يزيد صايغ *
ستكون خطة بايدن “لليوم التالي” في غزة كارثية ما لم تقترن بوعد إقامة الدولة الفلسطينية.
فيما وصلت الحرب الدائرة في غزة إلى طريق مسدود مميت، يبدو أن إدارة بايدن تتحدّث مجدّدًا عن “اليوم التالي” لهذا الصراع. فقد صرّح وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في 12 أيار/ مايو أن واشنطن “تعمل منذ أسابيع كثيرة على وضع خطط موثوقة للأمن والحكم وإعادة الإعمار” في غزة. وهذه المرّة، تحثّ الإدارة الأميركية كلًّا من مصر والإمارات العربية المتحدة والمغرب على نشر قوة عربية مشتركة لحفظ السلام في قطاع غزة عند توقّف القتال، تتولّى صون الأمن فيه إلى حين إرساء حضور أمني فلسطيني موثوق هناك. في المقابل، اقترح الوزير في مجلس الحرب الإسرائيلي، بيني غانتس، “إنشاء إدارة أميركية وأوروبية وعربية وفلسطينية” تدير الشؤون المدنية في غزة إلى حين تشكيل حكومة جديدة، على أن تحافظ إسرائيل في غضون ذلك على درجةٍ من “السيطرة الأمنية”.
تُصوِّر إدارة بايدن وكذلك غانتس مقترحَيهما على أنهما مؤقّتان، ولكن سيثبت أنهما غير محدّدَي المدّة طالما أن الاستقلال الفلسطيني ليس هو الهدف النهائي على نحو لا لبس فيه. ومع ذلك، لا تزال إدارة بايدن متردّدة في ممارسة الضغط اللازم لإرغام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على المشاركة حتى في أبسط مقترحاتها. فهي إذ حذّرت من اجتياح رفح من دون خطّة مناسبة لحماية مئات آلاف الفلسطينيين الذين لا يزالون هناك، أبلغت الكونغرس بعزمها إرسال مليار دولار من المساعدات العسكرية إلى إسرائيل حتى بعد بدء الهجوم البرّي الإسرائيلي من دون هكذا خطّة. إن كانت الإدارة تراهن على غانتس لإطاحة نتنياهو، فعجزها عن ممارسة أيّ ضغط مُجدٍ على رئيس الوزراء لن يؤدّي إلّا إلى تعزيز وضعه في الداخل وتقويض غانتس.
لكن هذا كلّه أبسط الأمور، إذ طالما لا توجد رؤية واضحة بشأن الدولة الفلسطينية، وخارطة طريق لإقامتها، لن تكون القوات المؤقّتة المزعومة والإدارة الانتقالية في غزة إلّا دائمتَين. والأسوأ أن احتمال دخول قوات حفظ السلام في صدامٍ مباشر مع السكان الذين يُفترَض بها ضبط أمنهم، إن لم يكن حمايتهم، سيزداد كلّما طالَ أمد الإبقاء على هذه الترتيبات من دون أفق سياسي جليّ. ولن تحقّق القوات العربية نتيجةً أفضل من القوات غير العربية، أيًّا تكن جنسياتها أو ارتباطها الديني والثقافي المفترض بالفلسطينيين.
هذا، ومن شأن حتى أبسط مهمة معقولة لحفظ السلام- لضمان مرحلة “استقرار” أوّلية إلى حين إرساء ترتيبات محلية جديدة للحكم الفلسطيني- أن تطرح تحدّيات كبرى. فهل من المفترض أن تعمل قوة حفظ السلام على نزع سلاح عناصر حماس وغيرهم من المقاتلين، أو اعتقالهم، أو تفكيك منظماتهم؟ وهل ستتولّى تمشيط قطاع غزة برمّته منزلًا منزلًا؟ أم إنها ستأمل بصورة عمياء أن يستمرّ المواطنون المحليون بالترحيب بعناصرها وحمايتهم، حتى لو أصبحت آفاق الاستقلال أبعد من أيّ وقت مضى؟ سينتهي المطاف بقوات حفظ السلام إلى التسبّب بالمزيد من الخسائر في صفوف أهالٍ نالوا نصيبهم من الأذى، ناهيك عن تكبّد تلك القوات الخسائر أيضًا.
أما دمج قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية في قوة حفظ السلام المقترحة لغزة، أو إيكال المهمّة إليها بعد مرحلة أوّلية يُصار فيها إلى تحقيق الاستقرار، فلن يضمن نتيجةً أفضل. بل على العكس تمامًا، من شأن نشر قواتٍ من السلطة الفلسطينية مواليةٍ لحركة فتح، سواء كانت من الضفة الغربية أم غزة، أن يزيد احتمال تصفية الحسابات بالعنف مع حماس، التي بينها وبين فتح تنافسٌ طويل ومرير. يتذكّر الكثيرون أعمال العنف والاقتتال الداخلي التي سبقت وأعقبت سيطرة حماس على قطاع غزة في العام 2007. لكن السابقة أُرسيَت بمقتل أربعة عشر متظاهرًا أعزل من حماس على أيدي عناصر فتح في شرطة السلطة الفلسطينية في تشرين الثاني/ نوفمبر 1994، بعد أشهر قليلة على إنشاء هذه السلطة وأجهزتها الأمنية.
والمخاطر أكبر من ذلك حتى، لأن لدى مصر والإمارات من الأسباب ما يدفع كلًّا منهما إلى تحقيق أجندته الخاصة في غزة: فهما تضعان حماس في الخانة نفسها مع جماعة الإخوان المسلمين، التي تخوضان معها حربًا ضروسًا. وستسعى الإمارات بلا شكّ إلى تعزيز حظوظ حليفها المقرّب، الرئيس السابق لجهاز الأمن الوقائي في غزة، والقيادي السابق في فتح، محمد دحلان، الذي لديه أتباعٌ في القطاع، بمَن فيهم أبناء بعض العشائر التي اشتبكت مع حماس مؤخّرًا.
ولذا، إن الانتشار المتنازع عليه لقوات عربية أو قوات تابعة للسلطة الفلسطينية سيؤدّي، على نحو شبه مؤكّد، إلى مفاقمة الانقسام السياسي والتدهور الاجتماعي في غزة، ناهيك عن تداعيات محتملة قد تطال الفلسطينيين في الضفة الغربية. وقد ظهرت بالفعل لمحاتٌ من عنف العصابات والعشائر في غزة نتيجة الضعف الذي أصاب شرطة حماس وتراجع سيطرتها الأمنية العامة. الواقع أن غزة قد تتحوّل إلى هايتي البحر المتوسط، إذا ما اتُّبِع النهج الذي تنادي به إدارة بايدن. ومن المرجّح جدًّا أن يمتدّ النزاع أيضًا إلى مخيّمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، التي تشهد منذ سنوات صراعًا ثلاثيًا تنخرط فيه حماس وفصائل إسلامية أخرى والجناحان المتنافسان في فتح، المواليان لكلٍّ من دحلان ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس. فسبق أن هزّت مخيمَ عين الحلوة، أكبر هذه المخيمات، اشتباكاتٌ خلّفت 28 قتيلًا في صيف العام 2023، أي قبل فترة وجيزة من أحداث 7 تشرين الأول/ أكتوبر.
زِد على ذلك أن وضع غزة تحت أيّ سيطرةٍ عسكريةٍ أجنبيةٍ في ظلّ غياب خارطة طريق واضحة لإقامة دولة فلسطينية سيُمكّن إسرائيل من ترسيخ استعمارها الاستيطاني للضفة الغربية بمزيدٍ من الحصانة. لقد أظهرت إدارة بايدن والدول الحليفة، مثل المملكة المتحدة والحكومات الأوروبية الرئيسة، سواء بأفعالها أو بتقاعسها، أنها لن تتّخذ إلّا أكثر الإجراءات رمزيةً لمواجهة الدور المكشوف للحكومة الإسرائيلية والجيش في مساعدة وتشجيع المستوطنين المسلّحين، بمَن فيهم وحدات ميليشيات المستوطنين الرسمية وكتيبة المستوطنين المُنشأة رسميًا في القوات المسلحة الإسرائيلية، الذين ساهموا في قتل ما يقرب من 500 فلسطيني في الضفة الغربية منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر. من شأن المزيد من الاعتداءات في الضفة الغربية أن يؤجّج التوتّرات في غزة إلى درجة الغليان، وهو ما سيفترض بقوة حفظ السلام العربية أو الدولية أن تعمل على كبحه.
لا يمكن تنفيذ عملية عسكرية “احتوائية” في غزة في ظلّ هذه الظروف، كما بات الجيش الإسرائيلي نفسه يدرك، فما بالك بتحقيق حفظ السلام بشكل موثوق. لقد كانت السلطة الفلسطينية عقلانية في رفضها الانجرار إلى حفظ أمن غزة من دون الحصول على ضمانات بإطلاق مسار دبلوماسي مُجدٍ يفضي إلى إقامة الدولة الفلسطينية. إذ يُنظَر أصلًا إلى قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية بأنها تضطلع بدور مماثل للدور الذي ستتولّاه القوة العربية أو الدولية المقترحة لحفظ السلام في غزة، وهو تهدئة المواطنين المحبطين من استمرار تراجع آفاق إقامة الدولة، والرازحين تحت تهديد مستوطنين يزدادون عنفًا، يزوّدهم الجيش الإسرائيلي بالسلاح والحماية.
سيكون من الحكمة أن تصرّ الدول العربية التي يُطلَب منها المشاركة في قوات حفظ السلام في غزة على إطلاق مسارٍ مباشرٍ يؤدّي إلى إقامة الدولة الفلسطينية، كضمانة أساسية لمصالحها السياسية والأمنية. وقد مهّدت أيرلندا والنرويج وإسبانيا الطريق لذلك عبر الاعتراف بدولة فلسطينية تتمتّع بكامل الحقوق والواجبات التي تتمتّع بها الدول المستقلّة. فما لم تكن هذه المقاربة جزءًا لا يتجزّأ من تفويض قوة حفظ السلام، يجب أن ترفض الدول العربية الاضطلاع بدورٍ في حفظ السلام بوساطة أميركية. وسيكون من الأجدى لهذه الدول أيضًا أن تصرّ على عدم نشر أيٍّ من قواتها ما لم تنشر الولايات المتحدة والحكومات الأوروبية الكبرى التي تروّج لفكرة حفظ السلام فيما ترفض الاعتراف بالدولة الفلسطينية، جنودَها على الأرض أيضًا. ثم على الأميركيين والأوروبيين أن يقدّموا تعهّدات صارمة بعدم سحب قواتهم من دون موافقة شركائهم العرب في مهمة حفظ السلام. هذا درسٌ لا نزال نتذكّره جيّدًا بعد الانسحاب السريع لقوة حفظ السلام متعدّدة الجنسيات بقيادة الولايات المتحدة، التي نُشِرَت في لبنان في العام 1982، وتلا الانسحاب ارتكاب مجزرة مخيّمَي صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين في بيروت.
لقد شنّت إسرائيل اجتياحها البرّي لغزة من دون أدنى فكرة عمّا يمكن أن تفعله بالقطاع أو سكانه بعد ذلك، وأصبحت تدرك الآن أنها محكومة بخوض صراعٍ منخفض الحدّة على المدى الطويل. ولن تحقّق قوة عربية أو دولية نتيجة أفضل، بل ستريح ببساطة إسرائيل بتولّيها زمام أوضاعٍ غير مستقرّة، لن تكون لها فرصةٌ لحلّها أكثر ممّا لإسرائيل. إن توسّط إدارة بايدن في نشر قوات على الأرض وفقًا للشروط التي تقترحها يجعلها مذنبةً في تعريض حلفائها وأصدقائها للخطر عمدًا. وطالما أن عنف المستوطنين الإسرائيليين المتطرّف برعاية الدولة يتواصل في الضفة الغربية بلا رادع، لن يخدم هذا التدبير برمّته سوى نتيجة واحدة، وهي تفكيك فلسطين بالكامل. صحيحٌ أن الولايات المتحدة لم تكن يومًا وسيطًا نزيهًا في هذا الصراع، إلّا أن بايدن سيحوّل بذلك دورها إلى دور قتالي مباشر في المعركة المستمرة منذ عقود لمنع إنشاء دولة فلسطينية.
إن لم تُوفَّر الظروف اللازمة لمنح الفلسطينيين دولتهم، فعلى الولايات المتحدة والدول الغربية الحليفة التي تنادي بحفظ السلام في غزة وتمنع في الوقت نفسه إقامة الدولة الفلسطينية، أن تتحمّل بالكامل مسؤولية فكرتها هذه، كما مسؤولية التعامل مع العواقب المترتّبة عنها.
* باحث رئيسي, مركز مالكوم كير- كارنيغي للشرق الأوسط
المصدر: مدونة ديوان التابعة لمركز كارنيجى