علي حبيب الله *
(هذه المادة هي الثالثة من سلسلة مواد “نكبة بنات عسقلان” التي ننشرها تباعًا في ذكرى النكبة لهذا العام)
طفلة هي حمامة في حكاية مولدها، وأمُها عسقلان. ففي موسوعته “بلادنا فلسطين”، ينبشُ الدبّاغ عند حديثه عن قرية حمامة أسطورة قديمة للإلهة “سميراميس” بنسختها اليونانية، وهي أشورية الأصل واسمها “سمو رامات” ملكة ظهرت في نحو 810 ق.م. والأسطورة بنسختيتها الآشورية واليونانية تؤكدان علاقة سميراميس التي كان يعني اسمها “الحمامة” بمدينة عسقلان.
وبحسب “ديودورس” المؤرخ اليوناني، سميراميس ولدت عندما غضبت أفروديت من إلهة السمك ديرسيتو التي أحبت هذه الأخيرة في مدينة عسقلان شابًا وسيمًا من رعاياها، أنجبت منه بنتاُ، ثم قتلته بعد شعورها بالخزي من نفسها، وتركت طفلتها في رمال عسقلان التي كادت أن تموت لولا اعتناء سرب من طيور الحمام بها، حيث تعودت الطيور جلب الحليب والجبن لها من قرية قريبة. ولمّا أحس مُزارعو القرية بتناقص حليبهم وجبنهم، بحثوا عن السبب إلى أن وجدوا طفلة لا يتجاوز عمرها السنة عند ضفة بركة ماء يُحيطها الحمام، وكان من بين المزارعين مزارع يُدعى “سيماس” يُقال بأنه من حضن الطفلة، وذهب بها إلى بيته، وأطلق عليها اسم “سميراميس” والذي يعني الحمامة بحسب ديودورس(1). ومن حينه، وذلك الموضع في عسقلان يُعرف عند اليونانيين باسم سميراميس، الموقع الذي قامت عليه قرية حمامة، التي ظل أهلها حتى عام النكبة على اعتقادٍ بأصل قريتهم اليوناني في نشأتها وتسميتها معًا.
هذه إحدى أقدم حكايات أصل نشأة حمامة وتسميتها، وظلّ موقع القرية يحملُ في العهد البيزنطي فعلًا اسم “بيلايا” الذي يعني الحمامة(2)، إذ كانت تقوم في حينه حمامة على تل مشقفة. بينما في رواية أخرى يذكر أن القرية مشتقٌ اسمها من “واد الحمى” تسمية عربية- إسلامية حُرّفت لاحقًا إلى حمامة(3). فيما صاحب “إتحاف الأعزة في تاريخ غزة” يذكر حمامة “قرية عظيمة حسنة سُميت بذلك لحسن منظرها وبياضها أنثى الحمام، من الطيور، ولا يُعرف موضع بهذا الاسم غيرها، وهو اسم ماء لبني سليم”(4).
على بعد نحو 24 كيلومترا إلى الشمال من غزة على خط ساحل، كانت تقوم قرية حمامة على تلٍ عُرف باسم “تل مشفقة” لا يفصلها عن البحر غير كيلومترين فقط. وعُرفت القرية بحمامة عسقلان؛ لأنها كانت امتدادًا لهذه الأخيرة حيث حطت القرية على خرائب عسقلان الأم من شمالها. وإلى الشمال من حمامة كانت أسدود على مسافة بضعة كيلومترات، وكان أنبوب نفط أسدود- إيلات يمر من شرقي حمامة على بعد أقل من 5 كيلو، كما من شرقيها كان يمر الشارع الرئيسي المعبد الواصل ما بين يافا وغزة جنوبًا، فضلًا عن خط سكة الحديد القادم من الشمال إلى مصر جنوبا كان يمر من شرقي حمامة. كانت أراضي كل من مجدل عسقلان وبيت دراس تحيط بحمامة من جنوبها، وقد امتدت أراضي القرية إلى مساحة قاربت 42 ألف دونم، فقد اعتبرت حمامة واحدة من أكبر قرى فلسطين من حيث مساحة الأرض وتعداد السكان الذي وصل قبيل النكبة إلى ما يزيد عن 6000 نسمة.
ومع أن حمامة بيوتها ارتفعت فوق تلٍ رملي، إلا أن القرية اشتهرت بسهولها المرجية التي كانت تحيط بها، منحها أهالي القرية أسماء تعارفوا عليها طوال تاريخهم في قريتهم، منها: سهل بشة، سهل معصبة، وسهل المدورات، سهل صفرة وسهل أم الرياح حيث مهب الأرواح فيه كما كان يقول أهل حمامة عنه(5). فضلا عن سهل أبي جامع وسهل بلاس في الجنوب الشرقي من القرية، وسهل الرسم وسهل المهيل(6).
كان وادي “الجريبة” من أشهر وديان حمامة المحيطة بها، والذي كان يأت من أراضي المجدل، ويمر من جنوب حمامة الشرقي، ليلتقي مع واد “حمامة” جنوبا، ثم نحو الغرب عبر بِرك ماء “الأبطح” ومنها إلى البحر حيث المصب. كانت الأبطح تعتبر أكبر موقع لتبرك الماء ما بين حمامة والبحر، إلى درجة بدت فيه كما لو أنها بحرة تعود أن يقصدها أفندية غزة ويافا ببنادقهم لصيد البط من على حوافها(7). وقد اشتهرت حمامة بكثرة بِرك الماء من حولها، والتي نظر إليها مستوطنو كيبوتس “نيتسنيم” بوصفها “مستنقعات” تهدد أمن أبدانهم واستيطانهم الصحي منذ استحواذهم في مطلع أربعينيات القرن العشرين على بعض أراضي القرية في حكاية ظلت تُعرف بأدبيات المستوطنين بـ “أراضي وقصر الأفندي” حيث كانت تعود أراضي الكيبوتس، وفيها قصر لأحد الأفندية العرب من قرية حمامة، والذي يُقال بأنه باعها للصهاينة على خلفية خِلاف مع أهالي القرية أدى إلى جريمة قتل، أسفرت عن جريمة أكبر تمثلت بتسريب تلك الأراضي.
بركة “الجرن” وعُرفت ببركة حمامة الجنوبية حيث استوعبت المياه القادمة من المجدل شتاءً، وقد حط عندها بعض العرب الرُحل الذين احترفوا صناعة السكاكين. بينما بركة حمامة الشمالية، كان يأوي إليها الماء الجاري قادما من أسدود شمالا، واشتهرت باسم بركة “الحَرية” وكان ماؤها دائم التبرك، ما اضطر أهالي حمامة إلى شق قنوات لها كي تعرف مجراها نحو البحر.
في مقابل ذلك التشكيل البيئي المتصل بالسهول وتبرك الماء، إلا أن القرية كانت تلية في بعض نواحيها، أطلقوا على بعض تلك التلال اسم “السوافي” جمع سافية، أي التلة الرملية. مثل: تل الفراني في الشمال الشرقي من حمامة، بينما في الشمال الغربي كان تل أبي جهم الشهير نسبة لضريح قبر أبي جهم أحد الأولياء الصالحين ما بين حمامة وأسدود، وعليه أقيمت مستوطنة كيبوتس نيتسنيم. فيما ظلّ أبو حراجة التل الأعلى في حمامة يُطلُ من جهتها الشرقية، وتل بشّة التي يُقال إنّها كلمة سريانية تعني المخبأ، فعُرف بتل “بيت المختبئين”(8). تلال أخرى كانت تشرئب لتعلو عن وجه البحر منها تل الفرهند، والصفرة والحرارية وتل العرقوبية كذلك.
إذا كانت عسقلان الأم تُعتبر ذاكرة الخرائب، فإن حمامة البنت كانت ذاكرة الخِرب، فالمواقع الأثرية التي تعود لعسقلان التاريخية كثرت في محيط حمامة إلى يوم نكبتها، منها خِربة “صند حنة” في شمال القرية على طريق أسدود. وخربة “مِعصبة” التي حوت عشرات البيوت القديمة الأثرية، وفيها ضريح الولي “أبو طراد”، وخربة “الأبطح” عند البحر غربا، وخربة “خور البيك”، وخربة “النواميس”، وخربة “المصلى” في الشرق، وخربة “المكوس” وخسة والسواريف والركب وجعدة وخربة الواويات(9). وغيرها من الخِرب التي لم يعد أي من أهل حمامة قادرا على إحصائها لكثرتها.
في قلب كل حجر أثر تحته في حمامة، وسيرة من تاريخ الحط عند البحر، فحجر عيد مشهورٌ ومُهابٌ كان في حمامة لمدافنه وآباره الكفرية، فيما مقام الشيخ عواد ومزاره، ظلَّ في موقعه على حرف البحر يذكّر بروابط الناس مع هواجسها الأمنية والرباطات البحرية التاريخية التي داوم عليها العرب- المسلمون في عسقلان بوصفها حِصنًا ثغريًا بحريًا.
إلا أن المقام الأكبر، الذي ظلت معظم أراضي حمامة موقوفة عليه، وعلى زاويته وجامعه، كان مقام “الشيخ أبو عرقوب” ابن الشيخ “علي بن عليل” بحسب الطبّاع(10) ومقام هذا الأخير في قرية الحرم شمالي يافا باقٍ إلى يوم البحر هذا. ومقام الشيخ أبي عرقوب كان في جامع حمامة الذي عُرف باسمه، حيث سبق المقام بناء الجامع الذي أقيم عنده تبركا به. كما يذكر الطبّاع بأن على ساحل البحر ما بين حمامة وأسدود كان يقوم مقام “أبو قباجة” وكان مزارا لأهالي البلدين تاريخيا(11). بينما يذكره سكيك باسم “الشيخ غريب”(12).
دماء في دار السمّاكة:
“إحنا بقولوا عنّا السمّاكة” يقول محمد إبراهيم دحلان في مقابلة معه عما عُرف عن أهالي قريته(13)، حيث امتهنوا صيد السمك وبيعه في القرى المجاورة لحمامة خصوصا الشرقية منها، فضلا العمل في زراعة الحبوب والحمضيات والكروم. تكونت حمامة من حمائل كبيرة ممتدة شملت كل واحدة منها عدة عائلات.
ومن أبرز حمائل حمامة: المقدادية، الذين يُنسبون إلى الصحابي المعروف المقداد بن الأسود، نُسبت لها عدة عائلات، وكان لها مختار خاص فيها. ثم حمولة، الكلايبة (آل كُليّب) ويُذكر بأنهم من ذرية الشيخ أبي عرقوب الذي أشرنا إليه سابقًا. ثم العوض، نسبة إلى آل عوض. والصقور، ثم الدحالين نسبة إلى آل دحلان، وحمولة الشامية. كما في القرية عائلات مصرية، ظلّت تُعرف كذلك، وكان مصريو حمامة من جُملة جنود حملة إبراهيم باشا سنة 1834 على البلاد، والذين آثروا البقاء في البلاد، وقد توزعوا على مدنها وقراها خصوصا في ديار المجدل وغزة.
لحمامة كان دور فاعل في السيرة النضالية التي خاضها أهالي جنوب البلاد، وتحديدا في ديار عسقلان منذ مطلع القرن العشرين، وقد تشكلت في حمامة لجان لمقاومة الاستعمار البريطاني في ظل الثورة الكبرى (1936- 1939) عليه. كانت أول لجنة شكّلها ثوار القرية برئاسة محمود عبد ربه دحلان، الذي خدم قبل ذلك كضابط في الجيش العثماني، وكان معه في اللجنة الثورة جملة من خيرة أبناء حمامة الثوار منهم: محمد مقداد الملقب بالزعيم، وعمر وإسحاق الفراني وإبراهيم الفار، ومحمد العمري ومحمد صقر الملقب بـ “طبيش”، والملقب بالـ “وحش” رباح أبو صفية، وحسن عباس أبو العمرين، ومحمود الدوش الملقب بـ “أبو العظم”، وعمران الخواجة، وخليل أبو سلطان، ورمضان داود الأغا، وشحادة ذيب عبد الصمد عوض(14).
نفذ ثوار حمامة عدة هجمات على الدوريات البريطانية، ونصبوا الكمائن لها قاطعي الطريق على الثكنات العسكرية والكوبانيات الصهيونية في منطقة غزة والمجدل. وقد تعاون أهالي القرية مع ثوارها، ومما يروى أن ثوار حمامة كمنوا لدورية إنجليزية، وبعد أن هاجموها فروا إلى حمامة حيث تستر الأهالي عليهم، ما أدى اقتحام الجيش البريطاني للقرية، ولمّا رفض مختارها خميس حمّاد الإذعان لتهديد قوات الجيش بنسف ديوانه ما لم يدلهم على أسماء ومخابئ الثوار، نسفت قوات الجيش البريطاني ديوانه فعلًا، غير أن أهالي حمامة تعاونوا على إعادة بنائه مرة أخرى. ومن بين شهداء حمامة في الثورة الكبرى وعلى أثرها، استشهد كل من: العبد النجّار، خليل حسين السر، يوسف انشاصي، محمد علي موسى دحلان وعبد الهادي الفراني(15)، خمسة نفار استشهدوا في يوم واحد على حد تعبير وجع الحاج حسين الشامية(16).
في عام النكبة، كان مستوطنو كيبوتس نيتسانيم المُقام على أراضي حمامة قد هاجموا بعض فلّاحي القرية في أراضيهم القريبة من أسدود، وجرحوا عددًا كبيرًا في 22 كانون الثاني 1948. وبعدها بأيام قليلة فتحت وحدة عسكرية من الكيبوتس النار على بعض أهالي القرية، وقتلت واحدا منهم(17).
خاضت حمامة المواجهة مع العصابات الصهيونية مبكرًا، فقد التحق أبناؤها مع مقاتلي المجدل والجورة وبربرة يوم 17 آذار 1948 بمعركة الهجوم على “كمب خمسة”. وكذلك بمعركتي جولس الأولى والثانية في نهاية آذار، واستشهد في الأولى من بين أبناء حمامة كل من حسين عبد الرحمن اللحام والعيد يحيى الخواجا(18). ثم كانت معركة نتسانيم الكبرى في يوم 17 حزيران التي خاضتها القوات المصرية هذه المرة ومعها متطوعون من القرى المجاورة بمن فيهم أبناء حمامة، واستشهد فيها أحمد أبو عودة أحد متطوعي القرية(19).
سقطت حمامة بيد الصهاينة في يوم 28 تشرين أول، بعد عام كامل من المواجهة المستمرة، ولمّا سقطت القرية كانت قد استوعبت آلاف النازحين القادمين من أسدود، وقد هُجروا من القرية معا باتجاه غزة. وعلى أنقاض بيوت وأراضي قرية حمامة تمدد كيبوتس نيتسانيم، وفي العام التالي أقام الصهاينة على أراض القرية مستعمرة “كفار هنوعر” ثم “بيت عزرا” ومزرعة “أشكولوت” في خمسينيات القرن الماضي.
………………….
إحالات:
1 _ الخميسي، عضيد جواد، هل الملكة الآشورية سمو رامات هي نفسها سميراميس؟، موقع صوت العراق، تاريخ 30-10-2022.
2 _ دحلان، محمد إبراهيم، حمامة، مقابلة شفوية، موقع فلسطين في الذاكرة: ضمن مشروع تدوين التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطينية، تاريخ 6-6-2008.
3 _ الفراني، عبد الحميد، أوراق في التاريخ الشفوي: قرى فلسطينية مهجرة “حمامة”، بديل: المركز الفلسطيني لمصادر حقوق المواطنة واللاجئين، 2009، ص48.
4 _ الطبّاع، الشيخ عثمان مصطفى، إتحاف الأعزة في تاريخ غزة، تحقيق: عبد اللطيف زكي هاشم، مكتبة اليازجي، غزة، 1999، ج2، ص 405.
5 _ دحلان، محمد إبراهيم، المقابلة السابقة
6 _ الفراني، عبد الحميد، المرجع السابق، ص44.
7 _ دحلان، المقابلة السابقة.
8 _ الفراني، المرجع السابق، ص45.
9_ المرجع السابق، ص49.
10 _ الطبّاع، المرجع السابق، ج2، ص405.
11 _ المرجع السابق، ج2، ص406.
12 _ سكيك، إبراهيم خليل، غزة عبر التاريخ، ج6، 53.
13_ دحلان، المقابلة السابقة.
14 _ الفراني، المرجع السابق، ص50.
15 _ المرجع السابق، ص50.
16 _ الشامية، حسين إدريس، حمامة، مقابلة شفوية، موقع فلسطين في الذاكرة: ضمن مشروع تدوين التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطينية، تاريخ 31-5-2008.
17 _ الفراني، المرجع السابق، ص50.
18 _ المرجع السابق، ص52.
19 _ المرجع السابق، ص53.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب فلسطيني وباحث في التاريخ الاجتماعي
المصدر: عرب 48