مالك ونوس *
يكفي أن تكون في موقع وظيفي، أو متطوّعاً لدى هيئة حقوقية، محلّية أو دولية، تهتمّ بجرائم الحرب أو الجرائم ضدّ الإنسانية، أو جرائم الإبادة الجماعية، حتّى تصل إليك قرون الاستشعار الإسرائيلية، وتصبحَ على قائمة الاستهداف عند دولة الاحتلال. كما لا يعني أنّ صمتك عن الجرائم، أو حتّى تأييد المُجرم، سيساعدانك لتكون في مأمنٍ من الإسرائيليين أو من مُؤيّديهم وأعوانِهم في أيّ مكان. هذا ما حدث للمدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، الذي برز انحيازُه للرواية الإسرائيلية منذ شنّت دولة الاحتلال حرب الإبادة المستمرّة على غزّة، وابتلع لسانه أو أصيب بالعمى المُؤقّت أمام صور الضحايا الفلسطينيين، والذي لم ينفعه ذلك، فتلقى، أخيراً، تهديداتٍ من مُؤيّدي إسرائيل من الأميركيين بسبب الأخبار عن نيّة محكمته إصدار مذكّرة اعتقال في حقّ مسؤولين إسرائيليين، وهو ما أعلنه أمس الاثنين، بحق رئيس الحكومة نتنياهو ووزير الحرب غالانت، مع رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية والقياديين الميدانيين يحيى السنوار ومحمد الضيف.
وقد برز، قبل أيام، موضوعُ التهديد الذي تلقّاه خان من مجموعة تضمّ 12 عضواً جمهورياً في الكونغرس الأميركي، ضمَّنوه في رسالة حصل عليها موقع زيتيو (zeteo) الإخباري والتحليلي المستقلّ، الذي يديره الإعلامي البريطاني مهدي حسن، يهدّدون فيها الرجلَ، وأفرادَ عائلته، وفريقَ عمله في المحكمة، بمعاقبتهم إذا ما أصدرت المحكمة مذكّرة اعتقال في حقّ رئيس مجلس الحرب الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وقادة إسرائيليين آخرين، على خلفية الجرائم التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي في غزّة منذ أشهر سبعة. وقد نشر الموقع المذكور الرسالةَ الكاملةَ في 6 مايو/ أيار الحالي، وهي مُؤرّخة في 24 إبريل/ نيسان الماضي، وتظهر فيها الأسماء الصريحة للنواب الأميركيين، وتوقيعاتهم فوقها، في مشهد يبدو وكأنّه فعلٌ صادرٌ عن إحدى العصاباتِ المنظّمة، وليس عن نوّابٍ مُنتخبين علناً من الجمهور الأميركي.
وبعدما ذكَّرت الرسالة خان بكلامه عن “مشاهد القسوة” في المناطق الإسرائيلية، التي شهدت هجوم 7 أكتوبر (2023)، وادّعت أنّ حرب دولة الاحتلال على غزّة دفاعٌ عن النفس، وربطت بين إيران وحركة حماس، قالت: “إنّ من شأن مذكّرة الاعتقال المُزمع إصدارُها أنّ تضع المحكمةَ في صفّ أكبر دولة راعية للإرهاب ووكيلتها”. وإذ قال النواب: “إنّنا لن نصنّف المذكّرة على أنّها تهديد لسيادة إسرائيل، بل وتهديدٌ لسيادة الولايات المتّحدة أيضاً”، حذّروا خان تحذيراً، على طريقة المافيات، قائلين: “استهدف إسرائيل وسنستهدفك”. ثمّ أضافوا: “سندفع نحو فرض عقوبات على موظّفي المحكمة، وسنمنعكم أنتم وأفراد عائلاتكم من دخول الولايات المتّحدة. لقد تمّ تحذيرك”.
تندرج هذه الرسالة الخطيرة، وغير المسبوقة، في إطار الهستيريا التي أصيب بها الإسرائيليون وداعموهم ومؤيدوهم في الغرب، وغيرهم من الدول والحكومات، التي وقفت مع دولة الاحتلال في حربها على غزّة، بسبب تزامنها مع مظاهر هزيمة السردية الإسرائيلية، وظهور فئات من المُجتمعات حول العالم، خصوصاً الشباب، وطلبة الجامعات وأساتذتهم، الذين انحازوا إلى الرواية الفلسطينية، وأظهروا تضامنهم مع الضحايا، وأشاروا إلى المُجرمِ بأصابعِهم. وهي حالة غير مسبوقة، لأنّه لم يعد في إمكانية الغرب التغطية على الجرائم الإسرائيلية نتيجة فظاعتها، ولم يعد بإمكانه إسكات الأصوات المُعارِضةِ للحرب، كما فعل في البداية. أمّا اللافت، فهو أنّ الرسالة، ومن يقف خلفها من الإسرائيليين والأميركيين، تُؤكّد أنّ مواقف كريم خان المُؤيّدة للإسرائيليين لا تشفع له، وهو الذي أظهر انحيازه المُبكّر والتام للموقف الإسرائيلي، وردّد علناً الرواية الإسرائيلية. ظهر ذلك جلياً، في مؤتمر صحافي عقده في القاهرة في 29 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أي بعد أيام من الحرب والمجازر، التي ضجّ العالم بها، وامتنع عن الإشارة المباشرة إلى مسؤولية الإسرائيليين عن القتل والتهجير والتدمير الذي لحق بغزّة، جراء حربهم على القطاع. ومع ذلك، ذكَّر أنّه كان على مدى سنة ونصف السنة، هو وزملاؤه، “منخرطين في التحقيق في الشأن الفلسطيني”، من دون أن يذكر أيَّ شأنٍ ذاك، أو أيَّ أمر استدعى هذا الانخراط، هل هي ممارسات الإسرائيليين؟ ذلك ما لم يذكره خان.
ولكنّ خان، الغافل، أصبح أكثر دقّةً حين بدأ يتحدّث عن الصور الآتية من غلاف غزّة، والتي تلقّاها بعد هجوم 7 أكتوبر، والتي قال إنّه “شاهدها برعبٍ”، وإنّها تستحقّ التحقيق فيها ومعاقبة الفاعلين. يومها عزا المُدّعي العام القسوةَ التي ظهرت إلى “الكراهيةِ”، متناسيّاً أنّها ردّات فعل طبيعية بسبب عقود من الاحتلال الإسرائيلي والاستيطان والفصل العنصري، والمجازر والحصار ومصادرة الأراضي، والتهجير الذي عاناه الشعب الفلسطيني. وبينما قال إنّه كثَّف جهوده للوصول إلى المواقع الإسرائيلية التي شهدت الهجمات، وللقاء أُسَرِ القتلى والأسرى الإسرائيليين لدى “حماس”، لم يُشر إلى أسباب امتناعه عن لقاء أُسَرِ الضحايا الفلسطينيين. وحين قال إنّه لم يتمكّن من دخول غزّة، لم يذكر سبب فشله في ذلك، أو إن كان الإسرائيليون هم من منعوه من الدخول من معبر رفح، كما حدث بالفعل. وبكلمات يبدو أنّه سهر ليله لاختيارها، وتمريرها في أجهزة الفلترة، لكيلا تزعج الإسرائيليين، قال خان إنّه كان يودّ أن يسمع في غزّة من الذين يعانون “ألماً فظيعاً”، وأن يلتزم أمامهم “بأنّ حقّهم الأساسي هو العدالة”. وتحدّث عن فلسطينيين أبرياء، أطفال يجب أن يكونوا في مدارسَ أو يلعبون. ثمّ تحدّث عمن قُتل في “الأعمال العدائية”، وعن جثث الأطفال، وعن مدنيين احتُجزوا وسط الحرب، لكنّه لم يذكر في كلمة واحدة من يشنّ هذه الحرب أو المسؤولين عنها، وكأنّ المسبّبَ مجهولٌ لا تظهر صورتُه وصورُ فظاعاته في جميع شاشات العالم. ولم ينسَ خان أن يختم كلامه بالقول إنّه لا يجب أن ينأى بنفسه عن هؤلاء الأبرياء، لكنّه لم يحدّد كيف، تاركاً الأمر معلقاً، وتاركاً الضحايا لمصيرهم، والمُجرم حرّاً.
بعد أشهر من الانحياز للإسرائيليين، والسكوت عن جرائمهم، ربّما أدرك خان أنّ تجاهل الإبادة الجماعية التي ينفّذها الإسرائيليون في غزّة أصبح عملاً يفتقر صاحبه الأخلاق، وتنعدم الإنسانية لدى من يمارسه، في ظلّ الفظائع، التي حرّكت ضمائر كثيرين ليقفوا ضدّ الحرب، وغيّرت مواقف كثيرين من دولة الاحتلال. وبينما قيلَ إنّ مذكّرات الاعتقال ستصدر نتيجة ما توصلت إليه التحقيقات في الاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزّة بموجب طلب قدّمته السلطة الفلسطينية سنة 2015، قيلَ إنّ محققين تابعين للمحكمة استمعوا إلى إفادات أعضاء في الطواقم الطبّية لمسشفيي ناصر والشفاء في القطاع، على خلفية ما اقترفه الجنود الإسرائيليون من جرائم فيهما. وليس معروفاً إن كان ثمّة علاقة بين مذكّرات الاعتقال والطلب الذي تقدّمت به كلٌّ من جنوب أفريقيا، وبنغلادش، وبوليفيا، وجزر القمر، وجيبوتي، إلى المحكمة، أواسط نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، من أجل التحقيق في الحرب الإسرائيلية على غزّة.
يذكّر ما حدث لكريم خان بالنيّات الإسرائيلية الحقيقية تجاه مصر والأردن، التي توضّحت من خلال كلام الإسرائيليين عن خططهم لتهجير الفلسطينيين من غزّة إلى سيناء المصرية، ومن الضفّة إلى الأردن، من دون أيّ مراعاة لموقف هاتين الدولتين، اللتين تجمعهما اتفاقيات سلام مع الإسرائيليين. وبينما لم يَسلَم حتّى الرئيس الأميركي من ألسنة الإسرائيليين نتيجة توقيفه شحنات الأسلحة، ومطالبته بعدم اجتياح رفح، هل يمكن أن يسلم كريم خان من تهديداتهم وتهديدات حلفائهم، لمُجرّد أنّه ظنّ نفسه صديقاً لهم، حين تبنّى سرديتهم؟
* كاتب ومترجم سوري
المصدر: العربي الجديد