معن البياري *
يرتجل هذا التعليق سطورَه، ساعاتٍ قبل إعلان الهيئة الوطنية للانتخابات في مصر الفوز الساحق للمرشّح عبد الفتاح سعيد حسين خليل السيسي على منافسيه الثلاثة (هل من داعٍ لذكر أسمائهم؟) في انتخابات الرئاسة المصرية، ليس لأن الإعلان سيكونُ من لزوم ما لا يلزم، لأن النتيجة محسومة (لماذا جعلتها وكالة فرانس برس “شبه محسومة”؟!)، ولا لأننا صِرنا نعرف أن نسبة المشاركة ستكون أعلى من اللتيْن نسيناهما في انتخابات ولايتَيْ الرئيس السيسي السابقتَيْن، وإنما لأن القصّة كلّها ليست هنا أبدا، لا في الاقتراع المصطنع الذي جرى (في مصر وخارجها)، ولا في نسبة المشاركين التي يترقّب معرفتَها بالضبط بعضٌ ممن يرفلون بمزاجٍ غير مِزاجنا، نحن الذين نحمل السلّم بالعرض، وإنما القصّة في أن هذه الانتخابات محطّةٌ جديدةٌ من انتصارات الثورات العربية المضادّة التي أجهزت على التمارين الديمقراطية بعد ثورات الربيع العربي المغدور. فممّا تطلّع إليه الشعب المصري، كما شقيقُه التونسي، في ثورتيْهما ضد نظامي حسني مبارك وزين العابدين بن علي، أن تنتهي المبايعاتُ الرئاسية على شكل انتخاباتٍ، والقطْع مع تفصيل الدساتير بالتعديلات من النوع إيّاه على مقاس الرئيس المقيم، فتتجدّد له مُدَدُ ولاياته إلى آجالٍ غير منظورة. وغيرُ منسيٍّ أن مبارك، في واحدةٍ من خُطبه أياما قبل إسقاطه، أعلن عن عدم ترشّحه لولايةٍ أخرى. وفعل هذا، قبيْل هروبه إلى السعودية، بن علي الذي كان أبرَع نظرائه العرب في تصنيع الانتخابات الرئاسية التعدّدية، وفي تزبيطه تعديلات الدستور التونسي في متوالياتٍ ظلّت تتجدّد، لتأبيد مُقامِه في قصر قرطاج.
لم يكن مُرضيا لقوى الثورة المضادّة في مصر دستور 2012، لا لشيءٍ إلا لأنه من نواتج حكم الإخوان المسلمين، وهذا غير صحيحٍ، فكان دستور 2014 الذي عيّنت السلطة لجنته من الموالين لها، لكنه أبقى على ولايتيْن لأيِّ رئيسٍ منتخب، مدّة الواحدة أربع سنوات، وبموجبه، وصل مرشّح القوات المسلحة، وهي الظهير الأهم للثورة المضادّة، إلى الرئاسة في العام نفسه، في انتخاباتٍ نالت الأوراقُ الباطلة فيها المنزلة الثانية قبل حمدين صبّاحي، غير أن القوى نفسها، وقد جدّدت وجوهَها وأدواتِها واستعمالاتها الإعلامية، رأت، بعد أن سيقت للمرشّح نفسه، وهو الرئيس السيسي، ولايةٌ ثانية، لمّا حقق فوزَه (الساحق طبعا)، في “انتخابات” 2018، على المرشّح موسى مصطفى موسى (ما زال اسمُه في الذاكرة)، رأت أن ذلك الدستور الذي ركّبته سلطة الانقلاب على ثورة يناير أدّى غرضَه، فلزم تعديلُه ليصير التمديد المطلوب للرئيس المقيم في قصر الاتحادية، والذي (للمفارقة) لم يقدّم لجمهور المقترعين أيّ برنامج انتخابي في المرّتين (وفي الثالثة أيضا)، وأصبحت الرئاسة ستّ سنواتٍ بدلا من أربع، لتجوز للسيسي ولايتان أُخريان من 12 عاما، تبدأ أولاهما بعد إعلان نجاحه (الساحق كما جرى التنويه) في إبريل/ نيسان المقبل.
إذن، لترفع الثوراتُ المضادّةُ بيارقَها عاليةً، مرّةً عاشرة أو ثلاثين أو مائة أو أكثر، وقد تأتّى لها هذا الانتصار الجديد، المعزّزُ بتجريف السياسة وعطالتها، في مصر، بخرابٍ حزبيٍّ فادح، وتردٍّ مهولٍ في أداء المجتمع الأهلي، وقد بلغ الغلاءُ أشدّه، والفقرُ ما ينفكّ يزيد (33% تحت خطّ الفقر)، والضعف أمام إثيوبيا في شأن سدّ النهضة مشهود، والتنازل عن جزيرتي تيران وصنافير إخلالٌ بالقسم الرئاسي، وانتهاكاتُ حقوق الإنسان (مع موتٍ متتابعٍ في السجون ومراكز التوقيف) معلنةٌ في تقارير مؤسّساتٍ حقوقيةٍ مصريةٍ وأجنبية. ومن جديدٍ لا يجوزُ إغفالُه انعدام السيادة الكاملة على معبر رفح، في التواطؤ مع المحتلّ الإسرائيلي القاتل في غزّة، عندما تنتظر السلطاتُ المصرية سماحَه (أو عدم سماحه) بخروج أي إنسانٍ من القطاع، ولو كان مصريّ الأرومة أو مجنّسا، أو فلسطينيا جريحا أو سليما، وعندما تنتظر إذْن المحتلّ (أو عدم إذنه) لدخول (أو عدم دخول) أيّ شاحنة مساعداتٍ إلى هناك…
يحسُن أن يُنظَر إلى واقعة ما سمّيت انتخاباتٍ رئاسيةً في مصر، لتأمين ولاية جديدة (لا يقولون إنها ثالثة!) للرئيس، من زاوية الانتصار المظفّر للثورات العربية المضادّة، ولا رهان إلا على التاريخ والشعوب العربية لإنهائه، في موعدٍ قريبٍ أو بعيد.
* كاتب وصحفي أردني
المصدر: العربي الجديد