الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

أطراف الحرب ثلاثة ولا أحد يعمل لوقفها

عبدالوهاب بدرخان *

في الأسبوع الماضي، الثالث والثلاثين للحرب على غزّة، تدافعت أحداث عدّة لتؤكّد أن المزيد من التقتيل والتدمير لن يصنع لإسرائيل “نصراً” مبيناً، وأنه لا يزال أمامها الكثير لتخسره سياسياً إذا أرادت مواصلة الحرب، بعدما أصبحت مُطاردة من جانب محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية. أما حركة “حماس” وسائر الفصائل فإذا كانت ترى “نصراً” في مجرّد وجودها واستمرار سيطرتها على قطاع غزّة المدمّر وشعبه المنكوب، فماذا يمكن أن تكون الهزيمة في نظرها. كلا طرفي الحرب يجد نفسه كاسباً موقتاً من إطالتها: إسرائيل لا تزال متمسكة بالهدفين المتلازمين، “القضاء على حماس” و”تحرير المختطفين”، علماً بأن تحقيق الأول يعني فشل الآخر. أما “حماس” فتضغط بالرهائن وبعمليات تصعيدية نوعية لفرض مطالبتها بوقف الحرب وانسحاب الإسرائيليين من القطاع، وعندئذ يمكن أن تفرج تدريجاً عن الرهائن بعد أن تكون قد أمّنت عدم تصفية قيادتها العسكرية.

الفارق بين قادة الحرب في غزة، أن الإسرائيليين ذاهبون بعد انتهائها إلى التحقيق والمحاسبة الداخلية، أما نظراؤهم من “حماس” و”الجهاد” و”حزب إيران/ حزب الله” فلا أحد يفكّر في التحقيق معهم أو محاسبتهم. في إسرائيل حُدّد مسار المحاسبة منذ اللحظة الأولى كواجب قانوني و”وطني”، فيما اعتُبر مجرد التلويح بها في الجانب الآخر بمثابة “خيانة” لتضحيات من قاموا بواجبهم “الجهادي”.

بديهي أن أسباب المحاسبة المطلوبة تختلف بين الجانبين، إذ تركّز عند إسرائيل على الإخفاق في توقّع هجوم “طوفان الأقصى” وليس على جرائم الحرب التي لوّثت “أخلاقية” جيشها، ولا على تداعيات الحرب لأنها موقنة بأن لا خيار للولايات المتحدة والدول الغربية سوى تعويض خسائرها وحمايتها من المساءلة الدولية. وهي تركّز عند الآخرين في “محور الممانعة” الإيراني على عدم تقدير مسبق لما يمكن أن تؤدّي إليه هجماتهم من خسائر بشرية وأضرار جسيمة غير قابلة للإصلاح ولا يمكن لإيران أو لميليشياتها أن تعوّضها حتى لو بلغت حدّ “الإبادة الجماعية” كما هو حاصل فعلاً في قطاع غزّة.

دخلت الحرب في عمق مأزق لا مخرج منه. بات المنطق يفترض ضرورة وقفها، لكن إدارتها الثلاثية، الأميركية- الإسرائيلية- الإيرانية، لم تتوصّل إلى صيغة لـ”وقف إطلاق نار مستدام”، لا بالتشاور والتنسيق المباشرين بين واشنطن وإسرائيل، ولا بالتفاوض غير المباشر بين واشنطن وطهران. فالإدارة الأميركية دأبت على الإيحاء بأنها مهمومة بـ”الشأن الإنساني” ولم تستطع ولا في أي مرحلة إقناع حكومة إسرائيل بضرورة التخلّي عن “سياسة التجويع” التي تبنّتها وطبّقتها بالحصار الشامل، فيما واصل الجسر الجوي الأميركي إمداد الإسرائيليين بالأسلحة الفتاكة التي تشحذ لديهم غرائز الانتقام الوحشي اللامتناهي، ما عنى أن واشنطن كانت ولا تزال تدعم المضي في الحرب إلى أن تحقق إسرائيل أهدافها، حتى لو قاد ذلك الحرب إلى الطريق المسدود الذي بلغته.

كذلك أوحت الإدارة الأميركية بأنها منشغلة بعدم توسيع رقعة الحرب، لكنها لم تستطع في أي مرحلة حلّ أي قضية عالقة بينها وبين النظام الإيراني أو تلبية مطالب محدّدة لطهران لإقناعها بالإيعاز لميليشياتها بوقف “حرب المشاغلة” التي أطلقتها “مساندةً” لفصائل غزّة، لا لأهلها. على العكس، سارعت واشنطن باكراً إلى طرح ما سمّته “صفقة كبرى” لإعادة تشكيل الشرق الأوسط، وتركّز فيها على تطبيع للعلاقات بين السعودية وإسرائيل وإلى صيغة ملتبسة لـ”قوة عربية” أو “عربية- دولية” تتسلّم قطاع غزّة أمنياً ومدنياً بتنسيق “حتمي” مع إسرائيل من دون إلزامها بإنهاء الاحتلال.

وعلى رغم أن هذا المشروع يخضع لتنقيح باستمرار، إلا أنه الوصفة الدقيقة لإقناع إيران بمواصلة دعم الحرب بل بتصعيدها. ألم يكن ضرب “التطبيع” أحد أهداف “طوفان الأقصى”؟.. هذا يعزز أيضاً الاعتقاد بأن واشنطن لم تعمل أبداً على وقف الحرب بل على إدارتها لتحقيق الأهداف المشتركة مع إسرائيل.

المسألة أن الأطراف الحقيقيين الثلاثة للحرب وجدوا أرضاً يمارسون عليها صراعاتهم الاستراتيجية ويجرّبون فيها أسلحة الدمار وأكثر تكتيكات السياسة قذارةً، والأهم أنهم وجدوا شعباً يعبثون بحياته ويقتلعونه من موطنه ومن ماضيه ومستقبله. مهما بلغت إرادة الصمود والقدرة عليه هناك استحالة عيش فُرضت على هذا الشعب، ولا تزال تعده بالعذابات بلا أفق زمني محدّد. إذا أُوقفت الحرب اليوم فلن تعود الحياة إلى طبيعتها قبل زمن طويل، ولن تعود البيوت إلى من فقدوها، ولا المدارس والجامعات ومراكز العمل، بل لن تنتفي الحاجة إلى سكنى الخيام بلا مرافق صحية وخدمات. الكلام عن 150 ألف إنسان قتلوا أو فُقدوا أو أصيبوا يجب ألا يحجب وجود مئات آلاف باتوا ضحايا الأمراض نتيجة سوء التغذية والتعرّض للأوبئة وانعدام فرص العلاج والوقاية.

هذه الأعراض لا يمكن أن تواجه فقط بـ”تكثيف” كميات المساعدات الأساسية لإبعاد شبح المجاعة، بل تتطلب حملة إنسانية واسعة، وهي ممكنة بفضل استعدادات دولية كبيرة، لكنها مستحيلة ما دامت إسرائيل (والولايات المتحدة) تمنع “الأونروا” ومنظمات أخرى من العمل وتتحكّم بكل شيء لإدامة وضع كارثي تعتقد أنه يمكن أن يضغط على “حماس” وأن يدفعها إلى “الاستسلام”، لكن العمليات التصعيدية الأخيرة ضد قوات الاحتلال في غزّة برهنت أن إيران ليست في صدد التراجع بل الرهان على مرحلة حرب استنزاف في غزّة كما في جنوب لبنان.

أصبحت الحرب أكثر تعقيداً، لأن الطرف المفترض أنه الأضعف فيها يشعر بأنه قادر على فرض الشروط لوقفها، مع أن قرار الدول الأوروبية الثلاث الاعتراف بالدولة الفلسطينية لم يهدف إلى تقوية موقف “حماس” أو إيران، بل إلى تصحيح خطأ تاريخي في حق الشعب الفلسطيني. كذلك لم يتطلّع قرار محكمة العدل الدولية إلى “إنقاذ حماس” بل لمنع المذبحة الكبرى التي تريد إسرائيل إنزالها بأهل رفح. ومن الواضح أن المحكمة الجنائية الدولية لم توجّه اتهامات واحتمال إصدار مذكرات اعتقال لقادة إسرائيليين و”حمساويين” لتزكية أي طرف.

لكن مواقف إسرائيل إزاء هذه المعطيات الدولية أكدت المؤكّد، وهو أنها لم تكن يوماً دولة “أخلاقية”، لذا فهي تواصل الغرق في عزلة دولية مقدار غرقها في حرب قذرة لا تستطيع الخروج منها. أما واشنطن فتماهت مع العزلة الإسرائيلية، وقد ساهمت مواقفها في كشف حقيقة “أخلاقيتها”، إذ أبدت ازدراءً لدول أوروبية غربية يُفترض أنها حليفة لها، فضلاً عن احتقارها لمؤسسات أممية معنية بالعدالة الدولية. ألم يكشف كريم خان أن مسؤولاً بارزاً (أميركياً، طبعاً) قال له إن المحكمة الجنائية أقيمت لحكام أفريقيا ولـ”بلطجية” مثل الرئيس الروسي؟ 

* كاتب صحفي وباحث لبناني

المصدر: النهار العربي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.