الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

تطورات الصورة النمطية عن أكراد سورية بعد الثورة

مهند الكاطع *

ما حقيقةُ عداءِ شعوب المنطقة التاريخي “المزعوم” للأكراد؟

ما حقيقةُ وصفِ شعوب المنطقة ومنهم العرب بالمحتلين لكردستان؟

ما السياقات التاريخية لعلاقة شعوب المنطقة وخاصة العرب بالأكراد؟ وكيف تطورت؟

ما أشكال الصورة النمطية لدى العرب عن الأكراد؟ وكيف تطورت خلال القرن الفائت؟

ما دور بعض الجماعات القومية الكردية بتشكيل صورة نمطية مشوّهة عن الأكراد؟

ما الأخطاء التي يقع فيها الكثير من العرب في تشكيل صورة نمطية سلبية عن الأكراد؟

تساؤلات عديدة سأحاول الإجابة عنها بإيجاز رغم أهميتها في هذه المادة التي أرى من الضروري الاطلاع عليها لكل مهتم بالشأن السوري العام.

أولاً: ما حقيقة عداء شعوب المنطقة التاريخي “المزعوم” للأكراد؟

دعوني قبل كلِّ شيءٍ أن أنوه مجدداً إلى أنني أحاول من خلال هذه المادة التوقف عند مراحل التغيير في الصورة النمطية عن أكراد سورية، ولا يتعلق الأمر بعموم الأكراد، إلا ما يقتضيه السياق التاريخي ضمن المادة من تبيان.

 تحاول الكثير من الأصوات الكردية في الآونة الأخيرة، وخاصة تلك المحسوبة على تيارات الأحزاب والخطاب القومي، إشاعةَ خطابٍ يزعم أن هناك “ظاهرة” عداء تاريخي أزلي متأصل لدى شعوب المنطقة وخاصة العرب اتجاه الأكراد، وأن العلاقة بين الكرد وشعوب المنطقة هي علاقة الشعوب الأصلية المغلوب على أمرها بالمحتل، فالعرب والأتراك والفرس ما هم إلا بقايا شعوب همجية احتلت أرض كردستان التاريخية التي أقام عليها الأكراد حضاراتهم، وقد ورث الكُردُ الحاليون هذه الأرضَ من عهد سيدنا نوح الذي استوت سفينته على الجودي، مروراً بالسومريين الذين يتم نسبهم إلى أسلاف الكرد، ناهيك عن الميتانيين والحثيين والحوريين والميديين والكاشيين والساسانيين، كلها تأتي ضمن ديباجة أسلاف الكرد التاريخيين، وقد بالغ بعضهم إلى أن ينسب حضارات وإمبراطوريات وادي ما بين النهرين قاطبةً إلى الكرد، بما في ذلك الأكادية والبابلية والآشورية.. إلخ.

هذا الخطابُ هو خطابٌ سطحي بطبيعة الحال، بحيث لا يُفسِّر شيئاً البتة سوى أن هؤلاء القوميين الكرد يحاولون فقط  زيادة وتيرة الخطاب والحشد الشعبي القومي المبني على أساس “العنصر”، ولا بد من زيادة النعرة القوميّة عبر إيجاد أعداء افتراضيين من الأغيار (غير الكرد)، ولابد هنا من تعميق تراجيدية المظلوميّة الكرديّة منذ فجر التاريخ، وأنَّ سبب عدم قيام دولة كرديّة منذ فجر التاريخ هو تآمر الأغيار عليهم واضطهادهم لهم، ولا يوجد أكثر من الأمثلة والنماذج التي تقدمها السلطات الديكتاتورية في البلدان التي يقطنها الأكراد لتأكيد خطاب المظلومية؛ وجعلها تبدو كما لو كانت مقتصرة على الأكراد دون غيرهم كنوع من مزاج العداء التاريخي والعام ضدَّ الأكراد، فتعميمُ ممارسات السلطة على الشعب، وجعلُه كلَّه مداناً ومشاركاً في هذه التراجيديا القومية؛ تساهم في حشد النعرة القومية! وهكذا يظهر خطابٌ معادٍ للعنصر التركي أو العربي؛ بوصفهما عناصر عرقية تحمل في جيناتها عداءً للأكراد، ولا يمكن للأكراد أن يحصلوا على حقوقهم دون القضاء على هؤلاء الأعداء الغرباء!!

سياقات علاقة الأكراد التاريخية بشعوب المنطقة، والصورة النمطية التاريخية عن الأكراد:

من نافل القول أن مزاعم العداء التاريخي للأكراد من قبل شعوب المنطقة هي مزاعم لا أساس واهية لا أساس لها من الصحة، وإذا كان كره الأكراد “ظاهرة” متأصلة لدى شعوب المنطقة اتجاه الأكراد، كما يزعم الخطاب الديماغوجي القومي اليوم الذي يردده المثقفون الكرد قبل العوام، لعبَّرت هذه الشعوبُ عن تلك الكراهيةِ بشكل فعلي ومطلق بغض النظر عن الزمان والمكان!

أقدمُ المصادر التي تناولت ذكر الأكراد لأول مرة وبشكل صريح هي المصادرُ العربية الإسلامية، وجميع تلك المصادر كانت تتناول الأكراد بوصفهم إحدى شعوب الخلافة، وكانتِ الشخصيّة الكرديّة تظهر كشخصيّة قوية عنيدة وشجاعة، وهذه هي أحد أبرز عناصر الصورة النمطيّة التي بقيت حاضرة عن الأكراد إلى عهد قريب، لذلك بقي الاعتماد على المقاتلين الأكراد في المهام الصعبة وحماية الثغور والحملات السريعة قائماً حتى عهد السلطان “عبد الحميد الثاني” الذي أسس الفرق الحميدية، كان معظم مقاتليها من العشائر الكرديّة، بالمقابل لم تخلُ بالطبع هذه المصادر من سرديات خيالية وأسطورية نقلها بعض الكتاب من أمثال “المسعودي” عن الفرس التي تتحدث عن نشأة الكرد من الجن، وغير ذلك من الخرافات التي لم يكن المقصود بها الأكراد وحدهم، بل هي مسألة تعتمد على ولع بعضٍ من الكتاب القدامى بذكر مسائلَ غريبةٍ ووحشية، ونقلِها غالباً من مصادر هندية وفارسية، كما لم تخلُ الكتب من الإشارات السلبيَّة المرتبطة بنزعة الأكراد إلى التمرُّد والعصيان وقطع السابلة والتحصُّن بالجبال العالية؛ هرباً من نقمة جنود الخليفة، لكنَّ مجمل الحوادث التاريخيّة التي تناولت الأكراد في المصادر الإسلاميّة لم تذكر أيَّ حوادث تشير إلى عداء أو صراع بين الأكراد وسواهم من شعوب الخلافة على أسس عرقيّة، بل نلتمس فقط نماذج لتعايش بين شعوب الخلافة الإسلامية بلغ ذروته في العصر العباسي، ولم يقتصر هذا التعايش على المسلمين من مختلف القوميات بل وعلى مختلف الأديان.

ومن نافل القول أنَّ التصنيفات القومية لم يكن لها أثرٌ يُحتفى به في تاريخ الإمبراطوريات الإسلاميّة بما في ذلك الحقبة العثمانيّة، وهذا ما يفسر مثلاً لعب الأكراد أدواراً مختلفة دون أي مظاهر تحفُظ أو “عدائية” كما يصور الخطاب القومي الكردي الحديث، إذ كيف نجمع بين مقولة العداء الميتافيزيقي المتخيّل للأكراد وبين وصول شخصية مثل “صلاح الدين الأيوبي” الذي ينحدر من أرومة كرديّة إلى قمة هرم واحدة من أكبر الدول الإسلامية التي حملت لقبه (الأيوبية)، ولا يزال يُحتفى به كرمز من رموز التاريخ المشرف لدى جميع الشعوب الإسلامية بوصفه مُحرر القدس؟

اتركوا عنكم التاريخ القديم وانظروا إلى تاريخ سورية الحديث، ولاحظوا كيف لعب السوريون المنحدرون من أصول كردية أدواراً مختلفة في الحياة السياسية والثقافية السوريّة منذ تأسيسها الحديث، ألم يكن إبراهيم هنانو من أصول كرديّة هو أحد قادة الجيش العربي ورافع لوائه في المقاطعات الشمالية؟ وإلى الآن لا يزال “هنانو” يشكل أيقونة وطنية لم يخفت بريقها، ولن يخفت، ألم يعترفِ السوريون بسلطة “حسني الزعيم” الذي ينحدر من أصول كردية رغم أنه وصل عبر انقلاب عسكري؟ هل سمع منكم أحدٌ أن معارضيه الذين انقلبوا عليه اعترضوا وتحفظوا على أصوله الكردية! كذلك “فوزي سلو” الذي وصل إلى الحكم أيضاً بانقلاب عسكري لم يطعن أحدٌ بأصوله الكردية، ويتمرد عليه، أيضاً العلامة الشهير “محمد كرد علي” الذي أسس المجمع العلمي للغة العربية لم يطعن به إلا بعضُ القوميين الكرد حديثاً؛ حين أرادوه أن يكون كردياً متعصباً لقوميّته على طراز الأحزاب القومية التي كان أول ظهور لها بعد وفاة “كرد علي” نفسه، وقالوا عنه أنه أشد عنصرية من الملازم أول “محمد طلب هلال” ضابط الأمن الذي اقترح تهجير الأكراد من الحدود، ودمجهم بباقي المناطق السورية، ونسُوا أنَّ محمد كرد علي الذي لم ينكر أصوله الكرديَّة، كان أحدَ أكثر المعتدين بهويته وانتمائه العربي بحكم التشكيل الحضاري الذي انتمى له وجدانياً منذ عصر جده، مثله في ذلك مثل إبراهيم هنانو والشاعر أحمد شوقي وغيرِهم الكثير الذين لا يستطيعون أن ينسلخوا عن هويتهم “العربية” التي نشؤوا عليها لصالح انتمائهم العرقي فقط !

ثانياً: تطور الصورة النمطية لدى العرب عن الأكراد في عصر نشوء القوميات

لم تشكل ألقاب مثل: (الكُردي، الأكراد، كُرد) في الفضاء العربي شيئاً غريباً غير مألوف، فقد عرفت معظمُ أرجاء بلاد العرب الأكرادَ منذ بداية العصر العبَّاسي على أقل تقدير، ربما ارتبط المصطلح أكثر في عنصر البداوة والحرب، لكن الأكراد بهذا الشكل أو ذاك انتشروا في معظم أرجاء البلدان العربية، من سورية إلى الأردن ثم فلسطين و مصر والعراق حتى السودان، خاصة في إطار الحملات العسكرية التي كانوا يخرجون فيها كجنود في جيش الخلافة، كما لم يشكّلِ الأكرادُ في هذه البلدات والمدن التي استوطنوها جماعاتٍ منغلقةً على نفسها أو عناصر وظيفية اضطلعت بمهن محددة، بل على العكس تماماً اندمج الأكراد سريعاً في المجتمعات التي انتشروا فيها، وباتوا جزءاً لا يتجزأ من هوية تلك المجتمعات وتكوينها الاجتماعي وتاريخها وثقافتها، ولا يربطها ربما بأصولها العرقية البعيدة إلا اللقب الذي احتفظت به بعض عائلاتها!

حتى مع ظهور موجة القوميات في نهاية الحقبة العثمانية، لم يكن هناك ما يعكر صفوَ علاقات الأكراد بجيرانهم، ما خلا الحوادث التي جرت بينهم وبين الأرمن أواخر العهد العثماني لأسباب دينية وسياسية وغالباً وفق أجندة صراع عثماني روسي، أو بعض الحوادث بين عشائر كردية وأخرى عربية في إطار الصراع على المراعي، لكن الحوادث التي كان أثرها في الذاكرة القومية الكردية هي تلك التي جرت بين الأكراد و الأتراك في أوائل القرن العشرين في عصر كمال أتاتورك الذي قاد حرب تحرر وطنية ضد الإنجليز والفرنسيين، ومن سوء حظ الأكراد على ما يبدو أنهم كانوا الخاسر الأكبر من تركة الأراضي العثمانية في اتفاقية “سيفر” 1920، التي نصت على مشروع كردستان، وحددت حدودها بدقة (ضمن حدود تركيا الحالية)، لكن الفرنسيين والإنجليز أُجبروا على توقيع اتفاقية لوزان مع تركيا؛ لتتخلى عن مشروع كردستان، بل وقضم مزيد من أراضي سورية لصالح أتاتورك الأمر الذي تسبب في استمرار الصدامات بين الكرد والأتراك على هذا النحو.

الأكراد في المحيط العربي (سوريا) وأولى التحذيرات!

يبدو أن الرعيل الأول من القوميين الذين ظهروا في أواخر القرن التاسع عشر من القوميات غيرِ التركية، كانوا يتعاطفون مع بعضهم بعضاً في مواجهة خطاب جمعية الاتحاد والترقي (تركيا الفتاة) ودعوات التتريك فيها؛ لذلك كانت الصحف والجرائد العربية تزخر بنقل أخبار الثورات الكردية بحماس، وربما هذا أيضاً يفسر لجوء الكثير من الناشطين الكرد إلى القاهرة..

حيث أسّسوا أول صحيفة كردية هناك قبل سقوط الدولة العثمانيّة، ويفسر كذلك التعاون الكردي الأرمني العسكري ضدّ الأتراك، الذي تَمثلَ بتحالف “جمعية خويبون” التي أسسها القوميون الكرد الذي لجؤوا إلى سورية مع حزب “الطاشناق” الأرمني وبدعم فرنسي، و مع خيبة العرب من السياسات الإنجليزية والفرنسية اللتين قررتا احتلال وتقسيم الإمبراطورية العربية التي وعِد بها “حسين بن علي” إلى عدة دويلات وكيانات بينهما، وظهور السياسات الإثنية لكل من فرنسا وإنجلترا في العراق وسورية وفلسطين، مثل تأسيس “وحدات الليفي” في العراق من العناصر الآشورية، وجيش المشرق في سورية من الأقليات والأفارقة، ثم سياسات “الكثلكة” وتشجيع هجرة العناصر المسيحية الأرمنية والآشورية والكردية وكذلك اليهودية من تركيا إلى سورية، ومنح الأراضي الخصبة على منابع الأنهار في منطقة الجزيرة للمهاجرين الجدد، وغير ذلك من السياسات التي ساهمت في تصاعد الأصوات الناقمة على السياسات الفرنسية والمحذرة منها، والمثال الأوضح هو ما جاء في رسالة “محمد كرد علي” وزير المعارف سنة 1931  إلى رئيس الجمهورية السورية، الذي حذر فيها من سياسات منح الأراضي الحدودية في الجزيرة للاجئين وخاصة الأكراد، وخطر ذلك نتيجة قربها من حدود كردستان؛ الأمر الذي قد يهدد مستقبل الجزيرة بمحاولة اقتطاع جزء منها أو كلها وضمها لكردستان مستقبلاً، خاصة وأن تلك الفترة كانت تشكل ذروة النضال الكردي ضدّ الأتراك؛ لأنهم هم منعوهم من الحصول على أرض قومية كردية وفق الحدود التي ذكرتها بنود سيفر .

وعلى الرغم من ذلك وعلى المستوى الشعبي لم يكن هناك أيُّ بوادر سلبيّة اتجاه الأكراد، بل كانت العلاقات العشائريّة والمصاهرات بين القبائل الكرديّة والعربيّة قائمة في وقت مبكر منذ العهد العثماني، يعززها تداخلات موسمية في الربيع والصيف أثناء الرعي المشترك بين العرب والأكراد في سهول الجزيرة العليا تعود إلى القرن الثامن عشر، نتج عنه اندماجٌ شبه كامل للعشائر الكردية بعادات وتقاليد العشائر العربية في نمط العيش واللباس والعادات والتأثيرات اللغوية وغير ذلك.

تبدلات الموقف اتجاه الأكراد وتغير الصورة النمطية:

مع تصاعد المد القوميّ لدى العرب ولدى الأكراد أيضاً، ومع دخول قوى إقليمية عبر المدّ الشيوعي على الخط، وانتشار الوعي بالذات القوميّة، وأحداث دعم السوفييت لتأسيس جمهورية كرديّة في “مهاباد”، ثم تصاعد نشاط الحركة الكرديّة في العراق بقيادة الملا “مصطفى البرزاني” وتأثيراتها على أكراد الأطراف العشائريين في سوريّة؛ الذين كانوا قد تأثروا أيضاً بوعي قومي جديد عبر موجات المهاجرين من تركيا، ومن ضمنهم الرعيل الأول للحركة القومية الكردية التي نشطت في ظل الحماية الفرنسية، كل تلك الظروف ساهمت في تبلور وعي قومي كردي في سورية لدى أكراد المناطق الحدودية بشكل خاص بذاتهم القومية، ولم تكنِ الحكومات في كل من سوريا والعراق مستعدة للتعامل مع هذه التطورات وبناء خطط لاستيعاب هذا الخطاب، على الرغم من محاولات عبد الناصر لاحتوائها ومحاولة الاستفادة منها خاصة إبان ظهور حلف بغداد، ودوره في إعادة البرزاني من منفاه إلى العراق، لكن سُرعان ما تفاقمت الأمور في العراق؛ ليبدأ صراع عسكري بين الحكومة والأكراد؛ الأمر الذي ترك أثراً قومياً ظل يتنامى لدى أكراد سوريا بالمقابل، وهو ما  يفسر أيضاً ارتباط جميع الأحزاب الكردية في سورية حتى يومنا هذا بمرجعيات كردية خارج سورية تتمثل في (البرزاني، الطالباني، أوجلان).

بات أكراد الحدود مصدر قلق للسلطات السورية التي باتت تشدد قبضتها على الحدود منذ الستينات، وتُعيد العابرين بطريقة غير شرعية قدر استطاعتها إلى شمال الحدود، وفتحت في عهد أديب الشيشكلي ملف الفساد الإداري المتعلق بتزوير الهويات الممنوحة للأكراد، وما تلاها من إجراء إحصاء استثنائي في سورية بعد الزيادة غيرِ العادية في عدد السكان نتيجة عبور الحدود، الأمر الذي خلق لاحقاً مسألة الأكراد الأجانب واعتبار نحو 25 ألف كردي حينها غير سوريين، وتم تقييدهم في سجلات الأجانب. ورغم ذلك لم تتبدل الصورة النمطية لدى العرب عن جيرانهم الكرد كثيراً إلا في إطار محدود جداً.

مرحلة البعث وصعود الأسد للسلطة:

مثل عهد الانفصال بين سورية ومصر وما أعقبَ ذلك من استلام حزب البعث للسلطة نقطة تحوّل جديدة في علاقة السلطة مع الأكراد، فقد بدأت مرحلة تركيز أكبر على المخاوف الأمنية المتعلقة بالأكراد في المناطق الحدودية، خاصة مع اندلاع المواجهات بين أكراد العراق والجيش العراقي، يظهر ذلك جلياً في تقرير الملازم الأول “محمد طلب الهلال” الذي قدم دراسة عن الجزيرة، وقدم جملة من المقترحات لمجابهة الخطر الكردي المتنامي من وجهة نظره، ورغم أن مقترحاته لم تلقَ حينها آذاناً صاغية، ولم يتم تنفيذها، إلا أنها كانت مؤشراً على بدء أزمة عدم ثقة اتجاه الأكراد.

شكلت مرحلة استلام حافظ أسد السلطة، وسياسته الأمنية القائمة على ضرب الأسافين بين السوريين مرحلة جديدة لا يزال الشعب السوري يدفع ثمنها، فقد تنامت في عهده فكرة “الكردي الانفصالي” على المستوى الأمني والرسمي بشكل خاص، بالرغم من أن حافظ الأسد نفسَه دفع باتجاه تنامي هذه الصورة عبر سياساته الداعمة لنشاط الأحزاب والقوى الكردية، وخاصة العراقية والتركية على الأراضي السورية..

كما لا ننسى أنه تشكلت بالمقابل صورة العربي الصِدامي اليميني في الجزيرة والفرات “المشكوك بولائه”، وظهرت أيضاً صورة المسيحي الكتائبي، وثنائية الجبل والسهل في حوران، والريف والمدينة في دير الزور ودمشق وحلب، وغيرها من الصور النمطية المستحدثة التي شكلت أوتاراً لعب بها و عليها النظام. لكن على المستوى الشعبي لم تتأثر صورة الأكراد بشكل سلبي كما أراد النظام نتيجة تجذر وتداخل العلاقات الاجتماعية والأعراف العشائرية التي نظمت العلاقات في مناطق تعايش العرب والأكراد، ما خلا حساسيات بدأت تظهر في أوساط الطلبة منذ أواسط الثمانينات مع تزايد النشاط السياسي الكردي ودخول عناصر كردية أجنبية بدعم من النظام مثل مقاتلي حزب العمال الكردستاني، الذي مُنِح هامشاً كبيراً من السلطة والحرية في تجنيد الشباب الأكراد وإرسالهم إلى تركيا لمقاتلة الأتراك، وبذلك ضربَ الأسد عصفورين بحجر، فمن جهة استخدم الأكراد ورقةَ ضغط اتجاه الأتراك، ومن جهة حاول توجيه المشاعر القومية الكردية ونضالهم اتجاه تركيا مجدداً، كذلك شهدت مرحلة حافظ أسد استقطاب الأطراف الكردية الأخرى (البرزانية والطالبانية)، وفتح الباب أمامها لممارسة نشاطها السياسي من سورية، وازدادت على المستوى الشعبي مظاهر التمايز القومي الذي بدأ الأكراد بالتعبير عنها سواء عبر ألوان العلم الكردي وأعياد النوروز وحمل إشارات وأعلام وخرائط تدل على نضالهم من أجل كردستان، وغير ذلك من المظاهر التي بدأ الشارع العربي يتعامل معها بقلق بوصفها مظاهر لم تكن موجودة  ولا قائمة، ولم تعرفها المنطقة ذات الطابع العشائري، ثم شكلت مرحلة أواسط التسعينات نقطة في تطور سقف المطالب الكرديّة، وكانت أحداث سنة 2004 التي بدأت كأعمال شغب وصِدام بين مشجعي فريقي كرة قدم تخللها شعاراتٌ قومية وعنصرية من الطرفين تشير إلى ظهور مرحلة جديدة من العلاقات اتسمت لأول مرة على المستوى الشعبي العام الذي طال الريف أيضاً بالسلبية..

وتخلل الأحداث رفع شعارات عنصريّة ضدَّ العرب والسريان (لا عرب ولا سريان هذه دولة كردستان) ورفع شعارات مشيدة بـ”بوش” والمطالبة بدخول القوات الأمريكية المتمركزة بالعراق لتحقيق واقع سياسي للأكراد شبيه بأكراد العراق، قابله كذلك خلال الأيام التالية هجوم مجموعة من العرب مدفوعين من أجهزة النظام على مراكز الأكراد التجارية ونهبها وتحطيمها، وغير ذلك من الحوادث التي تركت أثرها السلبي في الشارع، وعززت الصورة السلبية عن الأكراد التي عمل عليها النظام في الخفاء بوصفهم عنصراً انفصالياً وخنجراً في خاصرة سورية، كما يحلو لبعضهم أن يتخيل، بل ويصرح أيضاً، كما وفرت ردود الأفعال العربية أيضاً فرصة لتعزيز خطاب التراجيديا لدى القوميين الأكراد، ووصف ما حدث أنه استهداف للأكراد واستمرار في اضطهادهم من قبل العرب.

ثالثاً: دور الخطاب القومي الكردي في تعزيز صورة “الكردي الانفصالي”

ساهم الخطاب القومي الكردي ضمن أدبيات الأحزاب والقوى الكردية، أو خارجها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، في تعزيز صورة نمطية عن “الكردي الانفصالي”.

وقد شكلت مرحلة ما بعد انطلاقة الثورة السورية بُعداً جديداً في هذا الخطاب، فقد بدأتِ الأحزاب والقوى الكردية بسياسة ما أسميه (الكردستنة)، فاستبدلت كثير من الأحزاب الكردية أسماءها الرسمية، لتتحول من (كردية إلى كردستانية)، وبدأ الحديث عن كردستان سورية، وبدأ تداول مصطلح “مناطق كردية”، حتى أن السيد عبد الباسط سيدا الذي أصبح يوماً رئيساً للمجلس الوطني السوري في بداية الثورة، قد ذكر فصلاً في كتابة عن أكراد سوريا، عنوان الفصل: “مناطق كردية في سورية أم كردستان سورية؟”، ليصل في نهاية المطاف في هذا الفصل بأن المناطق التي يقطنها الأكراد في سورية هي كردستان سورية، وهي جزء من كردستان الكبرى!

بل وبالغتِ الأحزاب الكردية في طموحاتها، وتخيلاتها وآمالها لاستغلال الثورة السورية، وبدؤوا بتفسير (حقوق الأكراد) على أنها حقوقٌ قوميةٌ لشعب سُلبت أرضُه وتم ضمُّها إلى سورية، وبالتالي أصبح الحديث عن “قضية كردية في سورية” قضية أرض وشعب، ورسمت جميع الأحزاب الكردية بمختلف مرجعياتها خرائط لكردستان الكبرى التي تضم “كردستان سورية”، بل وصل الأمر لدى المجلس الوطني الكردي أن يقيم ورشات عمل لما أسماه (دستور كردستان سوريا)، ناهيك عن قيامه بتنظيم جماعات قتالية تابعة له تتلقى تدريباتها في إقليم كردستان العراق تحت رعاية البيشمركة، وتم تسميتها بـ (بيشمركة روجافا)، شاركت في العمليات القتالية التي قامت بها البيشمركة في شمال العراق، وكذلك عمليات تجريف قرى عربية وطرد سكانها في عام 2014.

ناهيكم طبعاً عن الميليشيات التابعة لحزب العمال الكردستاني التي قام النظام بالتحالف معها بداية الثورة، وسهل لها الانتقال من جبال قنديل إلى الجزيرة، وقام بإعادة منحها السلطة والنفوذ وتسليمها المنطقة، والتي قامت بدورها بتجنيد أهالي المنطقة بقوة السلام وبالإغراء المادي، وشاركت النظام بمعظم عملياته العسكرية في شمال شرق سورية وفي ريف حلب، ضدّ قوات المعارضة، وبدأت هذه الميليشيات بفرض أمر واقع جديد على السكان، وأعلنت عن إدارة ذاتية للمنطقة، ومشروع “روجافا”، وفرضت مناهج تعليمية تروج لحزب العمال الكردستاني، وبدأت تنشر إيديولوجية جديدة (أوجلانية) يدَّعي القائمون عليها بأنها رؤية عبد الله أوجلان لحل القضية الكردية، وسيطرت أمنياً وعسكرياً واقتصادياً تحت شعار محاربة الإرهاب على نحو ثلث سورية الغني بالثروات الباطنية والمياه والمحاصيل الإستراتيجية، وقامت بعمليات عسكرية استهدفت عشرات القرى والبلدات العربية وارتكبت عشرات المجازر، وساهمت في تهجير عشرات الآلاف منهم، ومن ضمنهم ناحية الشيوخ التابعة لمنطقة عين العرب، وسكان هذه الناحية كلُّهم تم تهجيرهم، ويمنع عليهم حتى دفن موتاهم في أراضيهم حتى يومنا هذا.

الخطاب الديماغوجي السطحي.. رابطة المثقفين الكورد أنموذجاً:

 ظهرت خلال العشر سنوات الماضية، موجة جديدة عنوانها نبش التاريخ القديم، ثم محاولة إلصاق واقع أكراد اليوم بأثر رجعي بتاريخ الحضارات الموغلة بالقدم في المنطقة، مع حملات “شعوبية” تنال من العرب، وتصفهم بالغزاة والمحتلين لأرض كردستان التاريخية.

دعوني بعجالة هنا أضرب على سبيل المثال صفحة ناشطة على الفيس بوك تحمل اسم (رابطة المثقفين الكورد) لها عشرات الآلاف من المتابعين، وتحظى منشوراتها بانتشار واسع وسط العوام، أقول العوام لأنني هنا لا يمكن أن أتخيل أن شخصاً متعلماً ومثقفاً يمكن أن ينحدر إلى هذا المستوى من السطحية، على الرغم أن بعضاً من حملة الشهادات لا يخلو حديثهم من خطاب أكثر عنصرية وعدائية، لكن بأسلوب أرقى قليلاً، سأذكر نماذج عناوين ومحتوى منشورات لهذه الرابطة التي تلقى رواجاً وتفاعلاً وأترك لكم التخيل والتحليل والتفسير لصالح من يتم هذا الخطاب وما الهدف والغاية منه؟

– (كورد امتداد للميتانيين يعيشون على جزيرة “بونتوس” اليونانية): مقطع فيديو مأخوذ من تقرير لجزيرة يونانية فيها جالية كردية قديمة، يتم البناء على هذا عنوان تاريخي بهذا الحجم ويتم الترويج له.

– (الشعب السوري كلو أصلو كوردي) فيديو لشخص اسمه “علاء محمد قباني” يتحدث ببساطة عن انتشار ووجود لعائلات كردية في أنحاء سورية والأردن والكويت ومصر وبعض الدول العربية. فيتم البناء على هذا الفيديو عنواناً مغلوطاً بهذا الحجم.

– (“لالش” الشنكالية هي أخت “لاكش” السومرية) تقرير عن منطقة سنجار ومعبد “لالش” اليزيدي، ويبنى عليه عنوان بأن الأكراد والسومريين شيء واحد.

– (زيارة إلى قصر الساسانيين الكورد) (مقطع فيديو من مناطق قديمة في  “لورستان” في إيران يحاول المنشور من هذا العنوان نشر مزاعم أن الساسانيين أكراد)

– (الأصل الزاغروسي للأقوام الآرية) مقال مليء بالمغالطات للدكتور “مهدي كاكه يي”،  يتحدث فيه عن كردستان بوصفها مهد الحضارة البشرية، وأن الأقوام الزاغروسية فيها وأقدمهم الأكراد، هي من اكتشفت النار والكتابة والزراعة والصناعة…إ لخ .

– (لوحة جدارية كوردية غنية بالمرمر تعاود لعام 645 ق.م) والحقيقة أن هذه اللوحة مشهورة، وهي من جدار قصر آشور بانيبال مكتشفة في نينوى وموجودة بالمتحف البريطاني ولا علاقة لها بالكرد البتة.

– منشورات ومقاطع فيديو لتصوير أن القرباط مقصود بهم العرب والتركمان.

– (جزيرة كمزار الكردية) وجزيرة كمزار هي جزيرة تقع على باب المندب تابعة لسلطنة عمان، يتحدث أهلها لغة مزيج من العربية والفارسية مع تأثيرات لغات أخرى، يحاول المنشور إضفاء طابع كردي على سكان الجزيرة ولغتهم ويعرض تقريراً إخبارياً عن الجزيرة، وكأنه اكتشاف جديد لأصول كردية في الخليج!

– (أسماء أبرز اسلاف الكورد باللغة الانجليزية) منشور يذكر شعوب قديمة وينسبهم للأكراد مثل: سوبارتو، الكوتيين، المانانائيين، لولوبي، الميديون، الحوريين، الميتانيين، الكاشيين، الحثيين، اورارتو، السومريين، السيرتيين.

– النبي هوريك الكردي: تقرير عن قلعة النبي هوريك وقبر الملك كورش في عفرين، والحديث عن عمرها 4700 سنة، وأن من بناها هم الأكراد!

– صورة تمثال ملكة عيلام الكردية وتعود لعام 1340 قبل الميلاد !

– تل أرفاد ( تل رفعت)  منشور يصفها بأقدم وأعرق المدن الميتانية الكردية!

– (الأصل الكردي للأرمن) منشور يزعم أن  الأرمن أصلهم كرد.

– (الكورد بنو القدس) مادة تتحدث عن أول من بنى القدس هم الأكراد.

– (كردية حلب) حلب المركز الديني لعبادة الإله تيشوب عند أسلاف الكرد الميتانيين!

– (كردية خوزستان) مقال لكاتب كردي يتحدث عن أصل المنطقة لأسلاف الكرد وحداثة الوجود العربي فيها على شكل غزو.

– (كردستان المحتلة من العرب والأتراك) منشور يعرض خارطة جغرافية لعام 1722 تظهر فيه كلمة كردستان، وهي منطقة إدارية في الزمن العثماني، لكن المنشور يحاول إثبات أن كردستان موجودة، وأن العرب والأتراك قبل ذلك غير موجودين وهم محتلون لها بعد ذلك التاريخ!

– (احتلال الآشوريين القدماء لكردستان) منشور يتحدث عن احتلال الآشوريين لكردستان!

برأيي المتواضع، مثل هذه الصفحات الصفراء المجهولة، وكذلك المنشورات التي تحمل الصبغة نفسها،  ليس الغاية منها أبداً هنا محاولة تزييف أو اختلاق تاريخ عبر إنشاء مراكز أبحاث متحيزة لرؤية سابقة وتحاول مثلاً العمل على مشروع من هذا القبيل، فالمستوى العشوائي والركيك لما يتم نشره من مواد من هذا القبيل، يعبر عن محاولة فقط لإذكاء عنصر التفاعل الساخن بين جماهير جاهلة لا تمتلك أدوات المعرفة في الشارع، ونتيجتها كما يظهر من التعليقات على هذه المشاهير حجم هائل من تبادل الشتائم بلغة “سوقية” واتهامات متبادلة، وسخرية منقطعة النظير، إلى حد لا يمكن وصفه من مراحل الانحطاط فيما يحدث. لكن يبدو أن هذه الأساليب تهدف في أحد أبعادها إلى تحفيز الصراع وإظهار الأمور لأي مراقب خارجي كما لو كانت عداء مستفحلاً بين العرب والكرد وغير قابل للعلاج، وتؤثر بهذا الشكل أو ذاك على المزاج العام لمكونات المجتمع السوري أيضاً، وإعطاؤها تصوّراً أن تقسيم سورية هو أحد الحلول الناجعة لمسألة الأقليات الإثنية والدينية والقومية فيها.

رابعاً: أخطاء يقع فيها العرب في تشكيل صورة سلبية عن الأكراد وسبل علاجها

سأختتم هذه المادة بالحديث بإيجاز عن أبرز الأخطاء التي يقع فيها العرب بمثقفيهم وعوامهم في التعامل مع الأكراد أو حتى تشكيل الصورة السلبية عنهم.

1- تتمثل أبرز هذه الأخطاء من وجهة نظري، هي التفاعل مع المنشورات السلبية التي تظهر وفق أجندة وأهداف معينة، أحدها يتمثل بجر العرب إلى التفاعل السلبي معها، بل ويلجأ بعض القائمين على هذا التوجه المشبوه في كثير من الأحيان إلى الدخول بأسماء مستعارة تعكس هوية عربية أو كردية، تتبادل الشتائم والاتهامات بطريقة مقززة، ثم يدخل على خط المواجهات شخصياتٌ حقيقية لا يمتلكون الوعي الكافي فيصبحون جزءاً من هذا الصراع الوهمي المفتعل على مواد أقل ما يقال إنها تافهة لا قيمة علمية لها.

2- كذلك من الأخطاء الشائعة لدى بعض العرب وللأسف بعضهم يحسب على النخب المتعلمة والمثقفة، أنهم يضعون الأكراد في سلة واحدة، فلا يعرفون شيئاً عن الجماعات الكردية وأقسامها، ولا يعرفون أنه ثمة الكثير من عناصر الاختلاف بين أكراد تركيا وأكراد سورية، أكراد الجزيرة وأكراد عفرين، أكراد إيران وأكراد أربيل، أكراد أرمينيا وأكراد أذربيحان.

كذلك هناك أكراد عشائريون وأكراد القرى، وأكراد متدينون وأكراد علمانيون، وأكراد علويون وأكراد سنة، وأكراد شيعة وأكراد يزيديون..

هذا التنوع يقابله كذلك تنوع سياسي كبير، لعبت الخلفيات العشائرية والطبقية دوراً في اصطفافات الأكراد حوله، لكن بالمجمل لا يوجد سياسات كردية واحدة باتجاه واحد، حتى ضمن أكراد الدولة ذاتها، فهناك سياسات أربيل الموالية لتركيا مقابل سياسات السليمانية الموالية لإيران، وفي سورية سياسات كردية أعلنت انضمامها للمعارضة وأخرى محسوبة على النظام، وفي تركيا أغلبية كردية فقدت شغفها القومي، وانقسمت بين مختلف التيارات الفاعلة بما في ذلك التيارات الكردية في تركيا، وفي إيران جماعات “اللور” التي تتحدث عن قوميتها الخاصة المختلفة عن الأكراد، وجماعات كردية لا تزال تحمل المشاعر القومية الكردية، وأخرى عشائرية بعيدة عن أي تفاعلات قومية.

3- هناك تضخيم كبير أحياناً للمشروع الكردي، وتصويره أيضاً مشروعاً سياسياً واحداً، رغم أن الواقع في سوريا على الأقل يشير إلى أن سياسات ميليشيات الأمر الواقع (قسد، مسد) التابعة لحزب العمال الكردستاني، هي أقل وطأة قومية، وسقف خطابها أقل من سقف أحزاب المجلس الوطني الكردي البرزانية مثلاً والمحسوبة على المعارضة!

كذلك هناك مبالغة في تضخيم الدور الغربي في دعم المشروع الكردي، ففكرة دعم مشروع غربي حالياً غير قائمة، بل وتاريخياً كان الموقع الغربي (البريطاني، الأمريكي) بشكل خاص من أكثر المواقف التي خذلت الأكراد، ناهيك عن دور بريطانيا وفرنسا خلال فترة ما بين الحربين وتخليهم عن مشروع كردستان الذي كان قائماً في اتفاقية سيفر 1920. وليس ببعيد عن ذاكرة الجميع رفض أمريكا وبريطانيا حتى خطوة الاستفتاء التي أقدم عليهم إقليم كردستان العراق بقيادة مسعود البرزاني سنة 2017. ناهيك عن أن أمريكا نفسها التي دعمت ميليشيات العمال الكردستاني الماركسي في سوريا، هي ذاتها تصرح بين الفينة والأخرى أنها لا تدعم أيَّ مشروع سياسي لهذه الميليشيات، وتطالبُهم بإبقاء قنوات الاتصال مفتوحة بينهم وبين الأسد؛ لأن تعاونها معهم هو تكتكي في إطار محاربة ما يسمى تنظيم داعش.

4- هناك ردود أفعال عربية متطرفة على الخطاب القومي الكردي أيضاً، فالخطاب القومي الكردي المتطرف الذي يتحدث عن كردستان الكبرى المحتلة من قبل العرب والأتراك والفرس، يقابله خطاب عربي ينفي أي وجود للأكراد في المنطقة، وينفي أي علاقة لهم في تاريخها وتفاعلهم مع تاريخها كجزء من وعائها الحضاري، ثم ينفي أيَّ حق للأكراد بتعلم لغتهم وثقافتهم، أو التعبير عن أنفسهم ووجودهم، وهذا بالطبع يساهم في تغذية الخطاب الكردي المتطرف ومده بأدوات الحشد القومي اللازم عبر تصوير ردود الأفعال هذه على أنها توجهٌ عربي عام اتجاه الأكراد، وجزء من سياسة اضطهادهم وحرمانهم، وأن السبيل الوحيد هو تصعيد الخطاب القومي الصدامي، وهذا ما يجب تجنبه؛ لأنه فيه خسارة للجميع.

5- هناك على المستوى الرسمي والأكاديمي أيضاً تقصير في البحث عن معادلة لمعالجة قضايا الأقليات العرقية والإثنية في العالم العربي، خاصة الأكراد والأمازيغ، وهناك لغة كراهية تنتشر عبر وسائل التواصل الإعلامي بصورة غير مسبوقة، لم تكن موجودة سابقاً، دون أن يكون هناك محاولات لنشر الوعي بخطورة الغوص بهذا المستنقع، وعدم فرض السلطات أيضاً قوانين تجرّم مثل هذا الأنواع من الخطابات، وتتعامل بحزم معه للحفاظ على بنية المجتمع، فحرية التعبير شيءٌ والسعي للتحريض وتفتيت المجتمع شيءٌ آخر لا يجب التساهل فيه، خاصة وأننا يجب أن نبقي أيضاً الأجندة الإقليمية المستفيدة من الصراعات الداخلية في الحسبان، وعدم التعامل مع ما يحدث أنه سياق طبيعي داخل المجتمع المتنوع.

كذلك يجب أن تكون الغالبية العربية متفهمة لحقيقة أن قيام الحضارة الإسلامية بحامل ثقافي عربي، لا يعني أن ننسب هذه الحضارة للعنصر العربي (عرقياً) فقط، فهذا خلط بين العرب والعروبة، بل يجب إبراز دور الأقليات الدينية والإثنية والعرقية بشكل أكبر وعرض ما حققته على مستوى الأفراد والجماعات أيضاً إن وجد في سبيل بناء هذا الإرث الذي لا يجب أن نتوقف عنده فقط، بل يكون أساساً لاستكمال المستقبل، كذلك يتعين على العرب بوصفهم الغالبية التي منحت صبغتها الثقافية والهوياتية لهذا الإرث، أن تكون مستعدة للتنازل عن جزء من حقوقها، لطمأنة الأقليات الدينية والإثنية والقومية، وأن تكون مستعدة لتقبل وصول أحد عناصر هذه الأقليات لأكبر مناصب على مستوى الدولة، وفتح مجال أوسع للتفاعل السياسي والاجتماعي لأعضاء الأقليات في المجتمع. 

* كاتب وباحث سوري متخصص في التاريخ الاجتماعي

المصدر: موقع مصير

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.