عبير نصر *
كثيراً ما أثيرت جدلية علاقة نظام الأسد في سورية بـ”عبيده” الموالين، وذلك لجهة الظروف المؤسّسة للحالة الوجدانية الجامعة بينهما، وبكلّ تناقضاتها المحيّرة، بالتزامن مع خبر اعتقال بشار برهوم، أحد أبرز أبواق الطاغية، وهو ما يجعل من الصعوبة بمكان حصر أسباب العدم السوري ومآلاته الراهنة، إذ إنه وبعد عقودٍ من حكم الأسد المطلق لا يمكن تفكيك هذه العلاقة البراغماتية، المتداخلة والتبادلية، والتي تبدأ من مظلومية تاريخية، مروراً بماهية الجماعة نفسها، وصولاً إلى التهديد الوجودي على وقع ثورة 2011 وما تبعها من حرب أهلية. ولا شكّ في أنّ محنة العلويين تنبع من مكر التاريخ نفسه الذي حوّلهم إلى عصا بيد النظام، ويمكن اليوم ربط توهّم اختلافهم عن بقية الطوائف بالتصوّر السام أنّ لديهم خصوصية لا مثيل لها في العالم، تستند إلى عصبية طائفية بالمعنى الخلدوني كقناةٍ لتوزيع السلطة بشكلٍ عبثي وقسري، وهو واقع فرضه انتماء نظام الأسد نفسه لبُنى ثقافية وسياسية مشوهة تشكّلت عبر تاريخ عسكري انقلابي معقّد.
ليست هذه نظرة تشاؤمية بل رؤية موضوعية لها ما يدعمها، لأنّ الأسد الأب لم يرد، ربما، بناء “علوية سياسية” بالمعنى الحرفي للمصطلح، لكنه وجد نفسه متورطاً بها، لأنه أراد أن يحوّل حكمه إلى سلطةٍ وراثية دائمة، ويقطع الطريق على أيّ تغيير أو انتقال للسلطة، وكلّ ما فعله أنه، ومنذ سبعينيات القرن الماضي، عمل حثيثاً على تفريغ الطائفة المسحوقة من سياقها الاجتماعي وتحويلها إلى طبقة عميلة منبوذة دون أصول تاريخية واضحة، وهو ما يجري حتى الآن مع الابن. وهكذا كلما تعقدت الشراكة بين الطرفين اختلفت تجلياتها وفقاً للشرط الوضعي الذي يحكمها، والإقرار بما تقدّم قد يكون المدخل لفهم هذه العلاقة المركبة، أما الاسترخاء لمسلّمات من قبيل أنّ الأسد يحتمي بالعلويين ويتظلّل بمخاوفهم، فلن يساهم سوى بتعزيز التصاق الطائفة بجلادها، والتي تتعامل مع فكرة إسقاط الأسد على أنها تصفية مباشرة لها، في استنتاج كارثي لا علاقة للمقدّمات فيه بنتائجه، رغم تواتر أخبار مستمرّة عن وجود نقمة في الوسط العام للطائفة ضد النظام الذي ساقهم إلى قاعٍ سحيقٍ كلما حفروا يستجدون الخروج منه ازداد عمقه.
وليس من المبالغة في شيء لو قلنا إنّ نظام الأسد برع في استغلال طائفته واللعب على مخاوفها الوجودية، ومن دون أن ينكشف، متماشياً مع الذهنية العنصرية لملك بروسيا العظيم، فريديك الأكبر، الذي كان يعتبر البشر قطيعاً من الأيائل في حديقة النبلاء العظام. بهذا المعنى يُفتضح مدى احتقار الأسد لمؤيديه، وتصنيفهم أعداء محتملين ودون أن يغفر لهم زلّة لسان واحدة إن خرجت عن السياق المحدد. والمفارقة في الأمر، والمثير للسخرية المرّة أيضاً، أنّ احتقار الأسد لحاضنته الموالية يأتي بالتوازي مع استماتة الأخيرة في تجاوز إمكانات الواقع وملموسية الحدث لحماية عرشه الملكي، ما أكّده أستاذ العلوم السياسية في بيروت هلال خشان: “العلويون حاسمون لبقاء الأسد، ولن يحيا يوماً واحداً بدون دعمهم الكامل”. الأمر الذي يفسر إلحاح السؤال عن حال الطائفة اليوم وما يمكن أن تفعله مع تسارع انكشاف أزمات البلاد والفشل البيّن للمشروع السياسي في وقف التدهور الحاصل، بينما كان انتقادُ الحكومة والتعويل على “رحمانية” الأسد في محاسبتها لوناً من المبالغات المتناقضة تتماشى مع السياسة العميقة للنظام، وهو ما جعل مُطبّلِي الطاغية أشبه بـ”حمَلَةِ المباخر” لا همّ لهم سوى التبشير بـ”ألوهية” الأسد وأبديته.
وبالاستناد إلى التحليل السوسيولوجي، نفهم الآليات التي شكّل بواسطتها نظام الأسد ريفِيّ سلطته من العلويين، ومثلما أكّد فريديريك إنجلز إنّ الفلاح يرى قريته هي كلّ العالم، فإنّ الطائفة المهمشة رأت في نظام الأسد الخلاص الذي لا حياة بعده. لم يكن هذا كلّ شيء في السياق، فالقطع العنيف في المخيال العام للعلويين، من اضطهاد العثمانيين المرير مباشرة إلى الامتيازات المطلقة خلال حكم الأسد، بدون أيّ فواصل تعكس التغيرات التي مرت بها الطائفة وأثّرت في محيطها، يفسّر سبب عدم تمكن الأخيرة من تشكيل كيانٍ سياسي متماسك على قاعدة اجتماعية قابلاً للحياة ولو بعد خلع الأسد، وعليه لن يكون العلويون قادرين ببساطة على الانقلاب عليه، رغم اتخاذ كثيرٍ منهم مواقف صريحة ضده، في وقتٍ لم يتوانَ فيه النظام عن احتضان زبانيته، ممن يرجون من نفاقهم نفعاً أو يتقون به شراً، إضافة إلى أقربائه، الذين أوصلهم إلى الحدّ الذي يراه هو من القوة التي تهيمن على مؤسسات الحكم، ثم معاجلتهم بتصفيتهم المفاجئة أو إقصائهم التدريجي، فكما اغتال الأسدُ الأب ابنَ أخته الدكتور إبراهيم نعامة بعد تأييده لترشيح محمود الزعبي ضده في انتخابات الحزب، لم يتوانَ الابن، بدوره، عن خلع ابن خاله عن عرش الاقتصاد السوري لأنه رفض دفع ديون الحرب لحلفائه، بحسب صحيفة التايمز البريطانية.
في المقابل، تمّ منح آخرين امتيازات سرية على أن يبقوا في موقع المعارض “الكيوت” لتزيين وجه نظام الأسد، واستمر هذا التحالف المُضمر مؤسساً لباطنية سياسية عمّت تلك البؤرة، لتشمل عدداً كبيراً من المثقفين البارزين، ما يأخذنا بالضرورة إلى تناول ظاهرة “الأبواق الطائفية الناعقة” القائمة على مبالغاتٍ لغوية وتملّق فاضح، وهم المطبّلون والمزمرون من العلويين الذين بالغوا في مديح الأسد، فصنعوا مفارقة ساخرة في الشارع السوري، لا سيّما وقد صاروا مشهورين بين الناس بهذه الخصلة الممقوتة، كما بشار برهوم، سالف الذكر، الذي أراد من نفاقه الزاعق حصد المكاسب الشخصية غير عابئ بالمصلحة العامة، ليتمدد بحريةٍ مستفزة في حيّزٍ طائفي مشحون بحمولات السياسة ومقتضياتها، بعدما راكم أدلة ولائه لرأس النظام ولم يحلّق خارج السرب حتّى قبيل اعتقاله، ليس بسبب الإساءة إلى وليّ نعمته وإنما لإعلانه عداءه الصريح لإيران. تكرّر هذا السيناريو مع الإعلامية الموالية لمى عبّاس التي رقصت غير مرّة وزغردت وهتفت في الفعاليات التي تمجّد الأسد، لتنقلب عليه بعد ذلك، وتُعتقل إثر اتهامها حلفاء الأسد بسحق الشعب السوري وتجويعه، وسعي النظام نفسه لنهب البلاد وطمس الهوية السورية.
والحال أنّ مطبّلِي نظام الأسد لم ينافحوا عنه من منظور الواقعية السياسية، بالتأكيد، رغم إدراكهم أنّ التعايشَ معه انتهازيةٌ مهزومة ذاتياً من حيث إنها تراكم احتمالات نشوب تمرّدٍ لازبٍ وحتمي، بعدما أفرز دولةً فاشلة وفوضوية تعاني من عنفٍ مزمن، فراحوا ينقلبون عليه تباعاً، بينما لا يتوانَ عن التهامهم على مائدة السياسة كوجبة باردة وشهية. وما يجعل نهش الأسد للحمِ مُطبّليه “المتمردين” حدثاً مفصلياً أنه ضعفٌ صريح يعجّل بسقوطه، فمرحلة الوعي بالظلم هي اللحظة الحاسمة التي ستدفع الطائفة للثورة على جلادها، رغم صعوبة تحقّق هذا الطرح قريباً، لأنّ الأسد جعل ذاكرةَ العلويين، المضطربة أساساً، قصيرةً وانتقائية إلى درجة القفز الاعتباطي من “مرابعين” يعيشون كابوسَ الرعب العثماني إلى أحضان حكمٍ متوحش حوّلهم، بدوره، إلى طبقةٍ عاملة بدون جذور إنما بمواصفات مجتمعية استثنائية، ليمارسَ ضدها أكثر الألعاب الأمنية والدعائية دهاءً، توازياً مع إيمانهم أنه لا توجد فترة “عزّ” أبداً في تاريخهم قبل الأسد، ما ساهم في صعود الطائفة من الخصوصية بحيث تجعل من فكّ الترابط بينهما حالة خاصة وبالغة التعقيد.
* كاتبة وإعلامية سورية
المصدر: العربي الجديد