مصطفى عطية جمعة *
السؤال المحوري هنا: ما علاقة الرواية بالوعي والمشاعر الإنسانية والزمن؟ ربما يتبادر إلى الذهن أن السؤال سهل، وإجابته أكثر سهولة، بل هي مكررة، بأن الرواية تعبير عن الإنسان ومشاعره، وهذا أمر حتمي. لكن الهدف من السؤال هو البحث في البعد النفسي الذي يعبر عنه الأدب عامة، وفن الرواية بشكل خاص، وهذا يتأتى بالنظر إلى تجربة المبدع نفسه، فحالة الإبداع عنده هي عملية نفسية عقلية، تتصل بالموهبة الاستثنائية التي وهبها الله للروائي. وكما يشير علماء النفس إلى أن الإبداع حالة وسطى بين الوعي واللاوعي، أو هو حالة فوق الوعي تلامس حالة الباراسكولوجي، التي تجعل وعي المبدع فوق وعي الناس، ويتجاوز الوعي العادي.
فالروائي شخص عادي في حياته، يأكل ويشرب ويمارس طقوس حياته المألوفة، لكنه يملك رؤية تقرأ واقع الناس، ويملك أنامل تعيد صياغة هذا الواقع، ويملك خيالا يجعله يمزج بين عناصر الواقع، ويؤلف في ما بينها، من أجل تقديم عالم قصصي، يقنع به قارئه. وتلك هي حالة «فوق الوعي» لا تعني أن يكون استثناء على القاعدة، وإنما يجعل موهبته سبيلا لإعادة تصوير الواقع على الورق. وستكون إجابة السؤال المتقدم أن الروائي يعبر عن نفسه، وعن مجتمعه، يسجل ما استفز مشاعره في ضوء ما عاشه في الواقع، وتعامل به مع الناس، فموهبته يعبر بها عن ذاته، وعن مجتمعه. وبالطبع هناك بعض التطرف من قبل بعض الروائيين عندما ينكبون على ذواتهم، يكتبونها، وينعزلون بها عن الواقع والمجتمع، وهناك من الروائيين من يمتزج بالناس امتزاجا، منكرا ذاته وتجاربه، ويصبح همه التعبير عن مشكلاتهم وتصوير حياتهم، على قناعة منه أنه صوت أدبي لمن لا يمتلك موهبة القلم.
وهنا نود التأكيد على أنه لا ضير من أن يخرج الروائي ما تجيش به نفسه، وهذا لا يعني أنه منفصل عن مجتمعه، بل يفيض بما تستشعره ذاته في تفاعلها وإحساسها النفسي مع الناس في مجتمعه، وأيضا في عالمه الإنساني، فالمبدع يكون في حالة بينية: بين حالة (أنا) الذاتية والخاصة به كمبدع، وحالة قارئه ومجتمعه، الذي نعبر عنهم بالضمير (هم) وما أروعه عندما يجعل من ذاته ميدانا لمجتمعه الإنساني! فلدى المبدع دافع الاستقلال الذاتي والأحكام العقلية في التفكير؛ إذ إن المبدع راغب في التفتح على ذاته، وتنمية إمكانياته الإبداعية، بحثا عن مصادر الصدق واليقين، ويشترك معه في هذا سائر المبدعين في مجالات شتى، ويمتاز في ذلك بدافع الأصالة والابتكار والتعبير عما تزخر به نفسه، ولهذا فهو نزّاع إلى كل جديد. بجانب دافع الإحساس بالمسؤولية الاجتماعية للأديب نحو محيطه الاجتماعي. فلا قيمة لنص روائي ينأى عن هموم القارئ، ومتطلباته النفسية والفكرية والجمالية، فإن لم يجد المتلقي ما يرومه فيه، سينصرف عنه. وعندما ننظر إلى جلّ الإبداعات الشعرية والسردية والروائية التي نالت الخلود في التاريخ الإنساني، متضمنة كل ما يشبع حاجة الإنسان وشوقه: للحكمة، والجمال، والخيال، وإشباع الذوق والمشاعر والأحاسيس، أي أنها تعبر عنه بوقائعها، وترشده بحكمتها.
وهو ما يتسق مع تعريف الأدب وفق رؤية محمد مندور بأنه: كل ما يثير فينا بفضل خصائص صياغته إحساسات جمالية أو انفعالات عاطفية، أو هما معا، فإذا فقد القيم الجمالية؛ فقدَ كونه أدبا، ولا بد أن يتضمن الأدب انفعالات العاطفة، حتى لو كان قائما على الفكر، فلا بد أن يحرك وجدان الإنسان.
وفقا لهذا التعريف فإن الأدب ينتصب على أعمدة ثلاثة: الانفعال العاطفي، والبناء الجمالي، والفكر، وكلها تشكل النص. صحيح أن الرواية، مثلا، هي بنية نصية لغوية، وإذا كان النص اللغوي هو المظهر أو المنتج النهائي لها، فإن هناك ما قبله وهو الذات المبدعة فكرا ونفسا وتصورا وموهبة وصياغة. وهناك ما بعد النص، المتصل بتلقيه، وتأثيراته النفسية والفكرية والجمالية. فحصر النص الروائي في اللغة فقط ؛ يجعل التعامل معه باردا، وإنما تدب الحياة في النص، عندما نشعر بأن الكلمات تفيض في مشاعرنا، والأفكار تغزو عقولنا، والجمال يعبق ذائقتنا، وبذلك يتحقق الأثر النصي لدى المتلقي. وفي منظور آخر، فإن قيمة الأدب تكمن في تعبيره ذي الكثافة الخاصة المرهفة عن الحياة في معانيها المتباينة. وتشكّل الحياة والناس مصادر أو المادة الخام للروائي، يوظفها كما يشاء ويشكلها في نصه. مثلما نرى خامات أي عمل تشكيلي متوافرة في الطبيعة، تنتظر الفنان الذي يأخذ بعضا منها ويبدع عمله التشكيلي بها. فالتلال ممتلئة بالرخام قبل أن تزدهر الدنيا بالتماثيل.
وهذا التعبير عن الحياة لا يعني إلا الإنسان، في علاقته مع الموجودات والطبيعة والكون والفضاء، وأيضا علاقته بذاته الداخلية، والذوات المحيطة به. أما كون الحياة سابقة على الأدب، فهو أمر بدهي، فالرواية، مثلا، تعبر عما هو سابق، أي الزمن الماضي، سواء كان أحداثا تاريخية في الزمن القديم، أو أحداثا آنية؛ صارت بعد انقضاء لحظات، أو ساعات أو أيام عليها زمنا ماضيا. والتشبيه المقدَّم في الاقتباس السابق، يجعل من الحياة الإنسانية شبيهة بالخامات قبل صنع المنحوتة، فالرخام أو الأحجار موجودان في الطبيعة، حتى التقط بعضها نحّات موهوب، وصاغها تشكيلات بديعة. فشخصيات البشر وصراعاتهم؛ كائنة في السابق وفي الحاضر، وأيضا في المستقبل، فيلتقط الروائي بعضها، ليصوغها سردا، ويؤلف بين وقائعها خيالا، وينثرها بأسلوبه اللغوي، وينفث فيها مشاعره وفكره، حتى ينضج نصه، الذي يتلقفه القراء، فإذا وجدوا فيه جزءا من ذواتهم، وبعضا مما يعايشونه في حياتهم، فإنهم يزدادون شغفا به، خاصة إذا غاص في بواطنهم وأدرك كينوناتهم.
* كاتب مصري
المصدر: القدس العربي