معتمر أمين *
دق ناقوس الخطر على حدود مصر الشرقية بعد اقتحام القوات الإسرائيلية لمدينة رفح الفلسطينية. وأصبحنا على بعد شعرة من تحول جذري «قد» يحل بالمنطقة. وبالرغم من استبعاد أن تؤدي الانتهاكات الإسرائيلية للمعاهدة لاسيما اقتحامها المنطقة «د» ومحور صلاح الدين في رفح إلى جرجرة مصر للدخول في مواجهة مسلحة، فإن الاحتمال مازال قائماً بأن تعود فجأة المنطقة للحالة التي كانت عليها على مدار ثلاثين عاماً قبل معاهدة كامب ديفيد، حيث كانت المواجهات في تلك الحقبة بين إسرائيل والدول العربية، وبعدها أصبحت المواجهات بين إسرائيل وفصائل المقاومة العربية على اختلاف بلدانها. وبالرغم من أن التحديات التي ستنجم عن هذا التغير لا حصر لها، نكتفي في هذا المقال باستعراض أربعة منها.
* * *
أول التحديات عن ترتيب المنطقة؛ فكل ما نراه من ترتيبات إقليمية في الشرق الأوسط هي نتاج مسار كامب ديفيد. ومع انهيار الاتفاقية يعود سؤال عن طبيعة العلاقات بين مصر وإسرائيل. وإذا كانت الإجابة في الوقت الراهن تحددها المصالح المتشابكة، فإن الإجابة ستختلف بمرور الوقت عندما تتراجع أهمية تلك المصالح، لاسيما عندما يزيد معها مستوى المخاطر والتهديدات. والمثال الأبرز لتراجع المصالح يدور حول الغاز الطبيعي. فإذا وجدت إسرائيل البديل لتصدير الغاز الإسرائيلي للأسواق بدون الاعتماد على البنية التحتية المصرية من خطوط أنابيب لنقل الغاز، ومحطات الإسالة، واستغنت مصر في المقابل عن «اتفاقية الكويز» التي تدعم صادرات الملابس الجاهزة المصرية للولايات المتحدة، فسيتراجع تأثير القوة الاقتصادية الاجتماعية متشابكة المصالح في الدولتين التي تدافع عن استقرار العلاقات.
أما المثال الأبرز لتفاقم المخاطر يدور حول سيناريو التهجير لأهالي غزة إلى سيناء، والذي تحول من مجرد أوهام في مخيلة اليمين الإسرائيلي، إلى خطط تتولى حكومة الحرب الإسرائيلية تنفيذها. وتحفز هذه المخاطر مصر وتضعها على أهبة الاستعداد من قَبل انهيار اتفاقية كامب ديفيد. فالتهجير معناه تصفية القضية الفلسطينية على حساب المصالح المصرية. وبناءً على ذلك، يسقط حجر الأساس للترتيب الإقليمي، الذي بني عليه الشرق الأوسط، ونعود لما قبل كامب ديفيد، وتنشط كل دولة لتغير الواقع الإقليمي لصالحها، حتى توازن أو تتغلب على المخاطر المتجددة.
* * *
ثاني التحديات عن السردية الجديدة، فلابد من الإجابة عن بعض الأسئلة التي تدور في أذهان الناس عن طبيعة التغيّر الذي يجري في المنطقة بانهيار الاتفاقية. فهل انهيارها يعني تلقائيا أننا في حالة مواجهة مع إسرائيل؟، وعلى ماذا نواجهها؟، ثم ماذا نريد من تلك المواجهة؟ وهل نحن في موقفنا الاقتصادي الراهن قادرون على تكلفة هذه السردية الجديدة، لاسيما وأن أجيالاً من مصر دفعت أثماناً باهظة حتى وصلنا إلى استقرار دامَ لخمسين عاما؟.
وفي نفس السياق، ما هي طبيعة السردية الجديدة في إسرائيل؟ هل يُعتبر هذا الانهيار تقدماً أم تراجعاً في وضع الدولة؟، وهل تصبح أكثر أمناً أم أكثر عرضة للمخاطر؟، وهل يبدو المستقبل مزدهراً أم قاتما؟ نلاحظ في هذا المقام أن الناس ستستحضر سرديات تاريخية وتُقحمها على المشهد إقحاماً، منها مثلاً أننا ذاهبون إلى «هرمجدون» أو معركة آخر الزمان، بكل ما يحمله كل طرف من أمنيات؛ إذ يتمنى اليمين الإسرائيلي تحقيق نبوءة من النيل إلى الفرات وإعداد الأرض لظهور المسيح الحقيقي، بينما يتمنى اليمين المسيحي عودة السيد المسيح، أما اليمين الشيعي فيتمنى ظهور المهدي المنتظر. وكل هذا يُنذر بأن انهيار الاتفاقية يفتح الباب لظهور الصراع الديني ويملأ الفضاء السياسي بالمنطقة، في ظل عجز وتراجع السرديات السياسية الوطنية في التعامل مع تعقيدات المشهد الإقليمي.
* * *
ثالث التحديات عن الكوادر المؤهلة للتعامل مع واقع انهيار الاتفاقية، حيث يتعين على شاغلي الوظائف العليا في الدولة التعامل مع واقع فرض عليهم فرضاً بدون رغبة منهم. ففجأة تتحول الأولوية من النمو الاقتصادي، والتركيز على استكمال المشروعات، وتحسين سعر الصرف، وزيادة الدخل مع السيطرة على التضخم، إلى واقع آخر مختلف تسيطر فيه خطط التقشف على الاقتصاد مع زيادة التركيز على الجوانب الدفاعية، وبرامج الدعم الاجتماعي.
وفي ظل هذا المسار قد تفقد الدولة الكثير من الكوادر المرتبطين بالشركات دولية النشاط، وبحركة التجارة العالمية. وقد لا يُسعف الوقت لإعداد كوادر جديدة للتعامل مع الواقع الجديد الذي يحتاج إلى بنية فكرية وذهنية مختلفة، تستطيع الإفلات من الانكماش المالي، ومنع الانفصال عن العولمة الاقتصادية، أو سلاسل الإمداد العالمية، وفي نفس الوقت تستطيع تقوية البدائل، والاستفادة من تجارب دول مثل روسيا التي استطاعت الفكاك من العزل عن النظام المالي العالمي منذ حرب أوكرانيا 2022، أو دول مثل الجزائر التي انعكفت على نفسها لتقوية اقتصادها استناداً على مواردها الذاتية.
* * *
رابع التحديات هو العلاقة مع القوى الكبرى. وهنا إشكالية مزدوجة، فمن ناحية، ترسخ في ذهن أي صانع قرار مصري أو عربي، بأن الولايات المتحدة لا تنفصم عن إسرائيل، مهما فعلت الأخيرة. وبالتالي، الضمانة الأمريكية لكامب ديفيد ليست ذات مصداقية عالية، لأن الولايات المتحدة لن تكبح إسرائيل عن فعل أي شيء. ومن ناحية ثانية، يسود توجس أو شك في مسألة العالم متعدد الأقطاب، حيث يتحسب كثير من المسؤولين من مصيدة الديون الصينية والتي تُوّقِع الدول النامية في القبضة الصينية. كما تتحسب دول كثيرة من الانحياز الصريح والتعامل المفتوح مع روسيا لأن ذلك يضع أي دولة تحت طائلة العقوبات الغربية.
وفي هذا السياق، تخشى أي دولة من الوقوع ضحية لتفاعلات خطرة بين الدول الكبرى لأن تبعات هذا الموقف باهظة التكاليف. ولقد مرت المنطقة العربية عموماً ومصر خصوصاً بهذه التجربة من قبل، وإذا عدنا إليها الآن في ظل عصر العولمة الرقمية الذي نعيش فيه، فإن تكلفتها ستكون أعلى بكثير مما كانت في السابق. وأبسط مثال، نتخيل ماذا سيكون رد فعل الشباب في مصر لو حَجبت شركات الاتصالات الأمريكية تطبيقاتها عن مصر، لاسيما منصات التواصل الاجتماعي، أو تطبيقات متجر آبل؟!
* * *
هل معنى ذلك أن الاتفاقية صامدة مهما كان السلوك الإسرائيلي؟ أغلب الظن ستصمد الاتفاقية مؤقتاً لأسباب منها؛ أن صانع القرار الإسرائيلي يرى أنه سمح لمصر بالعمل في المنطقة «ج» في سيناء لمحاربة الإرهاب، فلماذا تعترض مصر عندما تفعل إسرائيل الأمر نفسه في المنطقة «د»؟!. وبالرغم من الفوارق الهائلة بين محاربة مصر للإرهاب وبين إبادة إسرائيل للشعب الفلسطيني المحاصر في رفح، فإن إسرائيل اكتفت بالتوافق مع الولايات المتحدة على أن دخول رفح لن يؤدي لانهيار الاتفاقية. ولكن هذا التوغل الإسرائيلي داخل ممر صلاح الدين والسيطرة على معبر رفح يفتح الفرصة للتهجير من شمال المعبر في المنطقة الرخوة أو عن طريق البحر، لأن جيش الاحتلال الإسرائيلي يدفع المحاصرات والمحاصرين لتلك المنطقة. وكلما طال أمد العملية كلما اقتربنا من انهيار الاتفاقية.
* كاتب وباحث مصري في مجال السياسة والعلاقات الدولية
المصدر: الشروق