أحمد مظهر سعدو
ما انفكت تعيش المسألة السورية وبعد ثلاث عشرة سنة من عمر الثورة السورية، وولوجها في العام الرابع عشر، حالة من الفوات والتعثر، والكثير من التشظي والتذرر، داخل منحنيات العمل الوطني المعارض. يعود ذلك إلى بواعث وعوامل متعددة، ليس آخرها العامل الأيديولوجي، والتعدد الإثني والطائفي، بل لعل من أهمها التضاد الأيديولوجي، والصراعات الفكرية السياسية التي وسمت المرحلة السابقة، وأودت بها إلى حالة من التحاجز والتنافر الأيديولوجي، ترك آثاره السلبية الكبرى والعميقة، وأدى إلى شرخ شاقولي ليس له قرار.
حيث حفر ذلك ومازال يحفر عميقًا، ضمن الواقع السوري، وفعل فعله بحيث خلق حالات كثيرة من التمترس وراء مسائل يُفترض ألا تكون معيقًا جديًا في سياق العمل الدؤوب والمفترض من أجل وحدة الفصائل، أو إمكانية لقاء القوى السياسية والأيديولوجية الكثيرة والمتعددة.
في أتون هذه التعددية الأيديولوجية المتنافرة والمتصارعة، والمتوفرة بكثرة عبر التاريخ الحديث للشعب السوري، يمكن التوقف وإلقاء الضوء على خريطة التنوع الأيديولوجي، والتضاد الفكري والأيديولوجي، إن صح التعبير، نذكر منها:
– الأيديولوجيا القومية العربية، حيث يعتبر الشعب السوري في معظمه ينتمي إليها، رغم الخلافات الشاقولية والمتنوعة بينها، من بعثية على تعددها، إلى ناصرية مختلفة التموضعات والانتماءات، ولعل ما جعل الأيديولوجيا القومية العربية منتكسة ومتراجعة، وتعيش حالة من الضياع وعدم التماسك، هو ما فعلته بها سلطات وأنظمة الاستبداد والطغيان الديكتاتوري البعثي الذي ترك آثاره الجمة والبائسة على مجمل الواقع السوري، بل على امتداد المشرق العربي برمته، ولعل حالة الاستبداد هذه، كانت من العوامل الرئيسية التي ساهمت وأدت إلى ثورة الشعب السوري، في انتفاضة وثورة كبرى اقتلعت الكثير من جذور الأيديولوجيات القومية، حيث راح العديد من السوريين غير قادر على عدم الربط بين الاستبداد والقومية العربية، رغم تمظهر الكثير من أهل القومية العربية الديمقراطيين الذين شاركوا ومازالوا يشاركون، بشكل فعلي وميداني، في ثورة الحرية والكرامة ضد المستبد الأكبر البعثي بشار حافظ الأسد الذي خطف الوطن السوري، بعد أبيه إلى مآلات أخرى، ساهمت في خراب سورية، وقتل الشعب السوري واستخدام السلاح الكيماوي في مواجهة السوريين، وتهجير أكثر من نصف الشعب السوري إلى نازحين في الشمال السوري، أو مهجرين قسريًا في بقاع الدنيا كلها.
– أما أيديولوجيا الإسلام السياسي، على تعدد مشاربها، بين الإخواني والسلفي، والسلفي الجهادي، وما تفرع عنها هنا أو هناك، وعلى هوامشهما، وحيث الواقع الشعبي السوري يعتبر واقعًا متدينًا وأكثر قربًا من التمسك بالإسلام كدين وعقيدة، من هذا المنحى فقد استطاع الإسلام السياسي كتيار، أن يشد الناس إليه، وازداد ذلك اضطرادًا مع بدايات الثورة السورية، وخاصة بعد بدء المقتلة الأسدية بحق السوريين، التي نزلت فوق رؤوس البلاد والعباد، وهي التي أخذت في بعض الأحيان طابعًا طائفيًا، سهَّل على تيار وأيديولوجيا الإسلام السياسي تمدده وانتشاره على مساحات مجتمعية سورية عريضة، وسمت حالات كثيرة في الجغرافيا السورية.
المشكلة الأساس في أيديولوجيا الإسلام السياسي أنها تمتاز بالتعصب وعدم قبول الآخر، أو أنها لا تقبل بوجود الآخر إلا من خلال وجوده كملحق بها وتابع لسياساتها، ومن أجل تلوين اللوحة ليس إلا، وهذا ما ساهم بشكل حقيقي بما آلت إليه أوضاع الثورة السورية من تشظٍ وضياعٍ ولا جدوى.
– الأيديولوجيا الماركسية، متنوعة متشظية هي الأخرى، مع أنها تمتلك رؤيا سياسية وأجسامًا تنظيمية كثيرة، لكنها مازالت متمدرسة وراء تفكير ماركسي عفا عليه الزمن، وتجاوزته الأيام، وثبت فشله ليس في سورية فحسب، بل في العالم أجمع، وأوله في الاتحاد السوفييتي والدول الأوروبية الشرقية، التي انهارت في تسعينيات القرن الفائت، بينما ما يزال أصحاب هذه الأيديولوجيا في سوريا يعتقدون بمستقبل مأمول للمادية التاريخية، والمادية الجدلية، وديكتاتورية البروليتاريا، وهي أي الأيديولوجيا الماركسية لا تمتلك بعدًا شعبيًا ولا جماهيريًا، لأن المجتمع السوري الشعبي والعربي عمومًا، وكما أسلفنا يعيش بصبغة التدين، وهو قريب للإيمان بالأديان السماوية، ومن ثم فهناك صعوبة جمة في إمكانية أن يتقبل هذا الفكر الماركسي اللاديني، ومن ذلك فقد بقيت هذه الأيدولوجيا، كما بقي معتنقيها وأصحابها نخبًا سياسية وطنيين وواعين للواقع السوري لكنهم غير قادرين على الامتداد الشعبي. وأما من حاول منهم التحرك نحو (اللبرلة) فقد ذهب بعيدًا في ليبراليته، وتمسكه التغييري الجديد في المسألة الليبرالية، حتى أن البعض منهم ظن أنه لابد من التخلي، أو قد تخلى عن الأيديولوجيا الماركسية بقضها وقضيضها، ومنهم من غير اسم التنظيم او الحزب الذي ينتمي إليه، كي يتماشى مع ليبراليته الجديدة، ويتمكن بالضرورة من التوجه غربًا، بعد أن كانت كل اتجاهه (سابقًا) شرقًا. حيث إذا غيمت في موسكو لابد أن يرفع المظلة في دمشق قبل أن تمطر.
– أصحاب الأيديولوجيا الليبرالية، الذين ازدادوا اتساعًا وفسحة مجتمعية، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وهم اليوم يحاولون الانفتاح أكثر على الواقع الغربي الليبرالي، ويتمسحون بالأمريكان والأوربيين بعيدًا عن الخصوصية والجذور السورية، التي كانت ومازالت هي الأكثر حاجة للحريات، (التي انقض عليها نظام الاستبداد الأسدي، فلا هو أقام دولة الاشتراكية المُدَّعاة، ولا هو سهَّل قيام دولة الوحدة العربية، في وقت حكم فيه حزب البعث في كل من بغداد ودمشق الجارتين). لذلك فإن وعي الحريات الشعبي، قد ينتج الكثير، فيما لو تمكن أصحاب هذه الأيديولوجيا، من اقتناص الفرص وملء الفراغ، لكن واقعهم ليس كذلك، فمازالوا لا يمتلكون حالة شعبية جدية تمكنهم من ذلك، نتيجة بعدهم وعدم اقترابهم من الناس، وبقائهم يحلقون في فضاءات ليست حقيقية ولا معبرة عن الواقع.
– وهنا يجب ألا ننسى الأيديولوجية القومية الكوردية، التي ما برحت تمتاز بالشوفينية المتعصبة في معظم حالاتها، ويحصل داخلها الكثير من الانزياح الكردي، من إسلام سياسي، إلى ماركسية إقصائية، دون استطاعتها أن تبني لنفسها، واقعًا وفضاءً فكريًا قوميًا كرديًا يُمكِّنها من تشكيل كتلة متماسكة أيديولوجيًا وقوميًا. ومن ثم يكون لها الدور الأبرز داخل الجغرافيا السورية، وليس خارجها.
ضمن هذا الواقع المتعدد من الأيديولوجيات، وعلى هديهِ، ومساراته، تحركت ثورة السوريين، ثورة الحرية والكرامة، وهي ما زالت تخرج من انتكاس، إثر انتكاس، نتيجة لهذا التذرر والانقسام الشاقولي الإيديولوجي، الذي حال دون توحدها، أو حتى لقائها على أرضية وطنية سورية ديمقراطية يكون باستطاعتها التأسيس لعقد اجتماعي وطني سوري، يجمع الجميع، وما زالت إحدى إشكالات التوحد واللقاءات التقاربية الكبرى، هي عقدة الأيديولوجيا، صعبة التفكيك، التي تحول دون اللقاء والجمع، وصولًا إلى قيام تنظيمات وطنية قوية ممسكة بوطنيتها السورية أولًا، قبل الانشغال بالأيديولوجيات الأخرى، التي يفترض أن لا تكون معيقًا، أو على الأقل أن تقف حائلًا دون وحدتها واجتماعها الوطني من أجل سوريا الموحدة والتي مازالت مفتقدة ومبعثرة ومتشظية بكل أسف.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا