ماجد كيالي *
اعتادت إسرائيل تسريب سيناريوهات، أو خيارات عدّة تتعلق بأجندة اليوم التالي للحرب التي تشنّها ضدّ فلسطينيي قطاع غزة، أغلبها يأتي في سياق التوظيف السياسي والإعلامي الموازي لتلك الحرب، أو كجزء منها، لا سيما وأنّها هي التي تقف وراء تلك الحزمة من السيناريوهات والخيارات، التي تتوخّى منها بلبلة الأطراف الفلسطينية المعنية، وتعميق الشرخ بينها، وإشاعة الإحباط في صفوف الفلسطينيين، علماً إنّ ثمة سيناريوهات أخرى ناجمة عن الاجتهادات المختلفة للتيارات الإسرائيلية الحاكمة.
على أية حال، فإنّ كل الأطروحات الإسرائيلية لا تغطي على حقيقة مفادها أنّ حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل، منذ قرابة ثمانية أشهر، إنما تتوخّى فصل الضفة عن غزة، والتخفيف من ثقل الكتلة البشرية الفلسطينية في القطاع، وإخضاع الفلسطينيين من النهر إلى البحر، ووأد طموحهم لإقامة دولة مستقلة لهم؛ وكل ذلك بحجة القضاء على حركة حماس.
الآن، وبمعزل عمّا تريده إسرائيل، وما قد تستطيعه، وما تفعله، أو من دون كل ذلك، فإن الفلسطينيين هم الطرف المعني أساساً بالبحث في أجندة اليوم التالي، بعد كل الأهوال التي مرّوا فيها، ودمار مجتمع الفلسطينيين في غزة، وخراب عمرانهم، وفقدان ممتلكاتهم، ومصادر رزقهم، إلّا إن قيادتهم لا تفعل شيئاً يُذكر للتعامل مع هذا الواقع، إذ لا توجد ورشة عمل للتحضير لما هو متوقع في اليوم التالي، ولا خلية أزمة، أو هيئة طوارئ، على رغم أن القيادة الفلسطينية سارعت إلى تلبية المطلب الدولي المتعلق بتشكيل حكومة تكنوقراط، برئاسة محمد مصطفى (14 آذار/مارس الماضي)، إلّا إن تلك الحكومة لم تضف شيئاً مميزاً للمشهد الفلسطيني، باستثناء توصيفها كالحكومة الـ19 منذ تشكيل السلطة الفلسطينية (1993).
هكذا، ففي الحديث عن أجندة اليوم التالي المفترضة يمكن تمني أشياء كثيرة، وضمنها، أو في مقدمتها، هزيمة إسرائيل، أو تفويت استهدافاتها، وتالياً تمكّن الفلسطينيين من لملمة جراحهم، وفرض شروطهم، أو بعضاً منها، بيد أن التمني، أو التخيّل، يختلف تماماً عن الواقع، الذي يتحدّد وفقاً لموازين القوى، في مختلف المجالات، ووفقاً للمعطيات الدولية والعربية، المؤاتية لهذا الطرف أو ذاك، ولا يعفي من قراءة المشهد السياسي بطريقة موضوعية.
وعليه، في الحديث عن اليوم التالي ثمة أربعة جوانب رئيسة:
أولاً، عند لحظة توقف الحرب، وفي اليوم التالي، سيكون الفلسطينيون إزاء واقع ثقيل وشائك جداً، يتطلّب إيجاد حلول عاجلة لأكثر من مليوني فلسطيني في غزة، بتأمين أماكن إيواء لعشرات آلاف العائلات التي باتت بلا مسكن، وتوفير إمدادات المياه والكهرباء والطاقة والمواد الغذائية والطبية لهم. كما يتطلّب ذلك توفير شبكة من الطرقات لتسهيل التنقل للأفراد والبضائع. والمعنى من ذلك أن الملف الإنساني هو الملف العاجل والملحّ في لحظة ما بعد الحرب، ولا يمكن تأجيله، أو تركه تحت طائلة المجادلات أو الخلافات السياسية بين الأطراف المعنية، لأن عدم إيجاد حلول مناسبة وعاجلة لذلك الملف سيجعل من قطاع غزة مكاناً غير صالح للعيش، ويفتح المجال أمام سيناريو نزوح الفلسطينيين منه، بطريقة أو بأخرى، علماً أن ثمة حديثاً عن خروج 200 ألف فلسطيني من القطاع خلال الأشهر السبعة الماضية.
ثانياً، إعادة البناء، وهذه مسألة ملحّة، أيضاً، ويُفترض ألّا تخضع للفوضى أو للحسابات الخاصة، لا السياسية ولا الفصائلية، لأنها تتعلّق بإعادة عمران غزة، وبناها التحتية، وتوفير فرص عمل، وإمكان الصمود لمليوني غزّي، ما يفترض إيجاد المناخات التي تؤمّن توفير الأموال اللازمة، من الأطراف الدولية والعربية، لإعادة الإعمار، وتأمين إمكان دخول المواد اللازمة لها، وبناء شبكات الكهرباء والمياه والهاتف وخطوط النقل، والنهوض بالمؤسسات الاقتصادية، وتوفير موارد لتمكين الفلسطينيين من تأمين قوت يومهم.
ثالثاً، فرض شكل معيّن من الترتيبات الأمنية، لإعادة الاستقرار للقطاع، وتوفير الأمن والطمأنينة للناس، بعد كل ما مرّوا به من أهوال، ما يتطلّب أفقاً أفضل بين الأطراف الفلسطينية المعنية، وضمنه ربما الاستعانة بأطراف عربية، لإغلاق الطريق على الأطراف الدولية، وعلى مراهنة إسرائيل، أيضاً، ترك القطاع للفوضى والاضطراب، لتبرير تدخّلاتها.
رابعاً، البعد السياسي/ السلطوي، على غاية الأهمية، وثمة العديد من السيناريوهات/ الخيارات، ضمنها، أولاً، عودة إسرائيل إلى احتلال القطاع، والاستيطان فيه. ثانياً، خروج إسرائيل من القطاع كلياً، أو جزئياً، وتوفير قيادة موالية لها. ثالثاً، قيام السلطة الفلسطينية بالسيطرة على قطاع غزة، وتحمّل مسؤوليته. رابعاً، خلق واقع من سلطة مشتركة تكون حماس طرفاً فيها (بشكل مباشر أو غير مباشر). خامساً، إيجاد قوة دولية أو عربية او مختلطة لإدارة القطاع.
وفي الواقع، فإنّ كل تلك السيناريوهات لا معنى واقعياً لها اليوم، وهي تشيع نوعاً من الاضطراب بين الفلسطينيين، لأن الأولوية لوقف الحرب المدمّرة، وخروج إسرائيل من القطاع، وقطع الطريق عليها للهيمنة عليه، ومعاودة حصاره، لكن ذلك لا يعفي الفصائل الفلسطينية (خصوصاً فتح وحماس) من الإقلاع عن سياسة المناكفة والمنافسة في ما بينهما، وتغليب طابعهما كحركة تحرّر وطني، بدل طابع السلطة، بوضع مصلحة الشعب الفلسطيني فوق مصلحة الفصائل.
في كل الأحوال، فإنّ الحركة الوطنية الفلسطينية، والقضية الفلسطينية، والشعب الفلسطيني اليوم إزاء لحظة اختبار خطيرة، وفريدة، وثمة ملاحظات ثلاث هنا:
1)، إن مقاومة الفلسطينيين ضدّ إسرائيل الاستعمارية والعنصرية والاستيطانية ستتواصل، بشكل أو بآخر، مع حماس أو فتح او الجبهات أو من دونهما، طالما بقيت إسرائيل على ذلك.
2)، إنّ الأولوية ليست للفصائل، وإنما للشعب الفلسطيني، ما يفترض أن تدركه القيادات وتعمل وفقاً له، بدل التصرّف كسلطة، في حين السلطة من النهر إلى البحر هي لإسرائيل، بوجود كيان فلسطيني ومن دونه.
3)، لا يوجد لدى الفلسطينيين الإمكانات ولا القدرات لمعالجة المسائل الملحّة لليوم التالي للحرب، لوحدهم، بمعنى أنهم سيكونون تحت رحمة الشروط الدولية والإقليمية والعربية لفرض معادلات فلسطينية جديدة، وهذا ما يجب إدراكه والتحضّر له بطريقة إيجابية، أي تضمن بقاء الشعب الفلسطيني وتمكينه من الصمود في أرضه.
السؤال، ماذا ستفعل، أو كيف ستتصرّف، حركة حماس إزاء كل ذلك؟ وماذا في إمكانها أن تفعل؟ فهي في هذا الوضع ستقف بين حدّي معادلة، بين التجاوب مع مصالح المجتمع الفلسطيني في غزة، أو مصلحتها في البقاء كسلطة فيها، وهي معادلة صعبة، هذا إذا افترضنا سيناريو نجاح حركة حماس في تفويت الاستهدافات الإسرائيلية. أيضاً، في هذا الوضع ما الذي ستفعله القيادة الفلسطينية؟ وهي قيادة المنظمة والسلطة وفتح، هل ستبقى تتفرج على هذا الوضع، أم ستحاول التصرف بمسؤولية، من خلال العمل على إعادة بناء البيت الفلسطيني (المنظمة والسلطة) وفق رؤية وطنية تضمن استعادة التطابق بين الشعب والأرض والقضية، ووفق مفهوم التحرّر الوطني، واستثمار التحولات في الرأي العام الدولي، لصالح الأجندة الوطنية للشعب الفلسطيني كله.
اليوم، سؤال المصير الفلسطيني يطرح نفسه بإلحاح على كل القيادات الفلسطينية، ويتطلّب التعامل معه بمسؤولية وجدّية، إذ بناءً على ذلك ستتوقف مآلات الحركة الوطنية والسلطة ومنظمة التحرير، بل ومصير قضية فلسطين، ومكانة الشعب الفلسطيني، للمدى المنظور.
* كاتب وباحث فلسطيني
المصدر: النهار العربي