د.عبدالله تركماني
بداية، من الأهمية بمكان تحرير المصطلح، ذلك أن هناك خطأ شائعا في الحديث عـــن “حوار الحضارات” وكأننا نعيش في ظل حضارات متعددة، مع أنّ الواقع يقول أننا نعيش في ظل حضارة واحدة تقوم على أسس الثورة العلمية والتكنولوجية الثالثة، خاصة ثورة الاتصال والمعلومات. وذلك لا ينفي أننا نعيش في ظل ثقافات متعددة لكل منها رؤيتها المتميزة للعالم، وعلى ذلك من الأفضل أن نتحدث عن حضارة واحدة وثقافات متعددة. وليس هناك شك في أنّ كل ثقافة معاصرة لها استراتيجياتها في فهم وتأويل الحضارة الواحدة، ومن هنا فلابدَّ من ممارسة حوار الثقافات.
وبينما تركز أوساط عديدة في الغرب على عدم قابلية العرب والمسلمين للتأقلم مع حداثة الثقافة المعاصرة وقيمها، تتشبث قطاعات عربية وإسلامية واسعة، منسجمة في ذلك مع مناخ الانكفاء على النفس المتزايد، بفكرة الخصوصية القومية والدينية التي لا ترى مجالاً لأية مقاربة تاريخية إنسانية مشتركة. بل أنّ الأمر قد تجاوز ذلك كله نحو وضع فكرة الحداثة نفسها، ومعها جميع الطروحات والرؤى الفكرية التي غذّتها وعملت على بنائها وفي مقدمتها إشكالية التقدم والتأخر التاريخية التي نسجت عليها، موضع التساؤل.
ففي عالم مليء بتحولات راديكالية، بقدر ما كانت الإجابة التي تبناها الكثير من كتّابنا تبدو غير مقنعة للعقل الغربي عن تساؤله “لماذا يكرهوننا”؟ بقدر ما حملت تساؤلاً اتهامياً يلخص مرارتنا من سياسات غربية مزمنة فتساءلنا بدورنا “لماذا يعادوننا”؟ ومن ثم: كيف نفكر في تواصل التاريخ، وفي المحافظة على الأمل بحياة أفضل لأكبر عدد ممكن من الناس؟ وهل نستطيع الحفاظ على رؤية لمشروع حضاري كوني يتماشى مع التعددية ويغتني بالثقافات المتنوعة؟ وهل نمت حضارة من الحضارات الإنسانية وأينعت وحيدة بمعزل عن الاقتباس من الثقافات الأخرى أو التفاعل معها؟
وفي هذا السياق، ربما لا توجد آفة تهدد البشرية حالياً أكثر من انتشار التعصب والتطرف الفكري، الذي عبّر عن نفسه في أحيان كثيرة في شكل عنف دموي اجتاح العديد من مناطق وأقاليم العالم، والخطورة كل الخطورة تتمثل في انتشار هذه المظاهر واتساع نطاقها من مجموعات محدودة هامشية منبوذة إلى قلب التجمعات البشرية، بحيث يتراجع معها اعتدال وتسامح الغالبية في الشرق والغرب، وتزداد الخطورة عندما تبدأ هذه الجماعات في تحويل الفكر إلى ممارسة، حيث نشهد الاعتداءات وأعمال القتل والتخريب وإبادة البشر وقطع الرؤوس من منطلق الاختلاف.
في حين أنّ هذا الزمن العالمي المتغيّر والصعب يفرض الحاجة إلى الاكتشاف المكثف للآخر، حيث أصبحت الدعوة لحوار الثقافات تمثل القاسم المشترك بين الكثير من المثقفين ورجال السياسة والدين والمفكرين، ليس فقط في العالمين العربي والإسلامي فحسب بل في الغرب أيضاً. ومما لاشك فيه أنّ أحداث الإرهاب التي شهدها العالم في السنوات الأخيرة طرحت تحدياً حقيقياً أمام كافة المبادرات الخاصة بحوار الثقافات لإثبات مصداقيتها وتأثيرها المتعدد الأبعاد، سواء على دوائر صنع القرار أو وسائل الإعلام أو المراكز الأكاديمية والبحثية أو منظمات المجتمع المدني، فهذا التأثير وتلك المصداقية هما المعيار والحكم على صلة هذه المبادرات بالواقع المعاش والقدرة على إحداث تغيير إيجابي في مناهج التفكير والسلوك والتعامل مع الآخر وتوصيفه بشكل بنّاء، والتفاعل معه بديلاً عن الانعزال عنه أو التصرف من منطلق أنّ هذا الآخر هو العدو أو الخطر أو التهديد، وبدون تجاهل مرجعية قيم العدل والإنصاف والمساواة والاحترام المتبادل، وعدم الادعاء باحتكار الحقيقة.
لقد أصبحت قضية الحوار بين الثقافات من القضايا ذات الأولوية القصوى في العالم المعاصر، فلم يعد الحوار أمراً ثانوياً أو هامشياً وإنما أصبح ضرورة حياتية لكل الشعوب، فقد تقاربت المسافات وتشابكت الثقافات وأُزيلت الحواجز بفضل ثورة المعلومات والاتصالات والثورة التكنولوجية، وما صاحب ذلك من تيار جارف للعولمة.
حيث أنّ المشكلات الإنسانية قد تعولمت، بمعنى أنّ هناك مشكلات تواجه الإنسانية كلها، ولا فرق في هذا المجال بين الدول الصناعية المتقدمة والدول النامية في الجنوب. ومن هنا أصبحت الدعوة إلى حوار الثقافات ضرورية، لأنّ كل ثقافة من الثقافات التي يزخر بها العالم وفي ضوء التنوّع البشري الخلاّق، يمكن أن تسهم بأفكارها والحلول التي يقترحها ممثلوها في حلها. فلم يعد بالإمكان- في هذا العصر- تقوقع الذات عن الآخر، إذ أصبح تشابك العلاقات الإنسانية، وما تواجهه من تحديات تجاه قضايا مشتركة، يفرض على الذات أن تدخل في الحوار، من أجل المصلحة العامة التي تجمع بين البشر.
ويتزامن هذا الاتجاه مع التحولات العميقة التي يشهدها العالم على صعيد العلاقات الدولية بصورة عامة، وعلاقات شمال- جنوب بصورة خاصة، وعلى إثر ظهور اتجاهات جديدة، في مقدمتها المنظمات غير الحكومية والمجتمع المدني في العالم، تمثل قوة ضاغطة على مراكز اتخاذ القرار على مستوى السياسة الدولية، للدفع نحو ما يمكن أن نصفه بأنسنة القرارات الدولية كافة، وذلك بأن تطغى الروح الإنسانية على النشاط العام الذي يمس حياة الأمم والشعوب، وتهيمن على السياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إن على الصعيد الدولي، أو على الصعيد الإقليمي، أو على مستوى الدول منفردة أو مجتمعة. وأولى هذه المكتسبات دولة الحق والقانون، وحرية المعتقد والضمير، والقبول بالتعددية الفكرية والسياسية، والديمقراطية وحقوق الإنسان.
المصدر: الحوار المتمدن