ماجد كيالي *
أتت الحراكات الشعبية، وضمنها الطلابية، المتعاطفة مع الفلسطينيين، في عواصم ومدن الدول الغربية، كواحدة من أهم التداعيات الناجمة عن حرب الإبادة الجماعية، الوحشية، التي تشنّها إسرائيل على فلسطينيي غزة، منذ حوالي سبعة أشهر، أمام سمع العالم وبصره، وكردة فعل على الدعم، السياسي والعسكري والمالي، الذي تقدمه حكومات الدول الغربية لإسرائيل في تلك الحرب.
بيد أن تلك الحراكات، المستمرة والمتزايدة، تكتسب معانيها من جوانب أخرى، أيضا، لعل أهمها يفيد بأن قيم الليبرالية الديمقراطية، أي قيم الحرية والمساواة وحقوق المواطنة مترسّخة في المجتمعات الغربية، وأن سعي بعض القوى أو الحكومات، في معظم تلك الدول، لتقييدها، أو لقضمها، طوال العقود الماضية، لم تنجح تماما.
الملاحظة أن تلك الحراكات بدت محصورة في الدول الغربية، وخاصة في الأقوى فيها، أي الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا وأسبانيا وكندا وأستراليا، في حين لم يُلحظ مثلها في الدول الأخرى، التي كانت محسوبة كصديقة لقضية الشعب الفلسطيني تاريخيا، مثل روسيا والصين والهند، التي ترفع راية عالم “متعدد الأقطاب”، ما يعني أن المجتمع المدني قوي في الدول الغربية، ويمكن له أن يقف في وجه حكوماته، في حين أنه ضعيف في الدول الأخرى، بسبب غياب حقوق المواطنة، والافتقاد لقيم الحرية والمساواة.
وهذا التمييز برسم بعض الذين ينكرون وجود حقوق إنسان أو الانتقاص والتزييف في الحريات بالدول الغربية، علماً أن بعضهم لا يبالي بقصة الحقوق والحريات في بلده، وبعض آخر منهم يعيشون في الدول الغربية كلاجئين، بمرتبة مواطنين، بالضبط بسبب حقوق الإنسان وقيم الليبرالية الديمقراطية التي تميز تلك الدول، مع تأكيد أنه لا توجد دولة كاملة، أو جمهورية فاضلة في العالم، وأن الحقوق والحريات في الدول الغربية بحاجة إلى مزيد من التصحيح والصيانة والتطوير، وضمنه نبذ المعايير المزدوجة في التعاطي مع قضايا العالم.
ناحية أخرى، تميّز تلك الحراكات، وهي ربطها بين حقوق المواطن، سيما الحرية والمساواة والكرامة، وحقوق الشعب الفلسطيني، إذ إن الخروج من أجل الفلسطينيين، يأتي تبعا لتلك القيم، وأيضا للدفاع عن الحق في الرأي، وحرية التعبير، التي تحاول بعض الاتجاهات في الحكومات الغربية مصادرتها، أو تقييدها، في البلدان الغربية ذاتها.
وبشكل آخر، فإن المواطن في مجتمعات البلدان الغربية، إضافة إلى نزعة التمرد لديه على الحكومات نتيجة التآكل في حقوقه، يجد أن لديه كل الحق في اعتبار أن تقييد حريته في التعبير عن رأيه بشأن فلسطين، أو في إدانة السياسات الاستعمارية والعدوانية والعنصرية، التي تنتهجها إسرائيل، بمثابة انتقاص من قيمه وحقوقه، وهذا تطور غير مسبوق في الضمير العالمي، وهو تطور يرى في إسرائيل عالة أو عبئا على الدول الغربية، من كل النواحي، سيما السياسية والأخلاقية والأمنية والمالية، خاصة بعد أن انكشفت إسرائيل كدولة استعمارية وعنصرية وكدولة تمارس حرب إبادة جماعية ضد شعب آخر، فتهدم بيوته وعمرانه، وتتقصد حرمانه الحياة، وكل مقومات الحياة، أي الماء والغذاء والكهرباء والوقود والدواء.
أيضا، تميزت تلك الحراكات المتعاطفة مع الفلسطينيين بمشاركة من أوساط وشخصيات يهودية فاعلة، هذه المرة، وتلك هي مفاجأتها الثانية الأكثر أهمية، سيما أن تلك الأوساط رفعت شعارات أساسية ثلاثة، غير مسبوقة، في تاريخ العلاقة بين الجماعات اليهودية في العالم ودولة إسرائيل، التي تأسست بدعوى أنها “أرض الميعاد”، وأنها المكان الأكثر أمانا لليهود، فإذا بها تغدو عكس ذلك، بل وتصبح بمثابة عبء سياسي وأخلاقي وأمني ومالي على يهود العالم، وعلى البلدان التي يعيشون فيها، عدا عن خلقها مشكلة انتماء للوطن الأم أو إسرائيل، وإثارة الشبهات حول ولاء اليهودي: لإسرائيل أم إلى بلده؟
أما الشعارات التي رفعت فقد تمحورت، أولا، حول أنه لا يحق لإسرائيل احتكار تمثيل اليهود في العالم، وبذلك فهي ليست دولة يهود العالم، وإنما دولة لليهود فيها أو لمواطنيها. وثانيا أنه لا يحق لإسرائيل احتكار تمثيل ضحايا المحرقة (“الهولوكوست”)، وتبرير سياساتها ضد الفلسطينيين بها، لأن ذلك يضر بالضحايا، وصورة إسرائيل التي تتماهى مع جلادي اليهود، ومع مرتكبي الإبادة بحق اليهود، إبان الحرب العالمية الثانية. وثالثا أن العداء للسياسات التي تنتهجها إسرائيل أمر مشروع وهو يختلف عن العداء للسامية، ولا يوجد أي سبب للربط بين الاثنين، أي إن سياسات إسرائيل هي سبب صعود العداء لليهود، وليس العكس.
هكذا انكشفت إسرائيل، في الرأي العام الغربي، وفي أوساط يهودية، بأنها كفكرة انبنت على ادعاءات مزيفة، ومضللة، وعند المؤرخ والأكاديمي المعروف إيلان بابيه، مثلا، فإن “معظم الصهاينة لا يؤمنون بوجود الله، لكنهم يؤمنون بأنه وعدهم بفلسطين”. أما الأكاديمية الكندية-اليهودية نعومي كلاين، فدعت اليهود (في تجمع في بروكلين/نيويورك أواخر أبريل/نيسان الماضي)، إلى “التحرر من صنم الصهيونية الزائف الذي يرتكب الإبادة الجماعية باسمنا… ما أريد قوله الليلة في هذا التجمع التاريخي الثوري هو أن الكثير من الناس يعبدون الصنم الزائف مرة أخرى، إنهم مسحورون به وسكارى ومدنسون به… اسم هذا الصنم الزائف هو الصهيونية… الصنم الزائف الذي سرق القصص التوراتية العميقة عن العدالة والتحرر من العبودية، قصة الفصح نفسها، وحوّلها إلى أسلحة وحشية في عملية السرقة الاستعمارية للأرض، وخرائط طريق نحو التطهير العرقي والإبادة الجماعية… فكرة الصهيونية السياسية عن التحرر هي فكرة دنسة في حد ذاتها، واقتضت منذ البداية تهجيرا جماعيا للفلسطينيين من بيوتهم وأراضي أجدادهم في النكبة… نريد تحرير اليهودية من الدولة الإثنية التي تريد من اليهود البقاء خائفين للأبد. وتريد من أطفالنا الخوف وتريد منا الاعتقاد بأن العالم ضدنا وتريد منا الهرب إلى قلعتها الواقعة تحت القبة الحديدية”.
باختصار، إن الحراكات الشعبية، على أهميتها لصون الليبرالية الديمقراطية، وحقوق المواطنة والحريات، في البلدان الغربية، هي بالأهمية ذاتها لعدالة فلسطين، ولإنصاف الشعب الفلسطيني، ضد سياسات إسرائيل الاستعمارية والعنصرية والعدوانية، وأيضا لإعادة الاعتبار لقيم الليبرالية الديمقراطية في العالم، إزاء تغول الاحتكارات، والشركات الكبرى، المهيمنة، وهي بمثابة هبّة جديدة من أجل تصحيح النظام العالمي، بعيداً عن المعايير المزدوجة، بيد أن الاستثمار في تلك الحراكات يتطلب حيزا من الزمن، كما يتطلب وضعاً عربياً وفلسطينياً مناسباً، ربما هو غير متوفر الآن بالدرجة المناسبة.
* كاتب وباحث فلسطيني
المصدر: موقع المجلة