا يمون عليها وزير الداخلية بما في ذلك «الأمن السياسي» الذي يتبعها على الورق ويعرف السوريون أن رئيس أي فرع من فروعه هو أكبر من مجلس الوزراء مجتمعاً.
وإذا نحينا جانباً كل تاريخ ممارسات الوحدات الشرطية، دع عنك أجهزة المخابرات، وأحسنّا النوايا بأن التعميم المذكور هو تطور إيجابي مهما كان ضئيل الأهمية بالقياس إلى ما يجب تغييره في النظام البوليسي، فهل يمكن تطوير أمل ما بأن الجهات المعنية بالتعميم ستلتزم بموجباته؟ وما هي ضمانات هذا الالتزام في ظل غياب فكرة المحاسبة على أي انتهاكات قد تحدث من الآن وصاعداً؟ الواقع ثمة قانون سنه النظام منذ مطلع الثمانينيات يحمي أصحاب الانتهاكات من أي محاسبة، حتى لو كانت قتلاً تحت التعذيب. بل يقتصر الأمر على محاسبة إدارية لبعض المنتهكين مع حمايتهم من المحاسبة أمام القضاء، وهي تقع على أي حال لبعض العناصر ممن لا يتمتعون بحماية خاصة من ضابط قوي.
كذلك تضمن التقرير المطالة «بتوخي الحذر» بشأن المعلومات التي ترد من مخبرين أو أصحاب سوابق»! ويلقي ذلك ضوءًا على شبكة المخبرين التي لا يمكن معرفة حجمها، ولكن ثمة اتفاقا بين السوريين على اتساعها، تلك الشبكة الخفية التي اعتمدت عليها الشرطة وأجهزة المخابرات معاً في فعاليتها، وتسببت في تحويل مجرى حياة مئات آلاف السوريين بصرف النظر عن انتهاكهم للقوانين أو معارضتهم للسلطة أو براءتهم منهما، بسبب تقارير كيدية من مخبرين في حالات لا تعد ولا تحصى.
وبالنسبة لأجهزة عقيدتها الناظمة لعملها هي «كل مواطن متهم حتى تثبت براءته» فهي لا تحفل كثيراً بالتحقق من صحة ما يردها من المخبرين، وقد يتوقف نجاة من يقع بين أيديهم بلا ذنب، على قدرته على دفع رشوة ضخمة أو صلة قرابة أو معرفة بمركز قوة. فمن الأمور المعروفة أيضاً لدى السوريين أن كل شيء يمكن شراؤه بالمال في أجهزة المخابرات والشرطة باستثناء معارضة النظام. وثمة حالات حتى هذه المعارضة قد يتم غض النظر عنها مقابل الرشوة، منها مثلاً ما كان يتقاضاه رئيس محكمة أمن الدولة الشهير فايز النوري من ذوي المعتقل السياسي مقابل تخفيف الحكم أو حتى حكم البراءة، ولكن بشكل محدود ضمن هامش مبادرة كان يملكها مقابل ما قدمه للنظام من خدمات، بخاصة أحكام الإعدام التي كان يصدرها كعمل روتيني.
ترى هل يحاول النظام أن يتغير ولو بشكل ضئيل بما لا يمس جوهره كنظام قائم على اعتبار الشعب هو العدو؟ أي هل يحاول أن يعامل هذا العدو بما يليق بالأعراف والمواثيق الدولية مع بقائه عدواً يستحق المكافحة؟ لا شيء في سلوك النظام يدعو إلى الرد إيجاباً على هذا السؤال. فما زالت تقارير المنظمات المعنية بحقوق الإنسان تؤكد استمرار الأجهزة في ممارسة الانتهاكات، وما زالت الأخبار تتواتر عن اعتقالات تعسفية وإخفاء قسري وممارسة التعذيب الذي يؤدي في بعض الحالات إلى موت الضحية بسببه.
أما رأس النظام فهو لا يتوقف عن إصدار المراسيم والتعليمات التي توحي بأنه يغيّر شيئاً ما، وكأننا به يستأنف «مسيرة التطوير والتحديث» ذائعة الصيت التي أطلقها في مستهل وراثته السلطة عن أبيه، بعد 24 عاماً وثلاث ولايات رئاسية ونصف، في ظل احتلالات أجنبية تتوزع الجغرافية السورية فيما بينها.
* كاتب سوري
المصدر: القدس العربي