سهيل كيوان *
جاء إعلان وزير الحرب المطلوب للعدالة الدولية يوآف غالانت، أنّ أيّ نظام عربي يزعم بأنّه وُعد بدولة فلسطينية مقابل التطبيع مع إسرائيل، فهو يكذب على شعبه، وهذا من باب توضيح الواضح، ويدركه الجميع.
جاء تصريح غالانت في خضم الحديث عن بنود اتفاقية الدفاع المشترك بين أمريكا والسّعودية التي تشترط فيها أمريكا على السّعودية التطبيع مع إسرائيل، وتحاول السّعودية أن تظهر ولو بصورة ضبابية أو رمزية، أنّ هناك وعداً أمريكياً بحل يقوم على أساس الدولتين كواحد من شروط اتفاقية الدفاع المشترك، ولكن غالانت أراد القول لجمهور حكومته أوّلا، ولأمريكا وللعرب وللفلسطينيين، إنّ الحديث عن دولة فلسطينية هو أضغاث أحلام، ولو تلميحاً، ومن يريد تطبيعاً بغير شروط فأهلا وسهلا به، ومن لا يريد التطبيع كما تريده إسرائيل، فهذا شأنه، ولا حاجة للكذب والتضليل.
رسالة غالانت لا تستثني الإضرار بجهود جو بايدن لخدمة إسرائيل، بإقامة شبكات دفاع مشتركة تحت سيطرة أمريكية مع دول المنطقة، تفضي في المحصلة إلى الدفاع عن مصالح أمريكا وبضمنها سلامة إسرائيل، وهو ما فعلته أنظمة الأردن والسعودية في العلن، خلال الهجمة الإيرانية على إسرائيل! إعلان غالانت، يعني أن القرار في إسرائيل قد اتخذ ويجري العمل بموجبه، وهو الحل النهائي للمسألة الذي يعتمد أساساً على التخلّص من أكبر أعداد ممكنة من الفلسطينيين، وتدمير البنى التحتية بحيث تصبح الحياة مستحيلة، وهذا يشمل قتل واغتيال الكوادر والنُّخب الاجتماعية في مختلف المجالات. تصريح غالانت تؤيّده الغالبية السّاحقة من المجتمع الإسرائيلي، الذي بات يمارس ديكتاتورية الشّارع، بحيث لم تعد الحكومة في حاجة إلى سنّ قوانين لتطبيق ديكتاتوريتها ضد معارضيها، أو ضد العرب بشتى أصنافهم، المجتمع يقوم بالدور الذي يشتهيه الديكتاتور وزمرته من مجرمي الحرب، فقد باتت غالبية الشّعب مؤيّدة، وتؤمن بالحلول التي يطرحها نتنياهو وحكومته، وتلاشت الأصوات التي كانت تبدي استعداداً للوصول إلى حلٍّ وسط، يضمن شبه دولة للفلسطينيين (من غير القدس ومن غير جيش، ومن غير إخلاء للمستوطنات الكبيرة)، وإنهاء حالة الصراع. حتى عائلات الأسرى والرّهائن الإسرائيليين، الذين يفترض أن تُحترم رغبتُهم ومطالبُهم في عقد صفقة، يجدون صعوبة كبيرة في التّعبير عن موقفهم ويتعرّضون إلى قمع الشُّرطة والغوغاء. الأغلبية الساحقة ترى في دفع الفلسطينيين إلى الهجرة من وطنهم، عملا لا مفر منه، وإلا تحوّلت البلاد إلى دولة ثنائية القومية، تميل ديموغرافياً لصالح العرب، ويرون أنّ الفرصة باتت مواتية، لتنفيذ هذا الحلم، مهما كان من أصوات معترضة في العالم. في بداية حملته العسكرية، لاقى نتنياهو دعماً كبيراً من دول كثيرة، وعلى رأسها الولايات المتحدة، وبدأ في تنفيذ الحلّ النهائي، ورأى وما زال يرى أن تهجير الفلسطينيين أمرٌ يمكن تنفيذه، وضرب مثلاً ملايين السّوريين المهجّرين من وطنهم، فإذا كانت هجرة السّوريين مقبولة وتدعمها ويسّرتها دولٌ كثيرة وكبيرة، فليس عليه سوى فرض هذا الحلّ وجعله أمراً واقعاً، من خلال الإمعان في القتل والتنكيل والتجويع والتدمير واغتيال نُخب المجتمع الفلسطيني، حتى تتحوّل الهِجرة إلى رغبة فلسطينية شاملة، وتسهيلها بدعم الدول الحليفة في المنطقة. رافق هذه الحملة توصيف المقاومة الفلسطينية بالنازية وداعش، لتبرير جرائم الحرب وتجنيد العالم الذي سبق وتجنّد في مواجهة داعش والنازية. إلا أنّ معاملة المقاومة للأسرى والرهائن الإسرائيليين، وما شهد بعضهم به، شكّل وقفة تفكير لدى الكثيرين من توصيفات نتنياهو، والأمر الحاسم هو شراسة المقاومة المستمرّة، واستبسالها وصمود القاعدة الشّعبية، رغم الفقد الهائل في الأنفس والأموال، والمعاناة التي لا توصف، أحبط حلم نتنياهو، ووجد نفسه في وسط الطريق، فلا هو استطاع هزْم المقاومة، ولا هو قادر على وقف القتال من غير تحقيق أهدافه المعلنة، وغير المعلنة، لأنّ هذا سيعتبر انتصاراً مُلهِماً لنهج المقاومة، لبقية الشّعب الفلسطيني ولشعوب عربية أخرى، وسيكون شارة فخر واعتزاز لداعمي المقاومة في المنطقة، وركلة على القفا لنهج الاستسلام والتطبيع المجاني. إصراره يلتقي مع محاولته المستميتة للتهرّب من نهايته السياسية التي سوف تُحسم إذا توقّف القتال،
الذي يعني تفكّك ائتلافه والتوجُّه إلى انتخابات من المؤكد أنها ستطيح به. سوف يُظهر نتنياهو نفسه كمن ضحّى بنفسه لأجل الشعب الإسرائيلي، وأنّ قرار محكمة العدل الدولية يستهدف إسرائيل كلّها من خلاله، وليس نتنياهو ووزير حربه فقط، وهذا ما صرّح به، ومن المرجّح أن يلقى تعاطفاً شعبياً مؤقّتاً، ولكن هذا لا يعني عدم محاسبته على الفشل العسكري، حتى المعارضة هبّت لإدانة محكمة العدل الدّولية بحجّة أنّها «ساوت بين قادة حماس وقادة إسرائيل»، فالمعارضة تخشى ردة فعل الشارع إذا ما أدانت نتنياهو في هذا الجانب، وتتعامل بحذر مع الموقف، بحيث تبقى مبدية العداء الكبير للمقاومة ومن يدعهما، والرغبة في القضاء عليها، وفي الوقت ذاته أن لا تخسر حلفاء إسرائيل من العرب والعالم، خصوصاً المظلّة الأمريكية بشقيها الديمقراطي والجمهوري، وهذا موقف تبنته أمريكا واعتبرت القرار شائنا.
تصريح غالانت، رسالة إلى الشّعوب العربية وإلى الشّعب الفلسطيني وإلى قيادة سلطة رام الله، وإلى أهالي قطاع غزة، وإلى شعوب العالم قاطبة، لن تقوم دولة فلسطينية، وعلى العرب والعالم الاستسلام لهذا الواقع، وهو إعلان بأن إسرائيل مستعدة لمواجهة كل الضّغوطات، بما في ذلك قطع العلاقات مع دول مطبّعة، أو عقدت اتفاقات سلام، وعلى هذه الدول أن تشكر إسرائيل على ما تقدّمه لها في السِّر والعلن من خدمات للمحافظة على أنظمتها، سواء من خلال يد إسرائيل المباشرة، أو من خلال نفوذها في اتخاذ القرارات الأمريكية، ومن لا يعجبه هذا، فليفعل ما يحلو له. حكومة الاحتلال تهدّد بايدن من خلال اللوبي الصهيوني، وعليه دائماً أن يثبت بأنّه صهيوني أكثر منهم، وكما صرّح هو في أكثر من مناسبة. وهو بدوره يعتقد بأنّه قادر على إمساك العصا من الوسط، بأن يمنع قيام دولة فلسطينية حقيقية، وفي الوقت ذاته أن يبث وهماً بأنّه يسعى إلى حل الدولتين استرضاء وتغطية للحلفاء العرب، في منافسة مع الجمهوري ترامب الذي يعلن عداء واضحا وصريحا أكبر للفلسطينيين، بمن فيهم سلطة رام الله، وبعدم قبول وجود دولة أخرى بين النهر والبحر بلا لف ولا دوران. مذكرة الاعتقال ضربة معنوية كبيرة، رغم محاولات التخفيف من حدّتها، وهي علامة لتغير دولي جذري في النظر الى إسرائيل ككيان ليس فوق القوانين، ويعني القدرة على مواجهة العنصرية ومجرمي الحرب مهما طال الزّمن، وهي إشارة بأنه يمكن إعادة العالم إلى توازنه ووعيه الإنساني بعد غياب طويل مُكلفٍ جدّا، دفع ثمنه الشّعب الفلسطيني وشعوب المنطقة وما زالت تدفعه.
* كاتب فلسطيني
المصدر: القدس العربي
ش