ماجد كيالي *
لا يوجد وقت وجدت فيه إسرائيل نفسها مكشوفة أمام العالم، وفي قفص الاتهام، كدولة استعمارية وعنصرية وعدوانية، كما هي الآن، في ظلّ حربها الوحشية على غزة، إذ دُعيت للمثول أمام محكمة العدل الدولية، بدعوى ممارستها الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين في غزة، وفوق ذلك، فقد بات قادتها اليوم بمثابة متهمين بجرائم حرب، بناءً على قرار اتهامي أصدره مدّعي عام المحكمة الجنائية الدولية.
وبين هذا وذاك، ثمة 143 دولة أكّدت وقوفها مع حق الفلسطينيين في إقامة دولة لهم، مع امتناع 25 عن التصويت، ومعارضة 10 دول فقط (بينها إسرائيل والولايات المتحدة، ودولتان أوروبيتان هما تشيكيا وهنغاريا) علماً أنّ فرنسا واليابان وأستراليا وإسبانيا والمكسيك بين الدول التي أيّدت القرار، في التصويت في الجمعية العامة (10/5/2024).
واضح انّ سياسات إسرائيل إزاء الفلسطينيين أطاحت تماماً بالصورة التي حاولت ترويجها عن نفسها كدولة أُنشئت لضحايا “الهولوكوست” اليهود، وكدولة واحة للديموقراطية في المنطقة، مع ادعائها بأنّ الجيش الإسرائيلي (الذي لا يُقهر برأيها) هو الجيش الأكثر أخلاقية في العالم، إلى درجة أن غولدا مائير قالت ذات مرّة بوقاحة عجيبة، إنها لن تسامح الفلسطينيين لأنهم جعلوا الجنود الإسرائيليين يقتلون أطفالهم!
على أية حال، فإن تلك القرارات تتمتع بأهمية رمزية، سياسية وأخلاقية وتاريخية، لكنها تفتقد للآليات اللازمة لوضعها موضع التطبيق، وهو حال عشرات القرارات التي صدرت عن المنظمة الدولية، ومؤسساتها، منذ تمّت إقامة إسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني (1948) أي قبل 76 عاماً، وهو الأمر الذي ينتمي إلى المعادلة المختلة بين قوة الحق وحق القوة.
مثلاً، فقد اعترف المجتمع الدولي بإقامة دولة إسرائيل بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة (273، لعام 1949) الذي اشترط عليها (مقابل ذلك الاعتراف)، الموافقة على تطبيق قراري الجمعية العامة السابقين، أي القرار 181 (لعام 1947)، الخاص بتقسيم فلسطين وإقامة دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل، والقرار 194 (لعام 1948) الخاص بتأمين حق العودة للاجئين الفلسطينيين؛ وهو ما تنصّلت إسرائيل منه جملة وتفصيلاً.
بعد ذلك يمكن ذكر عشرات القرارات التي صدرت عن الهيئات الدولية، والتي ضربت بها إسرائيل عرض الحائط، وضمنها القرار 242، الخاص بانسحابها من الأراضي التي احتلتها عام 1967. ويأتي ضمن ذلك تنصّل إسرائيل من اتفاقية أوسلو وملحقاتها، التي وقّعت في البيت الأبيض (واشنطن 1993)، وبعدها من خطة خريطة الطريق (2002)، بحيث بات الفلسطينيون في الأرض المحتلة، لا سيما في الضفة يعيشون في معازل متفرقة، بين المستوطنات والحواجز والجدار العازل التي انشأتها إسرائيل لوأد أي مسعى جدّي لإقامة دولة فلسطينية.
ومنذ أعوام قليلة توالى صدور تقارير دولية تصف إسرائيل باعتبارها دولة استعمارية ودولة فصل عنصري. جاء ذلك في تقرير منظمة العفو الدولية (آمنستي) ومنظمة مراقبة حقوق الإنسان (هيومن رايتس ووتش) واللجنة الدولية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة، وحتى منظمة “بتسيليم” الإسرائيلية؛ وذلك يُضاف إلى القرار الاستشاري الصادر عن محكمة العدل الدولية في لاهاي (2004)، والذي اعتبر قيام إسرائيل بإنشاء الجدار الفاصل عملاً غير شرعي، وتقرير القاضي غولدشتاين بشأن العدوان الإسرائيلي على غزة (2009)، ويشمل ذلك تقرير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (إسكوا) عام 2017، الذي أعدّه اثنان من أبرز خبراء القانون الدولي، هما ريتشارد فولك وفرجينيا تلي.
لكن ما الذي يفسّر تحدّي إسرائيل، وهي دولة صغيرة، المجتمع الدولي، واللامبالاة إزاء كل القرارات بحقها؟
في الواقع، فإنّ إسرائيل تتصرّف أساساً باعتبارها فوق القانون الدولي، أو أنّها مستثناة من أحكامه، أولاً، بدعوى أنّها دولة تخص اليهود، وضحايا المحرقة، كأنّها في ذلك تعتبر ذلك ديناً على العالم، ولو تضمّن إبادة شعب آخر، أو كأنّ ثمة جريمة تبرّر جريمة أخرى. ثانياً، ترى إسرائيل أنّ من حق دولة ديموقراطية (وهي كذلك لكن نسبة لمواطنيها من اليهود) ما لا يحق لغيرها. ثالثاً، إن إسرائيل في الحالين تتصرف كأنها تحتكر مكانة الضحية، وأنها تمتلك الحق المطلق في الدفاع عن نفسها، حتى وهي تقوم بحرب إبادة ضدّ من تعتبرهم أعداءها، إلى درجة قطع الماء والكهرباء والغذاء والوقود والدواء عنهم وهدم عمرانهم.
أما الأسباب التي تشجّع إسرائيل على الاستمرار في تلك السياسة، فتتأتى من:
أولاً، تمتعها بدعم وتغطية الولايات المتحدة الأميركية، سياسياً وعسكرياً ومالياً واقتصادياً، إذ أنّ إدارة بايدن تقف بكل ثقلها وراء إسرائيل، بغض النظر عن الخلافات الثانوية، إلى درجة أنها تقف معها في رفض أي اتفاق لوقف كامل وشامل لإطلاق النار، فهي مع وقف موقت فقط.
ثانياً، ضعف الوضع العربي، أو ضعف المداخلات العربية، التي تسمح بالضغط على الموقف الأميركي وتالياً الإسرائيلي، لأسباب معروفة.
ثالثاً، تعزز مكانة إسرائيل على الصعيد الدولي، إذ أن تلك الدولة ترتبط بعلاقات متميزة وقوية وعميقة، ليس مع الدول الغربية فقط، وإنما حتى مع الأقطاب الدوليين الآخرين، وضمنها الصين والهند وروسيا، وهذه الدول ربما تعطي صوتها لفلسطين في الأمم المتحدة، لكنها ترتبط مع إسرائيل بعلاقات قوية ومتشعبة.
هذا الوضع هو الذي سمح لجلعاد أردان مندوب تلك الدولة الصغيرة والمصطنعة، في الأمم المتحدة، بتمزيق ميثاق الأمم المتحدة، أمام ممثلي دول العالم، قبل أيام، لدى التصويت على فلسطين كدولة في الأمم المتحدة.
ولعلّ الأكثر صفاقة في هذا الموضوع، أن إسرائيل التي تعتبر نفسها بمثابة واحة للديموقراطية والحداثة في المنطقة، تصرّ على الاعتراف بها كدولة يهودية حصراً، وباعتبارها دولة لليهود، وهي توصيفات تصلح للعصور الوسطى، أو للدول الدينية، عدا أنها اليوم هي بمثابة توصيف للدول العنصرية، التي باتت تبدو كذلك ليس فقط إزاء الفلسطينيين، وإنما أيضاً إزاء اليهود الإسرائيليين، من العلمانيين.
في السياق، لنلاحظ أن ثمة جماعات يهودية في العالم، باتت تتجرأ على إسرائيل، وترفض احتكارها تمثيل يهود العالم، أو احتكارها تمثيل ضحايا المحرقة، كما ترفض وصم السياسات المعادية لإسرائيل باعتبارها شكلاً من أشكال اللاسامية، في إطار رؤيتها لإسرائيل التي تمارس حرب إبادة ضدّ الفلسطينيين كعبء عليهم، وعلى دولهم في الغرب، من النواحي السياسية والأخلاقية والأمنية والمالية. أيضاً وصل الأمر إلى أن شخصيات يهودية باتت تطالب بتحرير إسرائيل من الصهيونية، وثمة منهم من بات يرى بجلاء استحالة التعايش في إسرائيل بين الديموقراطية واليهودية، في حين يسخر بعضهم من ان معظم قادة إسرائيل والمشروع الصهيوني لا يعترفون بالله لكنهم يعتقدون أنه وعدهم بفلسطين!
* كاتب وباحث فلسطيني
المصدر: النهار العربي